فصل برزخ سهيل وتاج الثريا: تاج الثريا - عبد الودود سيف | القصيدة.كوم

شاعر وناقد وباحث يمني من رواد الأدب الحديث، ترأس العديد من الصحف والمجلات الأدبية (1946-)


288 | 0 | 0 | 0




الطرس الأول
نشيد الأرجوان

فمي أول سوق أشجار(السَلمَ) ونهاية عقود الريحان.
يدخل الداخل إلى فضائي فينتهي إلى بستان. ويخرج من فمي إلى فضاء ينتهي إلى بستان، وينعقد بين كفي في بنان الحيرة، فيتوقف هنيهةً ويسألني: من أين يبدأ؟ فأنهض من بين البحرين، وأومىء له أن يتبعني. آخذ بيديه وأهوي إلى قبة المدماك. أطرق في حُجرها بذرةً، فتفتش وأدخل. أجلس ليس بعيداً عن الزقّ، وليس قريباً من الدّن. وأنادي: (ثُويْبةُ) أقرعيني بنقرة الدف.. !
وأسترسل في شذاي، فيعود يسترسل بي الشذى..
مستديرٌ، كأن الفضاء بكفي قرنفلةٌ، وأنا في كفه دارة شذروان. مستديرٌ بلا تعب.. وأينما يمّمتُ وجهي، ابتهلتُ، واختصرتُ في قبلتي ركناً من أركان الدائرة. هذا الفضاء لا يحفل برمض جمر الغضا، ولا بالسكاكين وهي تُتلى في قبضة العنان المروع. أي نخل يجتبيني بمهماز السموق على يديه، فأسمق في يديه مضوعاً؟ كيف ينهض هؤلاء الصحب المسمون: ملائكة من هواي، ويعتلون كتل الإسفنج من مقالعها في البحر، ثم ينقّلونها من جهةٍ إلى جهة في دماي، ويقيمون بها صروح شذاي؟
لا يدايَ يدايْ في بقع الأزاميل، ولا الراكضون في شهب النرجس المكظوم بي هم سوايْ. وأنا الفراشةُ والشرارةُ... والشذى.. وأنا الشذى المتوسّدُ عنفوان الشذى، رشقةٌ من نبالي، تقيم خطوة ملاك من قومي، فيسرج شمعه إلى حيث لا أراه في زهور هواي.
كأن الداخلين يتغربون في ملاحة التفاصيل في دمي، وتستغويهم البدور الطالعات من أوراك الشذى، فلا يصلون إلى كلماتي.. إلا وقد أسرفهم البذخ، فتخرج الكلمات كأنها قطع الصدى؛ مقطعاتٌ عن أرحامها، بدون أن تفتق عن ريحة، أو تؤج في دخان.
أرى طيفاً يبسمل، في البدء، باسم ما أرى، وينتخب من شذاي قرنفلةً، يدمّكها بصهاريجي، ويقرأ: هذا منتصف كوكب الأرض.. وآخر أكفان الأولياء. من أتى أقام ضريح قبة من الشهداء، وألهمهم حياكة رقعة من نسيج مزاميري... في أناشيدي: البكاء.
أعطيتُ دمي، إذن، حقَّ الإفتاء، وتوليتُ ما سواه من النواح باسم القبائل المجاورة من أعضائي. واللهِ واللهِ إن الذين تولوا تسميد هذا الفضاء بياجور الزعفران، هم ـ وحدهم ـ أولُ وآخر من أقرُّ أنهم من نسلي. ينسبونهم إلى الفراشات، فتأتبط كل قبيلة رزمة من كبريتهم، وأسطع أنا في شعلتهم، وأقول: أولئك صحبي! أقيما يا نديميَّ أوتاد الأرجوان في قبة الكأس، واتركا لي زهرة الحُباب، كي أتنهد، وأطلي شجرة الأرض من هذه الجبة المتخثرة بدمي.
ألحفُ بالسؤال. وتلحف الأرض بالنداء: أخرجْ من أوتارك مدوياً إلى الأعالي بالتاج! لا تدخرْ في الكنانة سهماً ولا ريشةً إلا غمسته في الجوقة، وأطريته ببلسم النشيد.
نسيتُ أن أدوّي وأستفتح البكاء بالقرنفل. نسيت أحكم الرتاج بإطباق عقدة الرتاج. عُموا وقوفاً فوق هلام الأنقاض! أيها المتوسدون هلام الأنقاض. واسكتوا إلى أن أبتلَّ في مواقد الغيظ وأدفئ الخرائب بالسعف وبالقطران.
قال قائلٌ: أيكم سار اِليَ، انتهى بى. هذا أنا في السترة من ألواح التكوين، انظر إلى الماء فأراه رغواً، وأنظر إلى الطين فأجده رخواً.
أستدرك وأقول: من أتى إلي بمفتاح نرجسة، استودعتُه بالخَلق الماثل بها، وأطلقته في بلاد مرصوصة بالبياض... إلى نهاية أقمارها. يأتيها من أين يشاء، وسار يعقد فيها العقد إلى العقد، والمأذنة إلى السحابْ، والزهرة إلى الكتابْ، والدرة إلى السوسنة، ويخرج كيف شاء... مكتملاً بي، كأن لم أكن. إمشوا في أشجار عشقي، تنتهوا إلى ثمار خلقي.
قلتُ: هذا يومي غبطةٌ ونرجسٌ. أتيتُ إلى صدارتي فاستنهضني الأرجوان. قلت: لن أنتهي أو تشج اليبوسةُ دمي بكل بيض الهلام وعناكب الفِطر المدلاة في لِحاها ولُحاها. لأصعدنّ من كل زهرة نحل في دمي بإصبع، ولأعقدنّ فيها أول رمح البياض من صبح يومي هذا، بنهاية أعقاب السواد في غرة يوم الغد، ولأرعش دم الاثنين ببعضهما حتى لا تتبقى فيهما قطرة بياض ولا قطرة سوادٍ، واقفة بدوني، وإما جنّ الاثنان بنقيع دمهما الواحد، نثرتهما على الأفق نثرةً واحدةً، وقلتُ: اذهبا بدوني إلى شجرة الأرض، وقولا لها نحن في (الما قبلين).. يوم يدخل النرجس إلى فيحه في سدة النرجس، ويدخل يطلي الأمومة والأرحام ببهاء شهابه الدافق. آنئذ أجمع كل الأصابع الطالعات من زهر نحلي، وآخذ المواقد والدفوف من شهبي، وأولمهما ساعة في كفي، ثم أضربنَ بهما قفا هذا الهباء الأسود الجميل، وأقعدنٌ انتظر خاتمة الدوي.
»ثويبةُ» امسكي فمي عن حلمة هذا الرضاع المسكر، وانهيني عن التشظي في البوح إلى شطائر... فقد آنت المجاهرة، واقترب موسم الحجارة من النكوص إلى القرارة..
كأن الفضاء عجينةُ حناء لم يجف خضابها تماماً، بعد. مشكوك من الأفق إلى الأفق بقطيفة سديم، اختلط فيها البياض بالسواد في زهرةٍ... بين الغبار والرماد والغيم. قلت لصحبي: أن يتبعوني إلى حيث أهوى في أعناق الزرافات وقناديل الفراشات وشطوط الغيم. هذا يوم خروج البساتين إلى ملاقاتي في فضاء البحرين. من رآني أهجس بين المحاريث قال: ذلك أنا هو، يُتلى في قفاطين الرؤيا، ويدخل رافلاً إلى كل الجهات بمزامير شذاي.
في البدء استوقفني (الكاذي): قبل أن أهمّ بالخطو إلى الرواق، قال: أتيت في لحظة اشتجارنا بالطِيب، قلنا: الداخل أولى بالفتوى من الخارجين إلى الفناء. أولئك صحبي، وأشار إلى جمع من النشادين يلوحون بدفوف العطر، يبغي كلٌ أن يتفوه في حضرتك بالطِيب أولاً.
إفْتنا وإلا رأيتَ معاول الطيب تفني جذوعها وتستقتل: أياً يبلغك قبلاً.
قلتُ: هذا طالع الفأل. ادخلوا جميعكم في جوقتي، وأنا منشدكم جميعاً، من بين طرسي ودواتي، لآتينكم واحداً واحداً، ونسباً نسباً، وقبيلةً قبيلةً، ولأعرجنَّ على الأفخاذ والبطون والعشائر في دفقة ضوع واحد.



الطرس الثاني
عذراء الأبنوس

هذا انتصاف دمي مابين قوسي دائرة. من ورائي بحر وأمامي فضاءُ، وأنا باسطٌ أذرعتي بينهما، بالوصيد.. أقيم كلمتي، وأسمّدها ببذور الندِّ وحقول الزعفران. مازلتُ في منتصف العقد.. أنظر إلى نفسي فآراني على هيئة (ألف) الابتداء، وقوس (نون) التكوين، فأقول: سبحان الذي أسرى بجثماني إلى أول عروق الفخّار، وأشخص إلى ماحولي فأسمع مايشبه البسملة: ماخلا البحر فأسمالٌ وبعض بقع الفطر، وأواني الطلح، والطلحُ، وأطلال الأرجوان.
باسقاً ينهض البحر في الفضاء، يؤثث سترة الفضاء في أيكي، يقول: هذا دمٌ لاتوبة فيه، فإما البحرُ وإما البحرُ..
تولاني جزع الوعول وهي تدق بأصناجها حافر الرمل، وتدخل مفيحة في لهاثها إلى وجر الكِناس أو ربما إلى مالانهاية في براري الأسئلة.
في البدء كنتُ إذا انتهرني الخوف، أطلقتُ في دمي البأس، فخرجت عن طوق الخطى إلى اقتناص اليعاسيب إلى أجنحتي، والتلويح للمدى بهراوة العقبان، وشيئاً فشيئاً يذعن المدى ويدخل في خطوتي، فتعود الوعول إلى طورها – ثانية – تدق بأصناجها حافر الرمل.. وتنهك الفضاء باللهاث.

باسقاً في الفضاء أمشي، مكتظاً بزحمة (الكاذي) وصحبه من (الأقيال) و(التبابعة) ولي سواهما: الفضاء أمسّده بقطعان الوعول والنخيل الشارد في قفاطيني. مكتضاً، أمشي ببلسمة الخيلاء، ولي الزهو المائل في أعناق الأفراس.. والمرايا. مكتظةً بي تأتي أفراس الخيلاء من كل فاكهة وصوب.

سألت الفضاء أن يعتقني من هذه الأمتعة والخيول. قال: أنت بين حنجرة الماء ولهاة الطين، وأيان تصعد في غبشهما، أصْعُدْ هذا يوم يأخذ الشذى بأعناق الورد وتدخل القصائد في زمام القوافي، وتمشي مخفورةً إلى زناد قافية واحدة. يوم ترى نفسك ساطعاً في كأسي، وأرى نفسي ساطعاً في سكرتك.. ونخرج في بهائنا مكتمِلّينْ في سراج بهاء واحد.
***

أطلقتُ في فضائي الزوبعة خاطبتُ الكاذي ومن يليه من (التبابعة) أن يمخروا في فلكي. قلتُ: لأخضبنّ دمي بمقابض طيوبهم وتاج أنسابهم، ولأسيرنّ أخبط في عروق النسيم، إلى أن أنجلي أو أفْوّض في أمري.
هطلت غيمةٌ..
أرى كتيبةّ تحيط بي إحاطة الحدق بالعين، فأتذكر الطلحَ، من دون سابق ميعاد، وأكاد أهتف بالقهقرة: أنْ ارجعي.. فلا أكمل. أسمع طرقاً في أنحاء الذاكرة، فأفتح. أرى سرب يمام يرتصُّ على حد سيف، فأفزع وأجري إليه كي ألّمه.. يقول اليمام: افتتحتُ غار(ثور) وأنـــوي أن أخيــّم في سمــاء(الأحقاف). سمعت حقول(الكاذي) تعقد لك بأغصان البيعة، فأصطففتُ في مزن نفير واحـد، وأتيتُ كـي أحجـب عنك عناكــب (المخاليف).
(إكتب بنا أبداً بعد الكتاب بنا / فإنما نحن للأسياف.. (*)) أمسحُ القطران العالق بالذاكرة والخرائب، وأعاود الهتاف: يانديميَ، المدلّيَيْن لي من بين هذه السوائح وأجناح الغيم، انهضا من حُباب كأس الفضاء، وابسطاني في مُدْيتكما إلى العنان الأخير.. إلى أن أجفّ أو أكفٍّ أو إلى أن أجنِّ ويشتعل بي العباب، فأخلط بين اسم الآس والزعفران في ثوب نشيد واحد، واسطع من هلال موعده.
تهطل غيمتان..
تسوّرَ بي الغيمُ، فلأعقد البذور في يدي وأولّي إلى آخر البذور. أرى أمزاناً وندماناَ ومالا أحصيه من السُوق والسنابل تدخل من بين أناملي أفواجاً، فأتعوذ من الطلحْ، وأقرأ: (إذا جاء نصر الله والفتحْ.. ) ثم أجمع الحشود إلى الحشود، وتساومني نفسٌ في الاختطاب، وأكاد أبداً فأتعوذ من الطلح، ولا أبدأ. أرى عذراء ترفل في سعف الأبنوس تتخطف عيون الحشود، وتتقدم إليّ، فأغيب في سحابة شكٍ من الذي أنا فيه. توقظني ثم تأخذ بيدي إلى ظل (سَلَمَة) قريبة، وأسألها عن اسمها، فتقول: لن أبوح لك بإسمي إلا إذا أصدقتني: كيف تفعل إذا استوطنك اليقين، ورأيت بهول عينك زفاف الحجارة للبحر؟ قلتُ: أدخل في اليراعة فأوشوش، وأخرج إلى البياض فأنادي، وأمشي في السواد وأؤذن.. قالت: الآن تقرُّ عيني. سأقرؤك اسمي. أنا قرنفلة المداد، وهذا نطعي، فافترعني من أي وجه شئت، وناولتني قماط جسدها، وأطلقتُ في مائه اليراع، وقلتُ: الآن يعود الطين من دواره، وشرعت أصلي.


الطرس الثالث
دم المومياء

مستودعاً طلح كبواته، وما أترب على هدبه من سواري قلاع الجسد.. مستودعاً آخر ماتراءى له من أقمار الطفولة، ولآلئ المداد. مستودعاً أحصنته، وبيارقه، وشارات البياض التي لم يُكفّن بها. مستودعاً نفسه حين كان يقول: هكذا أنا أرجع إلى محاقي، وأؤلف من بقاياي رغوة أمواجي على قاع هذا الزبدْ.

الفضاء فضةٌ وأنا نخلةٌ أينا يسمق في قامة اكتماله أبهى؟ أرى الأهلة منشورةً، مثل آنية. والبروقُ نقوشٌ مسجاةٌ. وأنا أدخل في مرآتها أعانق أسمائي.

دخلتُ. غيمةٌ في الأفق وأخرى في الكف, وثالثة بينهما.. لا عليّ ولا لي. مستوطنٌ بالمرايا وبالدموع. كأن المرايا بكفي هراواتٌ، كأن الدموع طبولٌ. قال. قائل:
قبل أن تلهب الدوابُ ظهورّ السياط، وقبل أن يترجل الوسواس عن ظهر ناقته، ويمشي يخاطب كل من يراهم بأسمائهم، وقبل أن ينصرف الناس عن الشكوى إلى رد التحية بالتحية، كنتُ أخيِّر نفسي في البكاء على ماكان، أو في البكاء على ماسيكون. واخترتُ أجمعهما في مرثية واحدة.
آنئذٍ أطلقتُ الثاكلات بمراضعهن إلى نهاية أفواه الصراخ، وقلتُ: لن تعبر من بين أجفانها ناقةٌ ولا قشةٌ ولاشوكةٌ ولاعقالٌ ولابعيرٌ إلا وضمِّختُها من حيض هذا الإناء. وأشار إلى قربة دمع كانت بجواره.

قلتُ: هذا رأسي خطوةٌ وبعضُ أفراس، فأنتهى إلى جلوة الكأس، وأسطع من حباب أهلّته مدوياً في عنان البكاء. كل خطوة مديةٌ، وكل فرس كفنٌ ثامنٌ وعناقٌ أول، أدخل في قِبلته إلى مسام الجسد المروع بالهتك وطلاق المواعيد. إصعدْ بنا ياغيم في لواقح الرثاء إلى منتصف الشرارة.. وآخر الرثاء.
صعوداً بنخلي إلى نهاية العناقيد وأول الأجنة، أيها الداخلون في رفث المسك، وأشتات الأرجوان هذا يومي قُمْعٌ وداليةٌ، أعني فضاءً وحدأةً، أعني إندلاق جرار دمي على جرار دمي في حبل هذا الأفعوانْ.
كأن الليل أثافي والبحر مداد وأنا أمخر لجة الغيم، أطلق في صدري التهأويل، تارة، والمواويل تارة قلتُ: لن يأخذوني من خطامي حتى أستوفي من مضاجعهم ما أستودعهم به ذلك الخطام، والله لو أن القيعان غاباتُ طلح والأعناق جريد محمّى، وآخر جريد ذابل، لأقفونّ الطلحةَ إلى الطلحة، والجريد إلى الجريد، وأبلغنّ الترائب والأرحام في سفر خنجر واحد.
بين الكلمة والخطوة بلاد في مستهلها هلال. بين الكلمة والخطوة بلاد ثانية في قعرها هلال. أدخل في الخطوتين وأسقفهما بكلمة، وأدمّك قاعهما وأعراضها بكلمة، ثم آخذ الهلال وأعقده بالهلال، وأفتح في فضائهما دائرة، وأقول الآن أكتمل عقد العقدين، وضُمخت اليابسةُ بالماء وأسرعت في بحرهما فلكي.
أتخلى فجأة عن مراكب الوعول وأرجع الخيل إلى مرابطها، وأدحرج في فجاج الفضاء عجلة ناري. من ورائي بحر وأمامي بحر، وأنا باسط بينهما، في مخالب الصقر، فضاءَ أجنحتي.
يتطاير من دمي رذاذٌ وعقبانٌ وألسنةٌ وأجنح للسكينة حتى لا أروع البعر الآمن. من بعيد تلوح لي الأسوار كأنها ظعون الراحلين. أراها فأستوقف في شفتي الكلام، وأمر الفضاء أن يتوقف في أجنحتي والتآئبين في رباط دمي أن يتقدموا في أنسكتهم، ويخلوا فمي من قش وعرار وجراد نافق، وأقترب فتنشق الساعةُ، وتدوي الأقمار في أقماري بالمحاق. أرى الأرض أستطلعت أخباري وهيأت لي جرارها فارغة، والأسماء أفرغتْ من أسمائي، واستنوقتْ في عجائن الفِطر البعران. وأرى الشعراء عجائز من غير نهود ولاقواف.. يرمضون في السكوت، كأنهم طُللٌ أوحبوب خردل أوصفيح بارد. تبارك الذي أخذى وأقذى، وجعل السلاحف أمواتاً كأنهن أحياء، هذا يوم النشور يوم تهب القوافي من فج، وأجيئ أنا من فج، وندخل إلى صراخ الثواكل: نمحو الغوائل ونستبقي الأرحام.

تنقشع كثبان الغيم..
أسير على جثث.. أي زهو هذا الذي تفقس فيه الطواويس من بيضها، وتخرج، من أبهتها، محلوجةً بدون ريش؟ أستوقفتُ على باب فمي طاووساً، ما ظننته إلا هدهداً، فلم يتوقف واستدرجته إلى الكلام ثلاثاً فلم تنبس فيه شفة. غنّى بصوت مقطوع: (شدّت جبال الأرجوان ياليتني ما أتيت (*))، وينصرف إلى جهة لا أعلمها من سهوي.
قلت: هذا مقدار خسف جرى أو كاد، سأجعل يومي قربة دمع، وأخرى قربة مدادْ، قال الدمع: ماخُلقتُ إلا لهذا، وأشار إليّ. قلتُ: وما خلقتُ أنا إلا لهذا، وأشرتُ إلى سور مقبرة، كان ينتصب في نهاية أصابعي كإشارات السؤال.
متأبطٌ حجراً ولي سهوي.. وأضرحتي. أنا العاجُ المشرّشُ في طروس الثلج، والبرقُ المسطّرُ في الشرارة والندى. متأبطٌ حجراً، وملءُ شراكه حجرٌ، فأي صواعقي الضجرى ستطبق أولاً؟

أهذي بنرجسةٍ، وآتي كي أسرّح في ظفائرها المدى. أمشي وأسقف في فمي الغافي، كقبّرة، قلاعي البيضّ في سهب الصواعق والصدى.. الرملُ ينبشني فأطمره بعكازي، وأمضي مغمضاً في التيهِ: لي سأمي وأنسكتي ، وبي تعبٌ سأعتقه وبي تعبٌ سيبزغ في شروخ الطينِ.
مرتجلاً كسوسنةٍ، ومبتلاً كعاصفةٍ. كأن الندِّ اخطأني، فناءت في جرار الند تنصل اسباخي وأشرعتي. مكسرة بساريتي قلاع المد، أنشرها فتلبث بي. شراكُ التيه قرصانٌ وأبخرتي بضوع التيه دخانٌ. وبي صخبٌ لأصرح في فمي – الطوفانِ أسئلةٌ.. وصفصافا.
أتيتُ.. لامستْ يداي يدي. وجرى الحفارون من كل صوب. نهض النسابون واستحلفوني على ما في عصمتهم. نهض فمي واستحلفني على الصراخ. نهضتُ واستحلفتُ الأنسابَ على القبائل، والشعراءَ على الشعراء، قلت: هذا الجراد النافق، وأشرتُ إلى أبناء فطنتي الشعراء، سأدير مواجعهم، وأسوِّيهم جميعاً في نسب وزن واحد، والتفتُ إليهم: أما واللهِ أما واللهِ وأكررها عشراً، إذا تنابزتم بعد اليوم بألقاب الظعن والفلاة، أو أتى أحدكم إلى بابي يمخط في كفن أو يهرول في عكاز، أو رأيته يستجدي في القشرة حصاة أو بعرةً أو بازاً، أو قملةً في سربال، لأجلونّه في الرماد حتى تستعصي عليه الرقية، ولأهتكنّ من أنسابه في مسامير القار ما يسيل عليه بكاء قبيلة من المعز والثيران.

تتكسر أحداق الغيم..
أغض الطرف عن (كعبٍ) و(كلبٍ) واستلُّهما من بين نياقهما، حتى إذا جاوزتُ بهما العراء، قلت: هذا ابتداء مضاربكما اذهبا إلى نهاية مالا أرى، واستبسلا في أعناق الطلح حتى تُبلى الغيوم، أو يثبَ في أحجاره كلحُ الزقوم، اليوم يدخل مائي في أروقته ويتولاني بالشهد وبالشهد. أصعدنَ يابنات نعش فوق أيكة هذا السراب الملطخ بالسهاد وبالحمى، وهيئنَ لي في مطالعكن الصحائف فأشرب وأشرب إلى أن أنتخي، وأهوي في الحجارة، أثرمَ من دون ناب.
هذا آخر اليابسة: مراكب غرقى، وأخرى طافية، وثالثة تتوسطنى بدلو، وتطرحني في عقدة المنتصف، بين الغرق والطفو، أتأمل البحر فأرى كأنما انقشعت سحابة كبيرة، للتو، وخلفت في موضعها بيضةً على قدر حيّزها من الأفق إلى الأفق أعقد في يدي كفيهما وأجعلهما كالمعول، ثم أنقر بهما قشرة البيضة، نقرةَ من يفتح له في جوفها خباء.
حتى إذا وجدتني أروح وأغدو في خبائي، قلتُ: الآن سأسلخ أكوام الكلس.. رويداً رويداً، إلى أن أرى الحفائر في الحفائر، والبياض يرسب في البياض، وأستجلي طبقة الصفار من قيعانها.

البيضة في أوجها وأنا مدلَى في أوجي، في منتصف العروة. أنقر البيضة فتنشق عن هاوية، تستدرجني إليها حتى إذا غصتُ في قعرها، أخذتُ أتلمس ماحولي.
هذا يوم بموعظةٍ وبكاءْ. أرى نفسي تنقسم إلى رمل وميزاب.. يتكوّم الرمل في أعناقي ويطمره الرمل، فينسرب إلى تلافيف أهدابي، وأغصان رؤاي.
ألغي فصول انقسامي، وأسيل في لهاثٍ يتصاعد مثل قطعان الدخان. تنهار في دمي الحواجز، وأصبح على هيئة غمد يماني.. يعكس في التماع نصله ركام دم مُتَخَذٍ ومخذول. هذا يومٌ بما لا أحصيه من الفؤوس والرماح. يومٌ كمطرقةٍ وعمرٌ كمشنقةٍ.. وتاريخ آسنٌ لايكل من المراثي والدماء.
قلت: أرفع قبضة الخنجر، واهوي بنصله إلى قاع العين.. لأقرأ في العماء العماءْ. يهوي الخنجر لا أرى بدءاً. أكواماً من سلالة العناكب والرمال تتشاجر من أطرافها، وتطبق بأعناق بعضها، ثم تمتد إلى آخر مالا أرى. في المنتصف رأيت أكداس الرمل تتحول إلى جبال من الرمل وسفوح من المعاصي، مترسبةً فوق بعضها؛ بشكل طوفان من الأحجار المتكلسة والمتفحّمة. أحدّق: أرى ما يشبه المقالع وأرى ما يشبه أعشاش الغربان، نُحتتْ في الأعلى والوسط والقاع، أي عينٍ هذه التي تبتلع في قاعها سحائب رؤياها؟ أي رؤيا هذه التي تسمل أحداقها وتحيلها إلى كلس كالح بلا إسم؟

قلتُ: سألغي زبرجدة أيامي، وأنظر إلى أطراف نفسي الماثلة في نفسي. حدّقتُ.. ياللبعوض يحتذي لسع البعوض! صارت المقبرة حجراً. كأن المرايا بكفي هرواتٌ كأن الدموع مرايا، هذا أنا بين قبري وكفني، بعضي ينسخ بعضي، فأولد بينهما على هيئة الخنجر.
أتلفتُ يمنةً وأتلفتُ يساراً فلا أرى سواي، وأحدق في نفسي فأراني خنجراً شاخصاً ينسل أسماءه ولقبه، من هذه الأكام بلا روية.
قلتُ: أصعد في فضل رؤيا أخيط ما تلف بها من أسمائي. نشّرتُ الرؤيا تلو الرؤيا فلم أر شيئاً. وحيداً كنت أقضم عرائي. أدور كنت مفرغاً في حَلبة دخان. أهرقتُ من سواد شعري ما يساوي جرة مداد. أهرقت من مدادي أرتالاً.. أقيم بها شرفة لو أردتُ وأزحمها بأسراب العصافير واليمام.
هومّتُ في أتربتي وغباري.. هوّمتُ في غباري وأتربتي.. لم أر شيئاً، ليس ثمة برقٌ فأقيم حباله وليس ثمة غيمٌ فأدخل مغارته وأشخص فيها.. حتى يساورني اليقين وحده. كان الرمل يغيّم في سماء أحداقي وينقرني بجراذين وتوابيت ونؤى تمر يابس.
وكمن ينهض من مقبرةٍ، وينفض من ثيابه توابيتها، نهضتُ من حفرة الحلم، ورجعتُ إلى نفسي، كما أنا: جسداً خاوياً من غير إسم ولا فم ولاذاكرة. ها أنا ذا أدحرج في منحدر العراء جثتي أكبو وأسير. وأكبو. فيا سماءُ اقلعي ويا أرضُ غيضي ويافمي أرني كيف أواري سوءة جسدي في أطلال هذا الركام.
* * *

أذّن مؤذنٌ، في الناس، أن لكهلان آيةً، قال: (كهلانُ) إجابةٌ بلا سؤال وسؤالٌ مؤجلٌ إلى مالانهاية في الخرائب والحفريات.
بقعةٌ سوداء من الدم الملطخ بالدم. حجرٌ طازجٌ تتقاذفه المطارقُ فتتخذى من طرقه المطارق ووشمٌ تغرس فيه الجبال فتتصدع من كحله الجبال.
أمشاجٌ من السلائب والصلافة والغبار. تسأل الكهلاني: من أين تبدأ كهلان؟ وأين تنتهي؟ فيجيب: تبدأ من هنا (ويشير إلى فمه) وتنتهي هنا (ويشير إلى جوفه). غير أن كهلان طوفانٌ بلا شراع تبدأ من اللحظة التي يلملم فيها الضوءُ خيوطه من الأفق، إيذاناً بالمغيب، وتنتهي في اللحظة التي تنقشع فيها سحب العتمة من الأفق قبل انبلاج ضوء النهار! تفتش فيها طوال عمرك، عن إسمك، فلا تعثر عليه إلا في اللحظة التي يسجل فيها على شاهد قبرك بعد الدفن. أنت منذ الآن شاهدٌ على أن كهلان أطولُ من الصخرة التي أندلقتْ منها، وأقوى من المعاول والعويل.
كأني أودّع آخر نخلةٍ على أرض (كهلان) كأني أشراك عنكبوت في قفصٍ من دمٍ.. ومحارْ. أمشي فأرى الحمائم كاسراتٍ، وأرى الغربان حمامْ. كأني من صدفٍ ومن نجفٍ وأتربةٍ.. وضوضاء ظلامْ.
أرى الرجال أوتدةً والنساء وطاويطَ وخيام. وطناً ينهض في خطو السكارى، ثم يمشي مدلجاً في أقاصيص أحلامه. قال لي حلمٌ:
ليس يشبه هذا الهراءُ أحدْ / يشبه الراجعين من الحلم (والحلمُ عمر على شكل زوبعة وبلادٌ على هيئة المومياءْ) يشبه الخائفين على شفتي (والقصيدةُ تقبلُ مذعورةً وفمي مطبقٌ..) يشبه النادمين.
-أنت تهذي بما يؤنس الشعراءْ: شَرَكٌ من حنين! أمْ بلاد على رأسها الطيرُ.. والشهداءْ.
- وليكن! ليس للحلم حد!! يدخل الفاتحون إلى نومنا/في حراب النعاس، وأبهة الحكماءْ، ثم يغتالون أحلامنا واحداً واحداً. ثم.. نبقى الأباطرة.. الحالمين.
-أمشي فتنكص خطواتي، وتغور في الرمل شيئاً فشيئاً.. إلى أن أحجب عنها، ويسيخ ملكوتها في أدغال الرمال ونفاياته..
"إرمُ" ياملكوت خطاي الغا
ئــر، إلى نهاية الملكوت.
وأول الرمل .



الآراء (0)   

دعمك البسيط يساعدنا على:

- إبقاء الموقع حيّاً
- إبقاء الموقع نظيفاً بلا إعلانات

يمكنك دعمنا بشراء كاسة قهوة لنا من هنا: