إرم ذات العماد - أدونيس | القصيدة.كوم

شاعر وناقد ومفكر ومترجم سوري لبناني، قاد الثورة الحداثوية في النصف الثاني من القرن العشرين، مما ترك أثرا كبيرا على الشعر العربي يشبه تأثير إليوت على الشعر الإنجليزي. حائز على جائزة الإكليل الذهبي عام 1997، وجائزة العويس الثقافية دورة 2002-2003 في مجال الإنجاز الثقافي والعلمي. (1930-)


1038 | 0 | 0 | 0




"مزمور"

ألهو مع بلادي؛

ألمحُ مستقبلَها آتياً في أهدابِ النعامة. أداعبُ تاريخَها وأيّامَها وأسقطُ عليها صخرةً وصاعقة. وفي الطرف الآخرِ من النهار أبدأُ تاريخَها.

غريبٌ عنكم أنا وفي الطرفِ الآخر. أسكنُ بلاداً خاصةً بي، وفي النومِ واليَقَظةِ أفتحُ برعماً وأعيشُ فيه.

ثمّةَ حاجةٌ لأن يُولدَ شيءٌ ما، لذلك أفتحُ للبرق مغاراتٍ تحتَ جلدي وأبني أعشاشاً. ثمّةَ حاجةٌ لأن أعبرَ كالرعدِ في الشفاهِ الحزينةِ كالقشِّ، بين الحجرِ والخريفِ، بين المسامِّ والبشرة، بين الفخذِ والفخذ.

لهذا أغنّي: "تقدّمْ يا شكلاً يليقُ باحتضارنا".

لهذا أصرخُ وأغنّي: "مَن يعطينا أمومَةَ الفضاء، مَن يغذّينا بالموت؟".

أتقدّمُ صوبَ نفسي وصوبَ الأنقاض. تأخذني سكتةُ الفجيعة – قصيرٌ لأحيطَ بالأرض ِكالحبل، ولستُ حادّاً كما ينبغي لأغوصَ في وجهِ التاريخ.

تريدونِ أن أكونِ مثلكم. تطبخونني في قِدْرِ صلواتكم؛ تمزجونني بحساءِ العساكر وفلفلِ الطاغية، ثم تنصبونني خيمةً للوالي وترفعونَ جمجمتي بيرقاً –

آهِ يا مَوتي،

مع ذلك أجري نحوكَ، أركضُ أركضُ أركضُ إليك.

يفصلكم عني بعدٌ بحجم السراب.

أُهَيِّجُ الضباعَ فيكم وأُهَيِّجُ الآلهة. أزرعُ فيكم الفتنةَ وأُرضِعُ الحمّى، ثم أعلِّمُكم أن تسيروا بلا دليل. إنني قُطبٌ في استواءاتكم وربيعٌ يمشي. إنني ارتجاجٌ في حناجركم، وفي كلماتكم نزيفٌ مني.

تتقدّمون َكالبَرَصِ نحوي، أنا المربوط بترابِكم. لكن لا شيءَ يجمعُ بيننا وكل شيء يفصلنا – فلأحترقْ وحيداً، ولأعبرْ بينكم رمحاً من الضوء.

لا أستطيعُ أن أحيا معكم، لا أستطيعُ أن أحيا إلا معكم. أنتم تموّجٌ في حواسّي ولا مهربَ لي منكم. لكن اصرخوا – البحر، البحر! لكن علِّقوا فوق عتباتِكم خرزَ الشمس.

افتحوا ذاكرتي، تبيّنوا وجهي تحت كلماتِها وتبيّنوا حروفي. حين ترونَ الزبدَ ينسجُ لحمي والحجرَ سائلاً في دمي، ترونني.

مغلقٌ كجذعِ شجرة، حاضرٌ ولا أُقبَضُ كالهواء. هكذا لا أستطيعُ أن أستسلمَ لكم.

وُلِدتُ في محاجرِ الليلك، نشأتُ في مدارِ البروق، وأسكنُ بين الضوء والعشب. أعصفُ وأصحو، ألمعُ وأُغَيِّمُ، وأُمطرُ وأُثلج – الساعاتُ لغتي وبلاديَ النهار.

(الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا) أو كما قيل؛ وأنتم نيامٌ، فإذا انتبهتم مُتُّمْ، أو كما سيُقال.

أنتم وَسَخٌ على زجاج نوافذي ويجب أن أمحوَكم، أنا الصباحَ الآتي والخريطةَ التي ترسم نفسها؛

مع ذلك، في أحشائي حمّى تسهرُ عليكم،

مع ذلك أنتظركم.

في صَدَفِ الليل على البحر،
في تَهادُر اللجّة،
في الثقوبِ التي تملأُ جُبّةَ الفَلَك،
في العُنّابِ والأكاسيا،
في الصنوبر والأرز،
في بطانةِ الموج – في الملحِ
أنتظركم.
** **

"رؤيـا"

ألمحُ بين الكتب الذليلَةْ
في القبّةِ الصفراءْ
مدينةً مثقوبةً تطيرْ
ألمحُ جدراناً من الحريرْ
ونجمةً قتيلَةْ
تسبحُ في قارورةٍ خضراءْ.
ألمحُ تمثالاً من الدّموعْ
من خزَفِ الأشلاءْ والرّكوعْ
في حضرةِ الأميرْ.
** **

"المدينة"

(أصوات)

- "للدُّخانِ انحنت للدُّخانْ
هيَ عوّامةُ الرياحِ.
وجهُها ضفدعٌ ولها إصبعانْ
لن تمسَّ قرونَ الربيعْ
لن تحسَّ بنهر الصباحِ.

إنها بركةُ القطيعْ –
وجهُها واحدٌ ولها سُرّتانْ".
** **

"براءة"

أتّهمُ الأشباحْ
أَتّهمُ الرُّخّ الذي يبيضْ
في كَتِفِ الجنّيةِ العمياءْ؛

أَتّهمُ الرياحْ
والشمعَ والدجاجةَ الخرساءْ؛

أَتّهمُ الثعبانَ ذا الجناحْ
يا للجناحِ الأبرصِ المهيض؛

أَتّهمُ الأشجارَ والمياه-
فأنتِ يا سماءَنا المضيئَةْ
يا زوجةَ السلطان والإلهْ
بريئةٌ من دمنا بريئةْ.
** **

"البغي"

لَنا، لنا شفاهُنا المليئَةْ
بالعالم الغبيّ؛
لنا بقايا الجُثث المضيئَةْ
وأوّلُ الطريق والمحرقَةْ؛
لنَا، لَنا سُقوطُنا الخفيّ
من شُرُفاتِ الجنة المُغْلقَةْ،
يا سِحرُ يا تعويذةً هنيئَةْ
نرسُمها كفّارةٌ وتخْتاً
مُراهقاً لأرضنا البغيّ.
** **

"رُقية"

أنتَ بلا شريانْ
جِلْدُكَ يحيا وحده يدورْ
يغورُ في دوّامةِ القشورْ،
جِلْدُكَ يحيا يابساً عريانْ؛
جِلْدُكَ مطّاطٌ من الكلامْ
يعيشُ منقوشاً على البيوتْ
بالرمل والرخام؛

آتيةٌ أيامُكَ الجرباءْ
في بؤُبُؤَيْ جرادةٍ عمياءْ،
آتيةٌ في جلدِ عنكبوتْ.
** **

"الجثتان"

دفنتُ في أحشائكِ الذليلَةْ
في الرأس والعينين واليدينْ
مئذنةً، دفنتُ جثّتينْ -
الأرضَ والسماءْ،

أيتها القبيلَةْ
يا رَحِمَ الزّيزان يا طاحونةَ الهواءْ.
** **

"العصر الذهبي"

- "جُرّهُ يا شُرطيّ.."
- "سيّدي أعرفُ أن المقصلَةْ
بانتظاري
غير أني شاعرٌ أعبدُ ناري
وأحبّ الجُلْجُلَةْ".

- "جُرَّهُ يا شُرطيّ
قُلْ له إن حذاءَ الشُّرطيّ
هو من وجهكَ أجملْ".

آه يا عصرَ الحذاءِ الذهبيّ
أنت أغلى أنتَ أجملْ.
** **

"الأشياء"

لو أنني أخترقُ الجرحَ إلى الجريمَةْ
لو أنني أموِّهُ الراياتِ والجنونْ،
لكانَ لي قبّعةُ الإخفاءْ
لَكنتُ في النصر وفي الهزيمَةْ
أقتحمُ الحلمَ على الجفونْ
أكونُ في الأرض ولا أكونْ.

لكنني ربطتُ بالأشياءْ
وجهي وأعماقيَ والإلهْ،
رضيتُ أن أحيا بلا تميمَةْ
أن أرسمَ الحياة
بالموت والسّراب والأشياءْ -
رضيتُ أن أحيا مع الأشياءْ.
** **

"تزيّني بالرمل"

تزَيّني بالرّملِ والذّئابْ
يا امرأةَ الرّيحِ الدمشقيّةْ،
لا قمرٌ عندي ولا ثيابْ
لكنني جرؤتُ أن أنامْ
في وجهكِ الميِّتِ كالخليجْ
في وجهكِ المنذورِ للنّشيجْ
يا لغةً ترسو بلا تحيّةْ
في مَرْفأ الكلامْ
يا امرأةَ الرّيحِ الدّمشقيةْ.
** **

"المدينة"

أَلشموعُ انطفأتْ فوق جبيني
أَلشموعُ اشتعلتْ فوق المدينَةْ
والمدينَةْ
رجلٌ لا يعرفُ الضوءُ جبينَهْ.
والمدينةْ
حَجَرٌ ينأى وأشلاءُ سفينَةْ.
** **

"قد تصير بلادي"

ها أنا أتسلّقُ أصعدُ فوق صباحِ بلادي
فوق أنقاضِها وذُراها
ها أنا أتخلّصُ من ثِقَلِ الموتِ فيها
ها أنا أتغرّبُ عنها
لأراها،
فغداً قد تصيرُ بلادي.
** **

"لأرضي"

لأرضيَ أجرحُ هذي العروقَ الرّجيمَةْ
لأرضيَ خبّأتُ بين جراحي
غدي ورياحي،
وأرضيَ عرّافةٌ وتميمَةْ
وأرضيَ مخمورةٌ - كتِفاها
أميران من لؤلؤٍ، وجريمَةْ.
** **

"غبطة الجنون"

هدمتُ قصرَ الرّمل في العيونْ
مَنحْتُ للتّكايا
مجامِرَ الأفيونْ -
مجامرَ الأفيونِ والسّجادَ والمرايا؛
رَجمْتُ وجهَ الصبر والقَبولْ
رَقصتُ للأفولْ
لجثّةِ الإلهْ -
باسْمِكِ يا سحابةَ الأجراسْ
يا عُرُسَ الأنقاضِ واليَباسْ
يا بُقعَ الرّعْبِ على الجباهْ.
** **

"وطن"

لِلْوجوهِ التي تَتيبّسُ تحت قناعِ الكآبَةْ
أنحني؛ لدروبٍ نسيتُ عليها دموعي
لأبٍ ماتَ أخضراً كالسّحابَةْ
وعلى وجههِ شراعُ
أنحني؛ ولطفلٍ يُباعُ
كي يُصلّي وكي يمسحَ الأحذيَةْ-
كلنا في بلادي نصلّي كلنا نمسح الأحذيَةْ
ولِصخرٍ نقشتُ عليه بجوعي
أنّه مَطرٌ يتدحرجُ تحت جفوني وبَرْقُ
ولبيتٍ نقلتُ معي في ضَياعيَ تُرابَهْ
أنحني - هذه كلُّها وَطني، لا دِمشْقُ.
** **

"الوجه البعيد"

حين كسرتُ القِشْرَ والجليدْ
حين قتلتُ القَمَرَ المغطّى بالسِّحرِ والدُّخانْ،
دخلتُ في أغواركِ المُضاءَةْ
بالعُشْبِ والبراءَةْ،
قَرَّبتُ وجهَ العالم البعيدْ.

لستِ على سريريَ المفروشِ بالجنونْ
رَمْليّةَ النُّعاسْ
لستِ معي قَشّاً ولا يَباسْ
يا امْرأةَ الآلامِ والصوّانْ
يا أختَ قاسَيونْ.
** **

"صـوت"

أغنى من الرّعب
أغنى من التمرّدِ المقهورْ
أنتَ، ومن رعدٍ على الصّحراءْ،
يا وطناً مُصَمَّغاً مكسورْ
يسير مشلولَ الخُطى قُربي.
** **

"رؤيـا"

هَرَبتْ مدينتُنا
فركضتُ أسْتجلي مسالكَها
ونظرتُ - لم ألمحْ سوى الأفُقِ
ورأيتُ أن الهاربينَ غداً
والعائدينَ غداً
جسَدٌ أُمَزِّقُهُ على وَرَقي.

ورأيتُ - كان الغيمُ حُنجرةً
والماء جُدراناً من اللَّهَبِ
ورأيتُ خيطاً أصفراً دَبقاً
خيطاً من التاريخ يَعلقُ بي
تجترُّ أيامي وتعقِدُها
وتكرُّها فيهِ - يدٌ وَرِثتْ
جنسَ الدُّمى وسُلالةَ الخِرَقِ.

ودخلتُ في طقسِ الخليقةِ في
رَحِمِ المياه وعُذْرَةِ الشّجَرِ
فرأيتُ أشجاراً تراودني
ورأيتُ بين غُصونها غُرفاً
وأسرّةً وكوىً تُعاندني،
ورأيتُ أطفالاً قرأتُ لهم
رَمْلي، قرأتُ لهم
سُوَرَ الغَمامَ وآيةَ الحَجَرِ؛
ورأيت كيف يسافرون معي
ورأيت كيف تُضيء خلفَهُمُ
بُرَكُ الدّموعِ وجُثّةُ المطرِ.

هَرَبتْ مدينتُنا -
ماذا أنا، ماذا؟ أسنبلةٌ
تبكي لِقُبّرةٍ
ماتتْ وراءَ الثلج والبَردِ
ماتتْ ولم تكشفْ رسائلَها
عني ولم تكتبْ إلى أحدِ،
وسألتُها ورأيتُ جثّتَها
مطروحةً في آخرِ الزّمنِ
وصرختُ - "يا صمتَ الجليد أنا
وطَنٌ لغربتها
وأنا الغريبُ وقبرُها وطني".

هَرَبَتْ مدينتُنا
فرأيتُ كيف تحوّلتْ قَدَمي
نهراً يطوف دماً
ومراكباً تنأى وتتّسعُ
ورأيتُ أن شواطئي غَرَقٌ
يُغوي ومَوجي الريحُ والبجعُ.

هَرَبَتْ مدينتُنا
والرفضُ لؤلؤةٌ مُكَسَّرةٌ
ترسو بقاياها على سفُني
والرفضُ حطّابٌ يعيشُ على
وجهي- يلملمُني ويُشعلني
والرفضُ أبعادٌ تشتّتني
فأرى دمي وأرى وراء دمي
موتي يُحاورني ويتبعُني.

هَرَبَتْ مدينتُنا
فرأيتُ كيف يُضيئني كَفَني
ورأيتُ - ليتَ الموت يُمهلني.
** **

"شدّاد"

عادَ شَدّادُ عادْ
فارْفعوا رايةَ الحنينْ
واتركوا رفضكم إشارَةْ
في طريق السنينْ
فوق هذي الحجارَةْ،
باسمِ ذات العِمادْ.
إنها وطَنُ الرّافضينْ
أَلذين يسوقون أعمارَهم يائسينْ
كسَروا خاتَمَ القَماقمِ
واسْتَهزأوا بالوعيدْ
بجسور السّلامَةْ،
إنها أرضُنا وميراثُنا الوحيدْ
نحنُ أبناءَها المُنظَرينَ ليوم القيامَةْ.
** **





الآراء (0)   

دعمك البسيط يساعدنا على:

- إبقاء الموقع حيّاً
- إبقاء الموقع نظيفاً بلا إعلانات

يمكنك دعمنا بشراء كاسة قهوة لنا من هنا: