الزمان الصغير - أدونيس | القصيدة.كوم

شاعر وناقد ومفكر ومترجم سوري لبناني، قاد الثورة الحداثوية في النصف الثاني من القرن العشرين، مما ترك أثرا كبيرا على الشعر العربي يشبه تأثير إليوت على الشعر الإنجليزي. حائز على جائزة العويس الثقافية دورة 2002-2003 في مجال الإنجاز الثقافي والعلمي. (1930-)


521 | 0 | 0 | 1



إلقاء: أدونيس



"مزمور"

أين تنتهي المسافة، أين يبطلُ الخوف؟

أنادي الفراغَ أفرِّغُ الممتلئ. حتى الصوّانُ رخوٌ، حتى الرملُ يتأصّلُ في الماء – لماذا الطرقُ، لماذا الوصول؟

ضالٌّ ضالٌّ ولن أعود. السقوطُ حالتي وشرطي، الجنّة نقيضي.

إنني عُرسٌ وأعلنُ جاذبيّةَ الموت – أنا الغيمَ ولا يباسَ عندي، أنا الفقرَ ولا غيمَ لي.

أختبئُ وراءَ اللغز، أختبئُ تحت جُبّةِ الفصول وأوصوصُ من فُتوقها. أمنح ُلخطواتي شكلَها وأقولُ للبحر اتْبعني.

والشجرَ أوراقٌ في دفاتري والحجرَ قصائدُ مثلي.

سأكشطُ جلدةَ الأفق حتى ينزفَ ويسيل. سأطيرُ بين الجرح والجرح، نتقاسمُ الفضاء، الموتُ وأنا

نرفعُ بيرقَ المجاعة، الخبزُ وأنا

وغداً أَعْلَقُ بثوبِ الخرافة وأتسلّقُ حائطَ الظلّ. سيعلقُ بي آنذاكَ موكبٌ من مزامير الحجر –

آهِ، أيها الجنونُ يا سيّدي يا مسيحي.

أبحث عن شمسٍ تُقيمُ في العيون، عن عيونٍ ترى الضوءَ كلَّ الضوء.

أبحثُ عن جذع شجرةٍ يصيرُ جسداً، أبحث عما يُعطي للكلمة عضواً جنسياً، وعما يثقبُ السماء.

أبحثُ عما يُعطي للحجر شفاهَ الأطفال، وللتاريخِ قوسَ قُزح، وللأغاني حناجر الشجر.

أبحثُ عمّا يمدُّ التخومَ المتموّجة، التخومَ التي لا تُرى بين البحر والصخر، بين السحاب والرمل، وبين النهار والليل.

أبحثُ عمّا يوحِّدُ نبراتنا – اللهَ وأنا، الشيطانَ وأنا، العالمَ وأنا، وعما يزرعُ بيننا الفتنة.

آهِ، أيها البحث يا وعائي.
** **

"النهار"

أَلنهارُ كسانا
بعباءاتِه القديمَةْ
أَلنهارُ بكانا هنا وبكَانا هناكْ
فاتحاً صدرَهُ للهزيمَةْ
راسِماً شارَةَ الملاكْ
فوق أشلائِنا وخُطانا.
** **

"طريق"

أيَهذا الطريقُ الذي يرفضُ أن يبدأَ
نحن وجهٌ رأى
فأحبَّ النهارَ أحبَّ الحضورْ،
كان في أرضنا إلهٌ نسيناهُ مُذْ نأى
وحرقنا وراءَهُ هيكلَ الشمع والنذورْ.
نحن صُغنا من الغيابْ
صَنَماً من ترابْ
ورجمناه بالحضورْ
بالطّريق الذي كاد أن يبدأَ،
أيهذا الطريقُ الذي يجهلُ أن يبدأَ.
** **

"لا كلماتٌ بيننا"

هل تتركُ الرمالُ أهدابَنا
هل يغسلُ الطوفانُ أرضَ القشورْ؟
تَفَتّتي واحْترقي يا بذورْ
لا كلِماتٌ بيننا لا صَدى -
تهدّمت قبل الطريقِ الجسورْ.
** **

"وداع"

قلنا لكِ الوداعَ من سنينْ
قلنا لكِ المرثيَةَ التائبَةْ،
يا هالة الملائك الميّتين
يا لغة الجرادة الهاربَةْ.

أَلكلماتُ احتَقَنتْ بالوحولْ
أَلكلماتُ ازّيّنتْ بالمخاضْ -
عادَتْ لنا أرحامُنا الغائبَةْ
وها هي الأمطارُ والسيولْ
يا لغة الأنقاضْ
يا هالة الملائكِ الميِّتينْ.
** **

"موت"

نموتُ إن لم نخلقِ الآلهَةْ
نموتُ إن لم نقتلِ الآلهَةْ -
يا ملكوتَ الصخرةِ التائهَةْ.
** **

"الرياح المضيئة"

أَلرياحُ التي تُطفِئُ ، الرياحُ المضيئَةْ
لم تزلْ خلفَنا بطيئَةْ.
نحن والرعبُ في الطريقْ
بَرَدى بيننا والفراتْ
كم حملناهما في القفارْ
رايةً من غبارٍ وغارْ
وهمسناهما صلاةْ -
بَرَدى والفراتْ.
والرياح التي تُطفِئُ ، الرياحُ المضيئَةْ
لم تزلْ خلفنا بطيئَةْ.
** **

"القوقعة"

مَرَّ في أهدابنا وجهُ المدينَةْ
ضائعاً تحت جليد الأقنعَةْ
فهتفْنا
نحن نحيا في تجاويفِ المدينَةْ
كالحلازين وراء القوقعَةْ،
أيّها الرفْضُ اكْتَشِفْنا.
** **

"أرض الغياب"

هي ذي أرض العذابْ
لا غَدٌ آتٍ ولا ريحٌ تُضيءُ
أيُّ صوت سيجيءُ
يا أحبّائيَ في أرض الغيابْ.
** **

"رسالة"

أَلبلادُ التي حلمنا بها وفَتحْنا إليها الطريقْ
أُفقاً جَرحتْه الجفونُ الخجولَةْ،
أمسِ في كبرياء الجنون الصديقْ
واحتضار الطفولَةْ
أمسِ جُعْنا لها ورسَمْنا
صورةً باسمها وهالَةْ
وكتبنا إليها رسالَةْ -
أَلبلادُ التي جَرحتْها الجفونُ الخجولَةْ.
** **

"التائهون"

أَيها التائهونَ الحَيارى
أَلذين يجيئونَ قبل الطريقِ،
أَلذين يجيئونَ قبل النداءْ
باسْمكمْ يتقدَّم فجر السماءْ
ساحراً آخذاً كالحريقِ
ولكم أرضنا وجميلاتُنا العذارى
ولكم، في الرياح العنيدَةْ،
كُتبت هذه القصيدَةْ،
أيّها التائهونَ الحَيارى.
** **

"الضياع"

أَلضياعُ الضياعْ...
أَلضياعُ يخلِّصُنا ويقودُ خطانا
والضياعْ
ألقٌ وسواه القناعْ؛
والضياعُ يوحِّدُنا بسوانا
والضياعُ يعلِّقُ وجهَ البحارْ
برؤانا
والضياعُ انتظارْ.
** **

"عودة الشمس"

أَلقدرُ اهتزَّ على البِحارْ
وانكسرتْ خواتمُ الخرافَةْ
وها هِي الأغوارْ،
فاتْركْ لنا أن نزرعَ الشطآنَ بالمحارْ
أن نُرْسيَ الفلّك على صِنّينْ
واتركْ لنا أن نصعقَ التنّين
يا سيّدَ الخرافَةْ.

وحينما تنتحبُ الأجراسُ والطريقْ
في هجرة الشمس عن المدينَةْ
أيقظْ لنا، يا لهبَ الرّعدِ على التلالْ
أيقظْ لنا فينيقْ -
نهتفْ لرؤيا نارِهِ الحزينَةْ
قبل الضّحى وقبل أن تُقالْ
نحملُ عينيه مع الطريقْ
في عودةِ الشمس إلى المدينَةْ.
** **

"الصخرة العاشقة"

أَلرّحيلُ انتهى والطريقْ
صخْرةٌ عاشقَةْ.
إننا ندفنُ النهار القتيلْ
إننا نكْتسي برياح الفجيعَةْ،
غير أنّا غداً سنهزُّ جذوعَ النخيلْ
وغداً نغسلُ الإله الهزيلْ
بدم الصّاعقَةْ،
ونمدُّ الخيوط الرّفيعَةْ
بين أجفاننا والطريقْ.
** **

"الرايات"

أَلخيوط التي نسجتْها الجذورْ
بين أهدابنا والغبارْ
أُثقلتْ بحطامِ النهارْ
أُثقلتْ بالجسورْ-
هي راياتُنا في رحيل الغُبارْ.
** **

"الطوفان"

إِذهَبي، لا نُريدكِ أن تَرجعي يا حمامَةْ
إنهم أسلموا لحمَهم للصخورْ
وأنا - ها أنا أتقدّمُ نحو القرار السحيقْ
عالِقاً بشراع السفينَةْ.
إنّ طوفانَنا كوكبٌ لا يدورْ
إنه غامرٌ عتيقْ -
ربّما نَتنشَّقُ فيه إلهَ العصور الدَّفينَةْ
فاذهبي، لا نريدُكِ أن ترجعي يا حمامَةْ.
** **

"الزمان الصغير"

أَلسرابُ المُرائي لنا والنهارُ الضَريرْ
ولنا جُثَّةُ الدّليلْ،
نحن جيلَ السفينَةْ
نحن أبناءَ هذا الزمان الصغيرْ.
أسْلمتْنا البحارُ الأمينَةْ
البحارُ التي تُرتِّلُ مرثيّةَ الرّحيلْ
أسْلمَتْنا إلى المتاهْ -

نحن جيلَ الحوارِ الطّويلْ
بين أنقاضِنا والإلهْ.
** **

"المدينة"

نارُنا تتقدّم نحو المدينَةْ
لِتهدّ سريرَ المدينَةْ.
سنهدّ سريرَ المدينَةْ
سنعيشُ ونعبرُ بين السّهامْ
نحو أرض الشفافية الحائرَةْ
خلف ذاك القناع المعلّق بالصخرة الدائرَة.
حول دوّامة الرّعبِ
حول الصدى والكلامْ
وسنغسلُ بطنَ النهار وأمعاءَه وجنينَهْ
وسنحرق ذاك الوجودَ المُرَقَّعَ باسم المدينَةْ
وسنعكسُ وجهَ الحضورِ
وأرضَ المسافاتِ في ناظر المدينَةْ؛
نارُنا تتقدم والعشب يولد في الجمرة الثائرَةْ
نارُنا تتقدّمُ نحو المدينَة.
** **







الآراء (0)   

نحن نمقت الإعلانات، ولا نريد إدراجها في موقعنا، ولكن إدارة هذا الموقع تتطلب وقتاً وجهداً، ولا شيء أفضل لإحياء الجهد من القهوة. إن كنت تحب استخدام هذا الموقع، فما رأيك أن تشتري لنا كاسة قهوة على حسابك من هنا :)