فصل شجرة الجلّنار: الحواشي - عبد الودود سيف | القصيدة.كوم

شاعر وناقد وباحث يمني من رواد الأدب الحديث، ترأس العديد من الصحف والمجلات الأدبية (1946-)


404 | 0 | 0 | 0




(1)

(وأنا متعبٌ) ودمي مطبقٌ في خناق دمي. أحتمي بعناد الطلاسم؟ أم أرتمي صوب آخر قُبّرةٍ سوف تسطع جاهشةً من زناد فمي؟
أم أؤجل هذا الدعاء وهذا الدعاء إلى حلمٍ مرجأٍ، سوف يصدح ثانيةً ربما، من رماد شذى الياسمين؟
الطواحينُ عامرةٌ. والسلاطينُ إنْ كسروا أمّةً، أسروا أمةً.
وليكنْ! تلك أحلامهم. هم يخافون عنفَ الشذى، ونعاف صنوفَ الأذى. فلماذا إذا افتتحوا قريةً قاسمونا البطولةَ؟.

إنّ الشجى يستجرُّ الشجى. والرمادُ إذا حاصر الجمر أضرمها عنوةً. فلندعْ (ما لروما) لقيصرها! ولنقلْ إن بعض الرثاء، إذنْ، صالحٌ للهجاءْ.


(2)

(ناهضٌ من دمٍ.. راكضٌ في دمٍ. من أمامي صدى، وورائي عويلْ) وملء فمي المتهاوي هوىً. قلتُ: أسطعُ من زهرةٍ، وأسير على جثة وأجيء أدحرج بينهما قامة المومياءْ.

سأطبعُ في شفة الريح نايا، وأثقب في قِبلة الناي بابْ.
وأدخلُ ممتقعاً بوجوم الأعاصيرِ. إن العصافير نافلةٌ.

والقصيدةُ أطولُ من طلقةٍ، قد تطيشُ، وأطوعُ من رغبةٍ لاتنالْ.
وبيني وبين القصيدة، مابين قلبي وبعض النساءْ:
مواعيدُ آسرها في الصباح، وأعتقها في المساء.
وبيني وبين القصيدة صلحٌ: بأن نتهادى التحايا
ونقلعَ عن نفث أرواحنا في سحائب غيم الدخانْ.
وبيني وبين القصيدة حربٌ: إذا أرجأتها الشكايا
يؤججها الابتهال.
علينا من الآن، حتى انفضاض مواعدنا بالعزاء
بأن نعتق القلبَ من أسر أحزانه
ونطارد ما يتبدّى بنا من كمائن أسمائه
في سواعدنا ومواعدنا وقصائدِنا..
في الأسى المستبدِّ- الذي لم يصرْ بعُد فينا أسىً-
أو بتلك البقايا التي ستُهدُّ بنا تحت أنقاض خنجره
المستطيلْ
* * *

بلادٌ لمن لابلادَ له: حزنُنا المتفائل في حزننا
نحن أبطالهُ. وهو هزج الصدى.
نحنُ أنجاله، يومَ يُورَثُ من لا هوادةَ فيه هوادتَنا
وهو نفحُ مودّتنا، يوم تُجبى لنا وردةٌ (من أقاصي ظلام الحرابْ)
وتسوق مطاي الشذى
نحوها (عرباتِ) الضحايا.. بدون حصانْ.
عليه لنا: أن نوالى السؤال إلى تمتمات السؤالْ
ونأتي نعلّق أجراسها. دونما فديةٍ، في شفاه الجوابْ.
* * *

أقول إذا قلّدتني القصيدةُ في عنق مرثيةٍ: ذلكم وطني!
وأشير إلى طلقةٍ- لم تحطْ بعدُ إكليلها فوق غار دمي-
انهم قادمون ليحنوا ظهور الجياد بكحل السبايا
ويلووا جباه الحصى، فوق عنق الترابْ.
وأرمي لهم كلَّ ماخلعوه لنا من إماءٍ (= عماءٍ)
وأعطيةٍ.. وهدايا
(وموتٍ جزيلْ)
فيمضون من حيثُ جاءوا، وأطبقُ مرثيتي.. وأنام
* * *

أقيموا الولائمَ إن المآتم مكتظةٌ، والعزاءُ قليل
وملء فمي المتهاوي أسىً. وبلادٌ على رأسها الطيرُ
ملئي معابدُ مهجورةٌ. وقصائدُ مذعورةٌ. ووساوسُ لو أوجزتْ ستطيل.
هلموا، إذنْ، لنرّوح بفأس الهتافات عن صمتنا:
(منهم أميرٌ. ومنهم أميرْ).
ونقبعُ خلفَ ستار جدار الأذى
لنفضّ الشجار الذي سوف ينشب، مابينهم، في آتون
هلاك العراك الأخيرْ.

يدوّي النفيرْ
دعوهم فلا توقظوهم. حناجرنا من قذى
ومسامعهم من حرير.
يبدأ الاحتفالْ..

ننادي على المحصنات العرايا
بأن يتسربلنَ كي لايهيّجنَ أبصارنا بالفضول
وندعو الطبول لتبطئَ دقّاتها فوق زجر الطبول
وننهي الأغاني- التي أوجّلتْ في شفاه الأغاني- لكي لاتتمادى وبالراقصات (القواصي الدواني) على حنجراتِ الشماتاتِ أن تنحرَ الحلباتِ المدمّاةِ بالرقصِ.. قبل فواتِ الأوان.
وندعو الخمور ال(تعتّقُ) في ذعرهم، كي تجيء لتشهد إذعانَها تحت رزء الرزايا
وزرء الهوان.
* * *

تُضاءُ المُدى
فنرى جثثاً بُعثرتْ لا رؤوسٌ بها.
ونرى في مداميك أشلائها تمتماتِ أسىً.. ودماء.
وأضرحةً.. وشظايا
بقايا أعيرةٍ. وهديلَ حمامٍ تراكضَ في فزعٍ. وبقايا أحذيةٍ، وأمتعةٍ.. ورقابْ.
كأن المغني شدا:
(ليس مابين "قيس" وبيني عتابْ)
ونادى عليهم، ولم يسمعوه، ونادى عليهم.. ونادى، وتابْ.
نرى حين نرجعُ من صوته في صراخ النداءْ:
مماليك، أوسمةً. معجزاتٍ. هراءً. كوابيس للبيع.
أضرحة للتسلي وأبهة للشراء، هجاءً يغالي بحنجرةٍ في المزادْ.
طبولا تساومه، ألهذا الهباء المبارك اسم؟ وهل لخزائنه مالك؟ ونرى لا نرى في الخواء المرفه إلا الخواء وإلا بنادق ممشوقة في الهواء. وإلا الجماجم مطبقة في اللحى وعواء.
صكوكاً لجبانةٍ ونياشين من غير أرصدةٍ وطواحين فارهةً وهباءْ. نرى وطناً ينهب الكحلُ من جفنه مارأى. ونرى جيفاً يتنابزُ في عفنها إلاخوةُ الشركاء.
أديروا الكؤوس لكي نتغاضى بما ليس فيها بما صار فينا وقولوا إذا أخطأت طلقةُ: ستصيبُ التي ستلي.
والحرابُ التي ليس لي، قد يمد بها أجلي، واصلي الرقصً إن الصدور المعراةَ لا تُقْتَنى مرتين. اقتلي من تشائين، حين تشائين، بين النداء وبين الصدى:
كلمةُ قد تكونْ: (تعالْ)
وقد تستشيطُ بنا حنقاً باطلاً سوف نُدْعى لهُ، حينما ننتهي من حروب المراثيَ، أو ننتهي من دفينٍ أخيرٍ بها، ربما لايكون قتيلْ.
قفوا كي نمدد من أجَلٍ الحرب، بين القصيدة حين يداهمها تعب الاِنفعال وبين فمي المستتبّ على صمته، مثل أعتى الجبالْ
فقوا كي نراودَ امرأةً أسدل الصلحُ، بيني وبين القصيدةِ،
أسماءَها في مواعيدها.
فانتهينا إلى نبشِ أطماره، في محاولة دفنٍ أخيرٍ، كتبنا على قبره: “الحروبُ هوىً والقراع سجالْ “
فإن أمرتني النساءُ على قتل قلبي، ولو مرةً، ماسفكتُ به موعدا.
سأقول، وقد حجّرته المراثي إلى أن تناسيتُه، وتأففَ منه عطور جميع النساءْ:
سألقي به في الهواءْ:
فإما اِستطال بما لايُطالْ
وإما توزّع في فيء أفراحكم دمعةَ دمعةَ
وتبدد فيها.. إلى أن تسيل.
أنا من يبايع أعراسكم بالمنى المستحيل
فقولوا، إذا جئتُها مادحاً:
بأن الحمام المدجّج في سجع أهوالها لم يُقلْ
والهديل المؤجج في خنجر النوح، قِيلْ
ومالم تقله الضحايا سيفضي به العنفوان.
وزفوا طبول الأماني وقولوا:
(عليهم أميرٌ، ومنا الأمير، وننهي فظاظة كل سؤال)
سآتي إلى قوس أفراحكم مادحاً.
وأسلّم قلبي لأول امرأة قد أصادفها، ثمّ أمشي إلى جهةٍ، وتسير إلى جهةٍ، وأقرّضها... وأقرّضكم:

(مرحباً مرحباً بالصباح الذي لن يُرى)
مرحباً بالزنود التي شيّدت صرح (بابل) فوق حدائق أحلامنا - الخاويات – سُدى
مرحباً بهبوب الرؤى، من أقاصي ظلام الرؤى.
ذاهلاتٍ، وفي خطوها صخبُ... وصدأ. ثم أسأل: هل في جوارب أحلامكم من بقايا؟

وأسالها:
(أفي العمر متسع كي نقايض أصواتنا بالصدى؟
ونقاضي حناجرنا حين ترجع مبحوحة من دوي الغناء؟
وهل يصلح الوجهُ ما كسرته المرايا)


(3)

وهل ما تبقى من العمر يكفي لكي نحتفي بانكساراتنا، كلها، دفعة واشتهاءاتنا دفعة.
وزى في بقايا زجاج المرايا – الذي لم يهشّم بأحداقنا بعدُ- فاكهةً لم يطأها دمٌ، أو أسى لم يُدنسْ بموعظةٍ.... أو هوانْ
* * *
لقد أكمل الفاتحون فتوحاتهم، واحتموا في أعالي هراواتها
يرشقون رؤوس النساء بها، والرجال.
ومايبلغ الطفل، في الرضع، حدّ الفطام
إذا لم يروعْ بحفظ الذي قيل، في حمدها، والذي لا يقال.
فمن أي قافلةٍ في هباء الدموع الطوال
ستدخل تلك الخيولُ إلى الأرض، والأفقُ مزدحمٌ بحجار بنادقهم؟
وبأي القوافي سألوي عنان المراثي، وقد طال في حَدَقي روعُهم واستطال؟
وفي أي حنجرةٍ، أو دمٍ موحشٍ سوف تحبثو جيوش الرؤى وتحط الرحال؟

أقبل اندلاق حجار المراثي سأهوي على القاع منكسراً؟
لكأني أهوّم في مأتمٍ، أو أعلّق في ندمٍ
ثم ألقى إلى جوف نارْ.


(4)

كأن القصائدَ لم تُفْتتَحْ، بعدُ، والطينُ يهبط من عرش أسمائه والرمادُ يعود إلى بدئه، في مواقيد مُلْك الرماد.
كان الذين أتوا، غادروا فجأةً، والذين انقضوا، نهضوا من قواقعهم، فجأة. ومضوا يقضمون البياض ويختلقون السواد.
كان الطبول تُزّف إلى عرسها في دويّ الطنين.
وما كان من قبلُ أوسمةً، صار أحذيةً
كل شيء – كما كان – في بدئه
قبل أن يصعد الحلمُ للحلم
والأرض تدخلُ مخفورةً في خطى الشهداء

كلُّ شيء كما كان مرتجلاً وجميلْ
النساءُ اللواتي توحمنّ أن تستطيل السماءُ قليلاً
فندخل من تحت أقواسها راكضين إلى اللانهايةِ في سرو أحلامنا.
مايزلنّ يثّقبنّ بالنظرات جدار السماء
والرجال الذين أتوا من أقاصي الأماني وأدنى الشجون
مايزالون يفترشون كهوف الظنون.
ويعدّون بين أصابعهم حشرجات الأسى والأنين
كل شيء، إلى الآن، مازال في ختمه
قبل أن ينشَب الطين في الطين
والماء يصعد محتفلاً باسمه
في حشود الجرارْ


(5)

أغادر آخر أسئلتي، وألجُّ إلى توبةٍ روّعتْ كل من سبقوني إلى بابها.
قال لي واقفٌ (ربما حاجبٌ) (كان في الباب):
هل خضتَ، من قبلُ، حرباً ومُتَّ بها؟
خفتُ إن قلتُ: لا، أن أقول: بلى، وتذكرتُ: أن الذين بنوا (كربلاءْ ) سوروها بسنبلة التيه والخيلاء.
تذكّرتُ – أيضاً – بأني أغادرُ أسئلتي، فتذرّعتُ مستغفرا:
بأن الذي كانَ: كانْ
وأوشكتُ أرجع عن غفلتي، وأردّدُ في السر - مستذكرا:
بأن الذي كان منهم، كما لم يكن قـط في.. ( شاهدٍ أثقلته المعاصي فتابْ)
تذكّرتُ أخرى:
بأني ألجُّ إلى توبةٍ. فأعدّتُ السؤال لصاحبه، دونما توبةٍ... أوجوابْ.
كلما أخمدوا في القرار لظى
أوقدوا في الشرار الدخان
* * *

كأني أُساقُ لهاويةٍ، لانهايةَ فيها لمنتحرٍ
ويُساقُ معي من تبقّى على الأرض من شعراءْ
أرى ما ترى النارُ، بعد أنفضاَض مواقدها حفنةً من بقايا تسمى: رمادْ.

أجاهد أن اعتلي شلوّ أيَّ جوادٍ، معادٍ لصهوته من سروج العنادْ
وأعيا...
وأهوي إلى قاعها.
قلتُ: أرجع من حيثُ جئتُ إلى جثّتي،
قبل أن يسطع الصبحُ من شفتي
أرجعُ القهقري....
مقبضاً كفناً. هكذا سأعود!
وهَا... كلُّ أمتعتي !
وأشرتُ إلى قبضتي
قيل كانت بلادا.



الآراء (0)   

دعمك البسيط يساعدنا على:

- إبقاء الموقع حيّاً
- إبقاء الموقع نظيفاً بلا إعلانات

يمكنك دعمنا بشراء كاسة قهوة لنا من هنا: