فصل: هلال القش.. وهلال الجريد - عبد الودود سيف | القصيدة.كوم

شاعر وناقد وباحث يمني من رواد الأدب الحديث، ترأس العديد من الصحف والمجلات الأدبية (1946-)


247 | 0 | 0 | 0




قشّ أم جريد! أم بلادّ تنكّسُ أحلامها فأجيء على صوتها راجلاً! كأن حلماً يداهمني فأقبض على خناقه، وينداح في فمي مرتبكاً. ينكسر الحلم، أرى ألواحاً، وصداح منشارٍ، وأياديَ ترمش في الهواء، ومطارق تهوي، ومسامير ملقاة في القاع، وأخرى تغمدُ في الألواح، وثالثةً ما تزال بين المطرقة واللوح.
أسمع ضجيجاً، فأقول: كأن القوم أسرجوا الأرض في أقدامهم، ثانية، ويمموا أوجهها للرحيل، يتعالى الضجيج، فأسمعُ في جلبته هاتفاً، وأتصنتُ، فيصطفقُ في أسماعي جلياً: (هبت العاصفة كلها دفعة واحدةً )*، ذاك صوت أعرفه، قلتُ، وأخذتُ أصغي.. فيتلاشى الهاتف، ويتعالى الضجيج، أصغي.. لا أسمعُ في الجلبة شيئاً، وأصغي فأرى الأرض تتقاذفها أقدام العدْوِ دونما وجهة، والقوم ـ حولها ـ مشكوكين في حبل قافلة: من بداية عنق الغبار إلى نهاية عنق الغبار، ملثمين يمشون، عاقدين معاصمهم على سباباتهم، كأنهم وراء سُترة الظلام البعيد يشيرون بها إليَّ، أحدّقُ في أطيافهم لا أرى شيئاً، أرى ظلاماً مطبقاً، وأرى عيونها تدور ساكنةً في أحداقها وأحار: أيهما يطبق عليَّ! تلك العيون التي تتغورّ في محاجرها، كأفواه الثعابين؟ أم قامات هذا الظلام المكوّم كأعجاز الهراوات؟ وأكاد أهتف: هذا قش، وذاك جريد، وأهت...، فيستغرقني الحلم، أرى أبراج الفوضى قد انقشعت عن أعاليها الذرى، وأخذتْ سحائب الغيم ترخي حلقاتها شيئاً فشيئا، وبدأت تُجلي الصورة من الأعلى، وتتكثّف حلقات الغيم في عنق المنتصف، فتغيب الجذوع في أعماق الجذوع، وتحجب في ظلماتها حمائم الرؤيا، إذن فلا أقل إنني مشدود من منتصفي إلى فضاء قبّة.
تكشف لي في ساق منها عن بياض، فأرى ما يشبه الصواري، وأرى ما يشبه مثلثات الأشرعة، وأرى.. لا أرى شيئاً، أرى ألواح المرايا تتقصف، في النصف الأدنى، وأرى في خرائط زجاجه المهشم ما يشبه العتمة، وأقول: تلك ساق القبة الأخرى توميء لي بقاع قدمها، وتكشف لي عن قاعها، فلا أقرؤ في قاعها المغطي بالتراب: سوى سواد كومات التراب.
تسحبني النوق المشرّدةُ في قاطرة أحلامها إليها، وأحاول أقرأ ما تلوّح لي به، فأغمض عيني كي لا أرى، باردة كجثمان الأكفان تهبُ إلي، فتدخل مُفْزَعَةَ من بين الجفنين، تقول: إذن، أنا أقرؤك! وتأخذ في الانهمار، كأن الظاعنين انتهوا إلى سفح ربوة، ورأوا في أعاليها ناراً، فقالوا: نعرّس في هذا الخلاء، وأخذوا يلوحون بمقالع أيديهم في الهواء.
مستغرقٌ في حلمي، رأيتُ الداخلين إلى موقد حلمي يتراكضون كقطعان الجراد، قلتُ: هذا روثٌ أم رماد؟ لم يجيبوا، أخذوا يلوّحون لي بمقالع أحلامهم، أرى أولهم ولعله (الحادي والدليل) يثبُ في الهواء صارخاً، ويثبُ في الهواء لاحقاً بصراخه، ثم يسقط منه على القاع مبتهجاً، يصرخ (كأنه يعود لكي يتشبّث بصراخه ثانيةً): انظروا! في الأعالي هناك ضوء نار، ويوميء بكلتا يديه، فتنغرس أظافرها في فمي، يكشف القوم مخابئ أوجههم ويحدقون بها كاملة إلي، أتملاها متمتماً: (هذه وجوه ذبلت وحان موعد طمرها)، ينتفض القوم مبتهجين في ارتعاشاتهم صارخين: إنها نار! ثم يتحلقون جميعاً في صراخ ابتهاجاتهم، ويأخذون يركلون أفرحهم بالرفس، ويربتون على قاماتها بأعقاب أقدامهم.. إلى أن تكل (أو يكلّوا) ويخفتُ الرقص، منصتٌ كنتُ لأفراحهم، أردد في سري: أيهم يطبقُ على عنقي أولاً: صراخ القوم؟ أم ابتهاجهم؟ وأكاد أسْمِعهم: هل هذا قشٌ؟ أم جريد؟ واستجمع مللي من أقاصيه، ليهتف معي، فيأخذني الحلم إليه، وأتراجع..
رأيت مرآة الحلم تعقدني على وجهها، وتبسط في أحضاني حضنَها، فأغمضُ عيني مسترخياً، وآخذ أجسٌ بأصابعي ما نأى من جسدها، وهي تدنو، تدنو، تدنو.. حتى تلاصقتْ بأحداق رؤياي، وأخذتُ أغوص في ولائم أسرار جسدها، متعباً.
تقول: هل أدلُك على كنوز أفراح جنةٍ لا توصد؟ قلت: فمن أين تبدأ؟ كشفتْ عن ساقيها، فرأيتُ أن الأعلى التصق بالأدنى، وجلتْ حمائمُ الغيم قطعانها، وخلّفت لي المراعي، أرى فصّاً (بهيئة خردلة) يتسع رويداً رويداً، ويصبحُ بحجم قصيدة، رويداً تكبر القصيدة، وتتخذ في مرآة العين شكل وجه القلب.
قالت: اقرأ! قلتُ: من أين أبدأ؟ كل حرف لوحٌ، وكل كلمة سفينةٌ، وكلُ سورةٍ بحرٌ، قالت: لقد تهجّيت حروف اللوحة كاملةً، وأحطتِ ما بين اللوح والمنشار، وما بين اليد والمطرقة والمسمار، انظرْ!
نظرتُ، (تهجّيتُ القصيدة من الأدنى إلى الأعلى وما بينهما، فرأيتُ سفينةً، ولم أر من تحتها أو خلفها أو فوقها يّماً، ذاك السرجُ فأين اللجام؟ أرى سفينةً، وأرى عاصفةً، ولا أرى بحراً) هكذا قلتُ، قهقهتْ إلى نهاية أقراطها وخواتمها، ولم أعد أرى في أنحاء ضحكها الخيزراني أحدْ، أخذتُ أجسُها من أطرافها كلها، وأستعيد ما تدلي من أغصان صوتها على أسوار القهقهة، فسمعتُ ما يشبه طرقاً على جمجمتي، أسمع في دويِّ رأسي نداءً: بأن أفتح.
وأهمُّ أسأل: من الطارق فلا أسأل، هزني ـ أيها الحلم ـ إلى جذعك، حتى لا أرى كيف تولد المفاتيح، ولا أين تصطك الأقفال! يدوي الطرقُ، وأحاول أجاوبه، مغيرون يتحلّقون في التماع حرابهم، ويقبضون في رأسي بعقدة الرتاج، ثم يبصقون في خمري، ويولّون إلى جهة ما، من مواقيدي، وأنا أقلّب كفي من حيرتهم: قش هذا؟ أم جريد؟ الآن عما قريب سيبولون على جمري، فيختلط الحلم بالروث وبالظعون، أسمع ما يشبه الوسوسة، فأقول: لعل طُمرتْ اليابسةْ، تتوالى الطرقات، فأسأل: من الطارق؟ قال صوت أجش (مشوباً بالاستجداء): هذا نحن! رأينا من بعيد ضوء نار، فقلنا نعرّس في أضوائه حتى انجلاء سترة الظلام! فجأة أطفأتْ مواقيدُ حلمي، وتقصّفتْ أبراج صواريه، وبُلَيتْ ـ أو تخرّقتْ ـ خرِقُ أشرعته، لم أجد بداً من مجاوبة الصوت: أهلا بأضيافي! أنا منتهٍ إليكم من وقتي، وانظر ماذا تأمرون، عادت القهقهةُ إلى صوتها، وعدتُ أرصفُ طرقاتي، وأنا أتشردّ في أيائل رؤياها، ثانيةً، وهي تخاطبني: أوَلم تر البحر بعد؟

فقلت: رأيت كامل السفينة ولم أر البحر، قالت: إنهُ مقبلُ إليك من توّه، أدخل إلى أضيافك، وانتقٍ من كل قبيلةٍ من قبائلهم فتى، وانتقِ من كل قبيلة من قبائلهم فتاةً، وانتقِ من كل أسلحتهم كلّ أسلحتهم، ومن كلَّ أنسابهم كلَّ أنسابهم، واستقصِ ما غمض وما بلا من أخبارهم، وادحض عن نفسك شبهة أحلامهم، واجمع كلَّ ما انتقيتَه منهم، إليكَ، وروّعهمْ بالذي سينتهي إليه من أنبائهم، غداة استخذاء القش والجريد، فإن انتهى القوم من أحلامهم، فخذهم إلى حلمك عنوةً، وإلا فاصعد بما جمّعتَ من آنيتهم وصحائفهم إلى صوامع الألواح.
آنئذٍ سترى كيف يدخل متمايلاً في عنقه فرسُ الجراد، وكيف يمشي اللهب إلى عظام الرماد.
أقال الظاعنون الأرض من تحت خطوتهم، وأقالوا مطاياهم وهوادجهم، وعرّسوا على مقربة من رأسي.
قال قائلٌ: (هذا يوم تُزفُ المرايا إلى الألواح، ويفتقُ الماء من بين جمان الماءْ، يومَ تدخل الصواري إلى الذرى على أعناق الأخشاب، ويزحف الثرى إلى العرائش في نعال اللبلابْ)، دخلتُ.. صعد الطينُ ـ حين صعد ـ إلى عرش الطين، فرأى في صدارته يتدلى اليقطين، قال: هذه بسملةٌ؟ أم سبابْ؟ اَلْبَسْتُ صوتي بصوته، وأعدنا امتشاقها بالسؤال معاً: بل هذا قشٌ؟ أم جريد؟ التفتُ إلى الأكفِّ المصطفّة في دفء الموقد، وقلتُ: أهلاً بضيفي.. ولم أكد أكمل حتى تناهى إلى سمعي صدى قهقهة، تتخطر في غنج صوتها: (تلاقتْ بنو كعب وأفناء مالك)، من أقاصيهما، تحت فيء نخلةٍ لا شك أنهم قالعوها، إذا أكلوا وراثوا، وقلتُ في سري: إذن أفاءوا على القش قشةً، وعلى السعفة جريداً، وأبلوا في جلوسرِّ الملكوت”، قال القوم: أما وقد تفيأنا جميعاً بسعفِ نخلةٍ واحدة، فنحنُ في فيئك في أمانْ، وليخاطبك كل فريقٍ منا بما في صدره، ظللتُ منصتاً، قال الذي كان علي يميني: من الفتى؟ وأشار بسؤاله إليَّ، قال الذي كان على يساري: من الفتى؟ وأشار بسؤاله إليَ، قال اللذان كان على يساري ويميني في صوت صكاه في نقرة سيف واحد: انتسبْ! أمن (شُناعة) أنت؟ أم (الهَوَس)؟ قلتُ: أنا واحدٌ منكم، ولكن التعب استدركني من الرحيل في قوافل الظعن إلى مالا طائل! هنا معزي (واشرعت بالإشارة إلى "هنا" حتى استدرك عليَ القوم في صوتين جماعيين متقابلين): أنت منا، (ومطوا النون في "أنت" و"منا" بصوت جوقةٍ جماعية واحدة)، قلتُ: بلى! قالوا في صوتين جماعيين متقابلين: لا تكون من "شناعة" (وقابله الصوت: لا تكون من "الهوس" حتى تستعدي على قدر اسمك واسم أبيك وجدك بغض آل الهوس)، و(قابله الصوت: حتى تستعدي على قدر اسمك واسم ابيك وجدك بغض آل "شناعة")، قلتُ: أنتم ضيفي فارجئوا أحلامكم إلى عمر آخر، قالوا: مالنا بأرومة أبيك وجدك من عهد، نحن أضيافك مادمت ليس منا، ولا في طلاب خصومتنا، فلتُ: في سري: ذلك أشفى!
كأن العناكب براغيثُ، والبراغيثُ عناكب، التزجا بصمغ جبهة تيسٍ واحدٍ، وصارا له بمثابة قرنين، هكذا رددتُ ـ في نفسي ـ وقد أمّتْ "شناعة" أفصح فصائحها، وأمَّ "الهوس" أبلغ بلغائهم، وأخذ كل منهما يجأر بمناقب قبيلته وأحجارها وفرسانها، حتى لم يبق في المناقب ولا في الأحجار ولا الأوتاد منقبةٌ ولا طنينٌ ولا عويلٌ إلا أتى عليه، ولما فُنيَتْ الصحائف وجفَّ في أصواتها طولُ المناقب، أعادوا الفصاحة إلى أغمادها، وخرّوا صرعى جميهم في شخيرٍ واحد، لا يكاد يُدرك في دويِّه القش من الجريد.
عاد بي الصوت يقهقه ثالثةً:
أسامر في الظلام بنات نعشٍ/ وأسطع في الدويبة والهلال* وسّدتُ القومَ وأطفأتُ مواقيدي، وسحبتُ يدي رويداً رويداً من تلابيب الحلم وعدّتُ إلى نفسي مكوّماً بلا حدقة ولا صوت.





الآراء (0)   

نحن نمقت الإعلانات، ولا نريد إدراجها في موقعنا، ولكن إدارة هذا الموقع تتطلب وقتاً وجهداً، ولا شيء أفضل لإحياء الجهد من القهوة. إن كنت تحب استخدام هذا الموقع، فما رأيك أن تشتري لنا كاسة قهوة على حسابك من هنا :)