الرحيل إلى شمس يثرب - شوقي بزيع | القصيدة.كوم

شاعرٌ وكاتبٌ لبنانيٌّ تمكَّن من كتابة ما لم يكتب قبله ولا ينبغي لأحدٍ من بعده. حمل بردة عكاظ. حائز على جائزة العويس الثقافية دورة 2016-2017 في مجال الشعر (1951-)


771 | 5 | 0 | 2




هذه الأرضُ فارغةٌ
والصحارى تلوح على الأفق مثل الأغاريد
أو مثل عرسٍ مضى
والفرات ارتدى زينة الليل
وافترشته النجوم
كلُّ شيءٍ ينام على صفحة النهر،
شمس القبور،
انكسار المغنّينَ،
رائحة النخلِ،
هل يذكر النهرُ؟
كانوا يسمّونه وردةَ الميتين
ويمشون خلف المياه إلى آخر العمرِ،
ها هو يمضي بطيئاً
والصبايا تهاديْن فوق المياه البعيدة كالسُفُنِ الورقيةِ
يحملن أحزانهنّ ويذهبْن في الانتظار الطويل
تهبُّ الأغاني على حلمهنّ الجميل
وما زلتُ أرقب تلك الضفاف البعيدة عن شمس يثربَ
أو ظلِّها في الغيوم
لقد نسيتني المواعيدُ في أول الحزن وابتعدتْ
- كم بلغتُ من العمر؟
- عشرين عاماً
ولكن يثرب تنأى
ولا وقت للرملِ،
يثربُ مئذنة الروح
شيءٌ يراوح بيني وبين العصافير،
يا سيدي!
إنني أفرد الآن صدري أمام النجوم
وأسألك المعذرة
أنادي الغيوم التي احتشدت في المساءاتِ
كي تنحني لقدومكْ
وها إنني أرفع الأرض عن شجرٍ في يديكَ
ولكنّ يثرب..
تلك المصونة بالدمع والصلوات،
تحدّقُ بي من بعيدٍ
وترمقني نجمةٌ من وراء الحجبْ
فأشعر أني تقدّمتُ في العمر حتى نهاياتِهِ
وأن هلالاً تقوّس في ظلمة النهدِ وانشقَّ
فارتعش النهرُ،
هل أُسرِجُ النهرَ أم أتراجعُ؟
مولاي إني أرى يثربَ الآن في قاعهِ
وأغمض جفني فلا أبصرُ النهرَ،
لا أبصرُ القاعَ،
لكنني ألمحُ الفارسَ الهاشميَّ القتيل
وألمحُ خيطاً من الدم يمتدُّ من أسفل النهرِ
حتى يوازي النخيل
** **

.. وزينبُ تحصي الرمال وتمضي
تقدَّمها الدمعُ نحو المخيم فاحتشدتْ بالبكاء
وصاحت بأجمل أصواتها:
إن هذي السماءَ محايدةٌ
غير أن العصافير تنحازُ،
من يتقدّمُ للموتِ،
هل أحدٌ في المدينة؟
هل أحدٌ في الرمال؟
أنا زينبُ العربيّةُ أدعو الرجال إلى موتهم
والنساءَ إلى أخذ زينتهنَّ
وأستأذنُ القمر المتردّدَ أن أغلق الأرض،
- سيدتي!
كيف أخرج للحرب دون دليلٍ؟
- هي الحرب جاءت إليك
- ولكنني لا أرى أحداً غير سيفي
وحشرجة العمر،
سيدتي!
هل أقاومُ بالدمع هذا العطش
وهل أقذف النهر نحو المخيمِ،
هل أقذف الرمل نحو السماء؟
وماذا إذا متُّ
ماذا إذا قمتُ
ماذا إذا أنكرتني الدماءُ؟
** **

هذه الأرض فارغةٌ
وأنا وردةُ الرمل،
وأنا وردةُ الرمل،
هل شجرٌ غير صدري يفرِّخُ في هذه البيد؟
لقد نسيتني الحروبُ
ولم تترك الشمسُ ظلاً لجسمي على الأفقِ،

يا طائر العمرِ
ماذا تبقّى من العمر،
هل تذكر امرأةً ذبلت في المواويل
وانطفأ القمحُ في صدرها مثل زينبَ؟

يا طائر العمر
هذا هو القلب يقفز بين جناحيك
فاذهب إلى شمس أحلامهمْ
وقل للتراب الذي ضمّهمْ

إن زينبَ ذاهبةٌ في السواد العظيم
وإن الرياحَ مخضّبةٌ بالغصون القتيلة

ويا طائر العمر
خذني هواءً لرحلتك المستحيلة

إن تلك الأغاني التي يبستْ في وجوه المغنّين
تثقل جفنيَّ بالموت أو بالغناء

لقد ذبلتْ وردة العين منذ سنين
فمن أين ينبت هذا الذي يشبه الدمع،
من أين تأتي صحارى البكاءْ؟
سأركض فوق القبور التي مات أهلي على جذعها
أقول لها: يا قبورُ اسمعيني
اسمعي وقع صفصافتي في الهواءْ
فإن أزهرتْ في الظلام القبورُ
ونادى المنادي بأن الذي يُمطرُ اليومَ جرح السماءْ
سأزرع ريحانةً في طريق الرياح التي حملتْ
رجعَ صوتي إلى كربلاءْ
** **

وحدَها تحت شمس الخيام
أومأتْ للندى
فأتاها على صهوة الصبح
وانتشرت في براري الكلام
فلما دنا الليل ألقتْ على وجهها نظرةً
فاستوى النهرُ بين يديها
ونادت أخاها
فنادى الحصى خلفها
والرياحين
والفرس الهاشمية نادتْ
وشمس الأكفّ ووضّاؤها
والمناديل
واحتبس الماء خلف ينابيعهِ
والكواكب أفضت بأسرارها للترابِ
فهبّتْ على الخَلقِ ريحٌ زؤام
- كم بلغتُ من العمر؟
- خمسين عاماً
ويثرب تنأى فتسكنها وحشة الأنبياء
وزينب تخضرُّ في الرمل
ثم تغنّي
فتأتي العصافيرُ
والأرض تصبح بيضاءَ مثل المواويل
أو مثل نهرٍ دفينٍ
وزينب تبكي
وتبكي
وتبكي
ولكن يثرب تنأى إلى أبد الآبدين





الآراء (0)   


الموقع مهدد بالإغلاق نظراً لعجز الدعم المادي عن تغطية تكاليف الموقع.

يمكنك دعمنا ولو بمبلغ بسيط لإبقاء الموقع حياً.




قمصان يوسف
( 11.4k | 5 | 6 )
جبل الباروك
( 9.6k | 5 | 5 )
مرثية الغبار
( 7.2k | 0 | 9 )
الشاعر
( 6.7k | 0 | 1 )
العائد
( 5.2k | 0 | 1 )
الأربعون
( 4.6k | 0 | 4 )
لا تبتعد في الموت أكثر
( 4.2k | 0 | 6 )
المسيني
( 3.9k | 5 | 3 )
حوار مع ديك الجن
( 3.7k | 0 | 1 )
الأعمال الكاملة
( 3.6k | 0 | 1 )
تجليات المرأة
( 3.6k | 5 | 2 )
صوتها ضُمّة برق فوق نيسان
( 3.6k | 0 | 5 )
فراشات لابتسامة بوذا
( 3.4k | 0 | 2 )
وما أنا إلّا فلذةٌ من خيالها
( 3.2k | 0 | 2 )
تفاحة الغياب
( 3.1k | 0 | 3 )
سحابة صيف
( 2.8k | 0 | 0 )
حنين
( 2.8k | 5 | 1 )
الخمسون
( 2.8k | 0 | 0 )
البيوت
( 2.8k | 0 | 1 )
دير قانون النهر
( 2.6k | 4 | 1 )
مسافة
( 2.6k | 0 | 0 )
السنديان
( 2.5k | 0 | 0 )
الأسلاف
( 2.4k | 0 | 0 )
الزنزلخت
( 2.4k | 0 | 0 )
الغائب
( 2.4k | 0 | 1 )
تعديل طفيف
( 2.4k | 0 | 0 )
يصغي لأسئلة الأعماق
( 2.4k | 0 | 1 )
خلف دموع الشتاءات
( 2.4k | 0 | 1 )
الصور
( 2.3k | 0 | 0 )
فراديس الوحشة
( 2.3k | 0 | 1 )
تكوين
( 2.3k | 0 | 1 )
عندما يصبح الحبر أعمى
( 2.3k | 0 | 0 )
ماء الغريب
( 2.3k | 0 | 0 )
عزلة الخادمات
( 2.3k | 0 | 0 )
التماثيل
( 2.2k | 0 | 1 )
ألزهايمر
( 2.1k | 0 | 0 )
خالد السكران
( 2.1k | 0 | 0 )
سأحمل صوتك المكسور
( 2.1k | 0 | 1 )
متحف الشمع
( 2k | 0 | 0 )
خلود تنجح في امتحان الموت
( 2k | 0 | 2 )
علي الصغير
( 1.9k | 0 | 0 )
ثلج العام 1958
( 1.9k | 0 | 0 )
الخرّوب
( 1.9k | 0 | 0 )
تأليف-1
( 1.9k | 0 | 0 )
صراخ الأشجار
( 787 | 0 | 0 )
كأنني بحرٌ وأمواجي ورائي
( 412 | 5 | 4 )