فصل كوكب القلب: تكوين لنصب.. تكوين لضريح - عبد الودود سيف | القصيدة.كوم

شاعر وناقد وباحث يمني من رواد الأدب الحديث، ترأس العديد من الصحف والمجلات الأدبية (1946-)


371 | 0 | 0 | 0




1- تقريض منقار الغراب

طلقةٌ دوّتْ فأعلت مئذنة، دهشةٌ تسري فتجبي سوسنة، أيائلٌ تتشرّد في أشتائي، وتجمعني على أحداقها من كل أنحائي.. حتى إذا رجعتُ إليّ موهناً، وانتصبتُ في قامتي، رأيتُ الأيائلَ مسمرةً على سفود شواء، مفحمةً، ورأيتُ ثمة أتربةً وجلبةً ودماميلَ، كأنها حشود: تفقعُ فأرى مواويلَ (هكذا تسمى) ومساميرَ غناءْ، وتتقيح فأرى في لفائفها أقواماً، كما لو أنهم خلقوا للتوَّ، عرايا.. يغوطون في أصواتهم، وينسجون لهم من جلود الأيائل طبولاً، ومن قرونها رماحاً، ويرقصون مبتهجين بموتاهم، ثم يمضون إلى جهةٍ لا أعلمها في أفراحهم، (قيل) كي يفتتحوا في أعشاش الغربان ثكناتٍ، و(قيل) كي يطيلوا ـ قليلاً ـ بمناقير الغربان، ويبنوا بأصواتها أسماءً استثنائية لما يزمعون خوضه من حروب.
هذا أول اليابسة: صخبٌ كرائحة التبن المحروق، ” وعراكٌ مثلُ لقاح الحدآت: صراخُ من أدنى وصراخٌ من أعلى“ * وصيبانٌ تنكِّس أعلامها، فتفقس وتشبُّ وتنسلُ قبل الأوان، جبّانة تعتل جبّانةً، وتعتكزان ـ معاً ـ أضرحتهما، وتقبلان إليَ تلوحان بقواقع موتاها كي أصمت. صمت مطبقٌ، كل من عليه فانْ، وتحوِّم في دوامة أبهته حمى هذه النسانس والغربانْ، أطبقُ عيني فأرى ظلاماً (قيل إنه مداد).
قلتُ: أحزمُ حقائبي النشوى، في مقابض كفي، وأمشي مغمضاً كما لو أنني أكتبُ وصيّة، وأرجعُ من حيثُ أتيتُ، مُشرداً في أشتاتي.
رجــعــتُ.


2ـ معراج الهاوية

الطرس الأول
مملكة القنب

مقبضٌ حجراً، كأنني أخاف على السماء من الإفلات، وتخاف السماءُ على رأسي من التطاير إلى رذاذ، وليكن! هذه جبانةٌ، وأنا غصنُ توت مدلى بين نهدين. شفتانِ: دمٌ وحناءْ، حناءٌ ودمٌ وأحزانْ، هكذا عدتُ ـ أقول ـ وهذي كل أمتعتي!! وأشير إلى يدي.
مشدودٌ إلى نهاية أهدابي: عكازٌ، من صلاة وأذانْ: أسئلةٌ ملقاةٌ على شفة القاع، تنتظر الغسل، وأخرى في جثمان التيه تطهّمها الأكفانْ، قنديلٌ للصحو، وقنديلٌ للسُكر، وقنديلان ـ أدلّيهما على مهل في سماءٍ القاع ـ لا عليَ.. ولا لي.. قلتُ: ذلك المبضعُ وهاهنا الختانْ.
(وأشرتُ إلى جهةٍ لا أعلمها في اسمي).
* * *

أنا الزغبُ النابت للتوّ، في جسدِ أوراق التوت، والصرخةُ المتخثرّة في أفواه زغاريد الحنّاء، نصُبٌ من الإسفنج، أنا، على بوابة غابة من الإسفلت، وبقعةُ سوادٍ ـ أنا ـ لذنوبٍ لا مغفرة لها، في رقعة صكّ غفرانْ.
* * *

سأجرّعُ من تاهوا بزهوي، كوابيسَ العريَ، النمامةَ في صحوي، وأطيل شجاري الممجوج مع عبّاد الشمس ومع الندمانْ. وأقولُ ـ إذا عدتُ محمولاً على جنائز صحوي ـ: هذي فؤوس النشوى التياهةُ، في سُكري، تدِلق في صحواتي مراثيها. وأنمْ، بأبّهة الأفراسِ، الأفراسَ، وأذمّ الفرسانْ. سأحرّض ريش الطاووس على ذيل الطاووس، وأحرضُ ذيل الطاووس على الطاووس وأغيض بنار الغيرة أنثى الديك على الديك، وأسير أشنّ حروب الفتنة مابين فوانيس الحنّاء وكوابيس الأحزانْ.
أول اليابسة. مذعوراً أستيقظُ من حلمٍ فأراه ينتصب أمامي كسنامٍ على صرح فسيفساءْ، أرى جَلَبةً وأسمعُ أتربةً ودماميلَ كأنها حشودٌ.. فتتشرخ أكواب رأسي ـ هلعاً ـ وأطبقُ عيني.. وأحاول أن أنام..
لُمَت الأرض من أشتاتها وزُمّتْ في كور ناقةٍ ثم زقّتْ محمولة إليَ، وحطت الناقة على أبوابي، لم تجد في أنخابي أكواباً ولم تجد في أشتاتي أشتاتاً.
قلتُ (كأنما أشير إلى الرذاذ المتطاير من رأسي وإلى أضيافي).
خيمتان اصطكتا بجذع وتدٍ، فدوّى رعدٌ واتسعت برقعته بقعُ الصواعق (وأخذت أتحسس رأسي).
جبّانةُ تعتل جبّانةَ وأنا مستظل بين فكيهما، ألوي على حِبال عنقي وثاق الأمانْ.
أنا الطلحُ المسقوفُ فوق أشواك الطلح، وهذه أعشاشي: طللٌ مشروخٌ بلا وجهٍ، يتمايلٌ كأنه كثبان من زجاج، ومرآة.. وسحالٍ وأقبية (أعني كهوفاً) وسحالٍ وأقبية وجرذانْ. ليلٌ ـ من الورس والقنّب الطازج ـ بلا عاصمة، وكتائبُ سوادٍ محشودٍ (قيلَ مدرّعةُ وقيلَ حافيةٌ) على كل كتيبةٍ ملكٌ، ولكل مَلك قبيلةٌ، ولكل قبيلة علمٌ، وإبل وشرطةٌ.. إلخ.. كأن “التيفوئيد” طوطمٌ، وهذه الحشودُ هم السدنةُ والمعابدُ والكهان والرعايا.
يوقظني الحلمُ ويسألني عن اسمي، خلسةً تنكث بي المرايا، وتتقوض الأعشاش (أرى هلام مخاطها يسيل على ماحوله، ويصبح بشكل أدخنة تائهة، تتجمع ـ من بعدُ ـ وتؤلف سحابة سديمٍ.. بلا ضفاف (ويغادرني نبضي (الأحرى: أنه خلّفني بمفردي( ويهرول مسرعاً إلى جهة لا أعلمها من تجاويف ذلك الفراغ الذي خلّفته الأرض، وراءها، بعد أن حُزمت وأؤبطت على كور ناقتها. يسألني الحلم ثانيةً، فيجاوبه من قعر أنقاض الأعشاش المنكوشة، صدى: «أنا الطلحُ المسقوف فوق قمم أشواك الطلح» أهم أن أتطلع إلى مصدر الصوت، فأرى السديم يكسو كل ماحولي، وأسمع الحلم يقهقهُ: لم يعد في الطلحِ طلحٌ، لقد حزم الكهان الطلح مع كامل أمتعتهم، وتاهوا في صيصان الرمل، يبحثون “لأقيالهم” ومعزهمْ عن كلأ وماء (يقصد فؤوساً ودماء).
قهقه الحلم فانزاح عن كاهلي سربٌ ـ غير كامل ـ من ألوان طيف الفزع المزركش بلون العصي والخوذات وبزات الكاكي، وبغتةً عاد لي، بدون لا أدري، نبضي فاستأنستُ بعودته، وأجبتُ ـ أنا بدوري ـ: “أنا مداد هذي الملصقات جميعاً” وأشرت للخرائب المكومة من حولي وخلفي وأمامي وفوق رأسي وآباطي وبين أحذيتي، كأن الحلم أستأنس معي أيضاً، فقال: أنا حاجب مملكة القنب، أدخل! هنالك التخت (وأشار إلى جهة لم أرها) وهنا الإيوانْ. (وأشار إلى موضع انفرجت منه على الفور فوهة).
كأنني صرحتُ بالقنب بلاطاً مترامي الأركانْ. أين الزجاج فأريه وجه دلائه المكسور على لآلىء رخام بهو القاع؟ هكذا قلت لنفسي، قبل أن أخطو. دخلتُ: أحدّق فلا أرى شيئاً، وأحدّق، فأرى العتمة: هاويةٌ معتمة بلا قيعانْ، صُرّة محشوةٌ بالصواعق والمطارق وأعقاب البنادق والعفونة والدخانْ، مشكوكةٌ من الأعلى إلى الأدنى، وما بينهما “كنارجيلة” (قلت في سري: لعلها التخت!): لا كوةٌ فيها ولا بابْ. من أتاها، تاهَ، وظل يخبط في مداها، إلى مالا طائل، ويخلط الآس والصبّار والقنب في إبط حزمةٍ ثم يأخذُ يتفرس أسماءها في وجوه العتمة.
أتفرس أسماء أحمالي (وأمتعتي) في وجوه العتمة فلا أرى ـ في قبضتي ـ شيئاً.
وأحدّق فيها فأرى العتمةَ: هاويةٌ معتمةٌ بلا وجوه ولا أسماء، صرةٌ محشوة بسحائب سديم، مشكوكةٌ من الأفق إلى الأفق، ومابينهما، كدخان “نارجيلة” بلا قُمعٍ ولا تبغٍ، من أتاهُ يتوهُ، ويتحسس الآس، بين أعتال القنّب والصبار فيدمي أصابعه.. بلا طائل. كأنني صرحتُ بأعقاب الزجاج سياجاً لمملكة بلا قاع ولا سماء، هاهي العتمةُ نعشٌ خالٍ من أي عرش، تَمتَمتُ ـ هكذا ـ وخايلني الزهو بأنني أتفيأ “سرّجين” أحلامي في سراديب أمعاء الموت. ورحتُ أتحسس أعضائي كي أحصي مابقي لي منها، وأحسبُ ما قُيض لي بالتبرك به منها، ودفعه ضرائباً، وزكاةً على جدران الموت. ثمة غزلان حمراءٌ تتفصد كنوافير الحناء بين أصابعي، وثمة إعياءٌ يتوسدني، خايلني الزهو ـ ثانيةً ـ بأنني “بطريرك” متعبُ، يبحث في بقية أكوامه التعبى عن بقية كرسي، ليدلي عليه باعتراف ـ أخير ـ ويعود إلى تعبه، على جنازةٍ ويظلُ فيه كما كانْ: بطريركا متعباً، يناوشه في أضغاث تعبه ظلمةٌ.. وبقايا زهو. تطبقُ صرخةٌ: ذلك هو أنت! وتتردد الصرخة في كل أنحائي، إذنْ ماأزال بكامل طابور أعضائي. أعطيتُ نفسي حق الإفتاء. يناوشني تيهٌ أن أعلن ذلك في مرسوم يخصني وأقضي به بعض مافي ذمتي للزجاج من دَينْ.
أعدِّي ـ يامواعيدي ـ الطروسَ والأطالسَ والمرايا. هذه ليلتي بستة أيام، عجاف، مترباتٍ، عرايا. ليلةٌ لا سكرٌ فيها ولا ندمانْ ولا صخبٌ ولا كوابيس. أين أيائلي فأعتقها؟ وأين أشتائي فأطبقها على أحداق أيائلي كسنائم الإبل؟ قراطيسٌ كأنها “البرطمانات” وظلامٌ كأنهُ طواويسُ المحابر، وأقلام سأمشجها من صراخات نفاس أشواك الطلح، وهي تتبوأ مقاعد ولادتها على ضرام حطامي في معمعة ـ ما يتولاني أو أتولاه من روعٍ على صهد ـ هذا الأتون. وأشير إلى.. لا أدري!
أتحسس أعضائي فأحسُ كأنني أقبضتُ ببداية خيط: قلتُ: أتبعُ هذا الخيط إلى أوله، وألفه على سُرتي، كمشكاةٍ، وأصعدُ في حبال وهجه، أتعسس من عليائه ما يحيط بأكنّتي من جدرانٍ وسقوفٍ وأسوارٍ وزوايا.
أسيرُ أتحسس حُبيبات الظلمة وحبالها كالأعمى، وأجدني كأني أنتهيت إلى نقطة بيضاء، وحيدةً في دغلي، أتحسس نقطتي البيضاء فأجدني أراها بدون أن تمتد إلى قاعاتها يدي، من هنالك أبدأُ، ومن سفح تلك النقطة سيدوّي قوس قزحي ـ المكسور ـ وستخرج قطعان خيولي وأيائلي ترعى في سهوب الطروس والمحابر والألوانْ، وأشير إلى فمي، كأنني ولدتُ.
فلأدخلْ إلى بوابة عمري ـ ثانية ـ من بياض تلك الفوهة. وأشيرُ ثلاثاً إلى فمي.

الطرس الثاني
سيرة موجزة لزنبقة زهرة القطن

فمي أوّلُ الحقب المأهولة في جذوع شجر “السلّم” ونهاية أحقاب نجمة “الكاذي” المدلاة من بين سحائب أفلاكه: المسماة أغصانْ.
طفلٌ تورعَ عن الدعابة، فخايله الشكُ في ولادته، وولدَ فظاً كأنواء الطلح، قاسَمَته القبائل موائد أنسابها فتهجاها كما يتهجى طفل ـ طيّعٌ ـ أسمه لأول مرة، وحين لم يجد في طلاسمها بلسماً، مجّها وبصق لعاب مرارتها على موائد الطلح ومواعيده وقصائده ودُمَاه البهية والمسلية.
هو ذا يبزغ من كتّانه، أبيضَ، كزنابق غلال القطن، ويُدلّي في فراغ الركام ـ المطبق من حوله ـ لسانه.. كما لو كان يحاول أن يبش في المجاملة ويغدق عليه تحايا الثناء. أغْضُضْن الطرف ياعذارى «ـ كهلان ـ» فثمة اسم ينبغي التلفظ به في حضرة هذا الجناز، على غيبة من أسماع العذارى.

أقيمُ نصباً لأقدام المارة في شوارعٍ: تائهةٍ، تركض على عجلٍ في طوابير أقدام الزحمة، وأعيد تحريض هذا النصب على المارة، ويكشف لهم مابين فخذيه، صلفاً أو استلطافاً أو استهجانْ. نصباً من ضوضاءٍ ومن يقطين، فاغراً أوداج جسده كأكّف المتسولين.
ومرتبكاً ـ في حشود المارة ـ كجندي مرور ينظم زحام طوابير المرور، بدون أن يقصد تنظيمها، وبدون أن يعرف ـ أصلاً ـ قوانين سير جنازات هذه الطوابير.
في الوقت متسعٌ لأن أصلّي، وفي الوقت متسع لأن....... على وجوه هذه اللفائف والدُمى. سأنسج من جثمان الريح قفطاناً، أسميه مزماراً، وأمشي أحشوه بجثة أصواته، حتى إذا انتفختْ جلابيب الريح بجثتها، سُرتُ من خلفها أفرقعُ بالونها، وأصغي لوقع دويها على أخشاب مزماري. يدوي المزمارْ..
حجرٌ يأتبط الفوضى بضوضائي، صراخّ محكمّ، أسماءّ للنعي وأخرى للهجاءْ. قلتُ: صُفّتْ في فمي أضرحتي الحسنى. أنا/كل هذا الحشو محشواً بيقطينٍ وقارْ.
عنقٌ يأخذ مني شكل سكينٍ، ويهوي..
في دمي المذبوح صحراءٌ، وغزلانٌ، سلالٌ سفحت للعنق بالرمل، وأقمار مدلاةٌ بعنق الرملِ، طاحونٌ وعصيانٌ.
جنودٌ شببوا بالقتلِ. أقفالٌ مقفاةٌ. ملوكّ يقرأون الشعرَ..
لا شيىء.. سباب مسهبٌ تعلوه أيدٍ.. وشجارْ. حجرٌ يوغل في اللغو، فأطريهِ بضحكات العصافير، وأسري تحت جنح السهو.. أضرى الألسنة. قلتُ: دوّتْ في دمي أمتعتي الحسنا. دمي/كل هذا اللهو محشواً باسفنجٍ ونارْ.
طالت الريح بعكازينِ: هذا رجع مزماري كمهمازٍ، وتلك الأحصنة. وأدرتُ التيه نحوي، ثم أسرجتُ العنانْ.
وأخذتُ أصغي.


3ـ تكوين

طلقةٌ دوّتْ فأعلتْ مئذنةْ. دهشةٌ أسرتْ فزفّتْ سوسنةْ. أيائلٌ مفحّمةٌ، وأخرى واجمةْ ـ تقلّب أكف دهشتها ـ في زجرات دقات الطبول، وثالثةٌ ـ نافراتٌ ـ في الهراوات والرماح، قلتُ: اجمع من رذاذ أشتات الهجاء، أشتاتي، وآتي كأنني أدعو، وأمشي كأنني أؤذن، وأدخلُ من أول قبلة، وأأتبط المحراب، دخلتُ، القوم يغطون في هلام أحلام أشباحهم العارية: ديكةٌ بلا مناقير، ودجاجٌ مثلجٌ ـ بكامل أحمال ريشه ـ يحمنَ من حول أشباحهن (قيل يؤدين فروض الطاعة، وقيل يقمْنَ بدوريات حراسة من حول أسوار السلاسل). ما للقوم فللقوم! وما كان لي فهو لي! هكذا قُلْتُ وأنا أجمع أشتاتي من أحداق أيائلي المسلوبة، فعدتُ وانتصبتْ بي قامتي. لم يكن قبلي ولابعدي أحدْ. كان كل ماحولي سهبُ خبتٍ ممرع بأعشاب السديم؛ مترامٍ كذراع شيطان، وتشمخ ـ عند نقطة المنتصف ـ منه مئذنةٌ، قيل: إنها شاهد القبر، وقيل: بل إنها القامة ـ الوحيدة ـ في حَدَبة ظهر ذلك المنحني.
هذه أول نطفة ماء على جلد اليابسةْ، لا زبرجدٌ في يدي أهديه، ولا مصاحفٌ.. ولا خواتم فسيفساءْ، كأني في نومٍ، أرجع إليَ ـ من أحد أسفاري ـ موهناً، وأطرقُ باب دارٍ (كان لي فيه أهلٌ وجثمانٌ وندمان وبضعة أصدقاء) فلا أسمع لطرقاتي صوتاً. البابُ موصدٌ والدار غدا مئذنةً. أعالج المعلاج وأفتحه وأدخل، ثم أجلسُ إلى حافة حلمٍ (قيل بقيةُ كرسيٍ وقيلَ حنجرة أذانْ) وآخذ أتثاءب ويغلبني النعاس..
كأنني في حلم، تطبق كفي على فمي المتثائب، فتصطاد قُبّرةً، ويستيقظ من وهنه. تطير القبّرةُ في أسراب الفضاء، وينهض من صمته، كأنه ـ في إحدى شرفات مأذنته ـ يلوّح لقبرته بكلتا كفيه.. يودّعها، وأنا مستغرق في نعاس أحلامي بينهما..
ثمة قُبلةٌ تُطبع على شفتي، لا تلبث أن تنكسر إلى قوسين على دائرة فمي. يأخذني دوي القبلة من أحضان صمتي، وأسطع في صدى رنينه، نأمةً نأمةً، وكلمةً كلمةً، ولحناً لحناً، وأحتشد في موجة نشيد، يغطي الأفق، ولايلبث أن يحشد في مواكب ألْحاني، كوكباً كاملاً مأهولاً بالأزهار والنحل وأغصان الغناءْ.
أقول آنئذٍ: الآن أتسعتْ قامتي لما حولها من سموات أدعيتي. أنا البرعمُ وهذه أزهار سوسني (وأحاول أشير إلى رنين صوت القُبلة المنداح في حواس سمعي).
القُبلة كساءٌ منسوجٌ في رقعة ثوبٍ دائري من نصفين. كل نصف يأخذ شكل قوس. وأنا أمشي أحشو بينهما عظام قامتي. قوسان عاريان. مسكونان. بلحم وتر قيل: من توتٍ. وقيل: من قنّبٍ، وقيلَ: قصائدٌ من عوسجٍ وأقحوانْ. أمشي أدحرج قامتي في ملكوت الدائرة كي أوسع الشقوق بين قوسيها، وأطيل بقامة وترها؛ مابين نقطة المركز، المسماة قلباً، ونقاط خطوط المحيط، المدلاة على سقفي وقاعي كأغصان الطلح وجذع الطلح. من رآني قال: تلك قُبلةٌ وأشار إليَ وأنا أترامى في جثماني كمنطادٍ يزمع السباحة في حوض أمواج الأعالي. ومن لم يرني، قال: تلك كرة نارٍ تتغوط في أفواه لفائفٍ (مكومةً أبراجاً أبراجاً، في سفوح صحراء) مسرّحةً ومهندمةً، بكثبان البرسيم، يقول: كرةً، ويشير إلى المنطاد، ويقول: صحراء وكثبان برسيم ويشير إلى القوم وهم يغطون في سبات ظلام أشباحهم العارية. وأسأله عن الشخص الثالث ـ الغائب ـ مابين الكرة والصحراء والكثبان، فيومئ لي أن أسكت: كأنني أحاول سؤاله ثانيةً، فأتذكر شيئاً ما، وأسكتُ.
الكل مصغٍ وأنا أتحلق من حولهم بطوابير«غير مسلحة» من جنود الدهشة. لم يكن ثمة رصاصٌ ولابنادقٌ فأسألهما، ولم يكن ثمة قبائلُ فأؤاخيها. كل شيء ـ في سموات هذه الأدعية ـ كان مطلقاً (على عواهنه) وحدها الدهشة كانت تأتي ناكسةً إلى حداد أحداقي، فتقبض في تلابييها ولاتغادرها. ووحده كان فمي مطبقاً، بدون صمت أو كلام. أحدّق فتنهرني الدهشة وترجع عيوني إلى مواضعها. وأشير إلى مابعد أنفي، فتحطُ فراشة الإشارة أجنحتَها على عُشَّ الضوء في فمي.
وأتكلم فأرى الصوت يخرج من الصوت مثل الموزة المولودة على شجرتها، عاريةٌ بدون قشرة. أي صوت هذا الصوت الذي يرتكب ـ في داخله ـ فعل ما لا يحصى من الجنايات كي يصل إلى مقره الأخير في دعابة هذه الجنائز؛ ثم يأتي إليها فيدخل إلى أكناس أرحامها، ولايراه أحد من طوابير تلك المجندات، المضطجعات على سرر الطاعة ـ في صهال دورياتها ـ كأنهنّ غلمانٌ بلحى؟ كل شيء في أعراس هذا الهجاء كان مصبوغاً بطلاء عشر ولائم مترعات بالهجاء. وليكن! إنني متعبٌ، وأنا قاضي زواج العمياء بالأعمى والأخرس بالخرساء في حفل هذا الزفاف. كلُّ شيء كان مطبوخاً ومأكولاً في هذه الوليمة المعدة سلفاً..
لم يكن ثمة بدءٌ، ولم يكن ثمة سقفٌ أو قاعْ. ألواح المراكب. كما كانت في صدف الأخشابْ، والقواقعُ، حصى، والسراب صدى، والرعودُ ترابْ، الصراخُ يقطينٌ، لم يطقْ دفع فديته، فأمّ ـ قبيلة أجداده ـ في أصلاب الملح ( وقيل في أصلاب الدمع) والوقت كسّرَ ساعته الرملية، فأصبح ميزاباً، والأرض هدهدٌ مسودٌ (وقيل مغمضٌ) بلا أجفانْ. كل ما أتى، من قبل، عاد إلى مواضعه، يبحث له بين أنساب هذه القبائل عن نسب.
دَوَّتْ في المناقير المناقير، وحوّمت في الأسراب جرادٌ، واتسعت في دوامة الهباء أسرابُ الهباء، قلتُ: آتي كأنني أدعو، وأمشي كأنني أؤذن. طلقةٌ واحدةٌ ـ كانت ـ تكفي لعتق كل هذه السوائم، وتقويض نسانس هذا الفراغ، وليكن! إنني متعبٌ وهذا أول الجدران الأربعة في قفطان زنزانتي، هذا أول صوتٍ على حنجرة هذا اليبابْ.
للنهود مصابيحٌ، وللفوانيس حلماتٌ، وللزلازل ـ أيضاً ـ أفواه.
أمُّنا الأرضُ، ونحنُ الجنادب الناتئةُ على جلدها المتآكل (بزحاف أجسادنا العصماء) كفضلات البرسيم، طلقةٌ أو دهشةٌ تكفي لأن أضرم أمتعتي في طبول نياشيني، وأمشي مفوّهاً، كحلزونٍ، في صَدَفِة هذا النتوء. أطلقوا الدهشة من أغصاني كي أرى أسرابي على طوفان هذا الجراد، وآتي كجندب: في فمه قشةٌ، وفي قمصانه دهاليزٌ، آتي: مقبضاً في يدي حجراً، وفي طواحيني أبّهةً، ومصاطبُ للعراكْ، وأوسمةٌ (سأسميها زعانفاً) وفضاءٌ للسباقْ.
آتي: سنبلةً للزفاف، أو شارةً للهلاكْ.
مُرتجلاً كضوضـاء النواقيس. لي مواقيتي.. وأدعيتي. من رآني أدفُّ الأرض كجمجةٍ في مصاحف أقواسي، قال:
هذه قُبلةٌ وأشار إلى يدي وهي تدفن في ظلمة النواقيس (أعني طرقاتها بدونما طائل)، وناولني وردةً، ومن لم يرني قال: تلك أحصنةٌ أخطأتها حلباتُ السباق، وأشار بكلتا يديه إلى حنجرتي، وناولني جثةً (يسميها مرثاةً).
قلتُ: أسطعُ من وردةٍ، وأسير على جثةٍ، وأجيء أدحرج بينهما قامة المومياء. وأشرتُ إلى القوم وهم يغوطون في أصواتهم، ويهيلون على أفراحي الولائم والسباب.
الكفنُ مطبقٌ، والحَنوطُ معطبٌ، وأنا أتولاهما مُناصفةً فأيهما في فمي القنيصة وأيهما في شفاهي الشراكْ؟
* * *

طلقةٌ دوّتْ فأعلنتْ مئذنة، دهشةٌ أسرتْ ففاحتْ سوسنة، قلتُ: هذي، إذن، شفتاي، وأشرت إلى قوسين في رفّيهما قُبلةٌ ومرثاةٌ، وأشرتُ إلى مابينهما. من رآني ومن لم يرني وأنا أنفخ في جثمان الريح بالون أخشابي، وأسير أفصّد فيها مزاميري، قال: ذلك هو أنا، وأشار إلى نفسه وأمعن في الحياء.
حجرٌ، يأخذني من صهوة الحلم على مهلٍ، ويكسوني بمنقارٍ، وآتي راجلاً. ليس في الجفن مناطيدٌ فأطويها على عنقي، إذا دوّتْ بأجفاني نفايا روث تلك المزبلة.
ليس للأكفان بوابٌ، إذا جئتُ، فأحشو صوته (بالبزر) أو أهديه إكليل صراخْ.
كل ما يصلحُ للدفنِ فمدفونٌ ـ بحذقٍ ـ خلفَ صمتٍ أو بكاءْ. تائهٌ والتيهُ في كفي طبولٌ وحجارْ. تائهٌ والتيه فرجالٌ بومض الجلنارْ.
قلتُ: أطلي سحبَ السرو بصفصاف الهجاءْ.
أي ألواني بغمض الطيف أحلى؟ سرُر النوم بأقفالٍ وحلمٍ؟ أم شجار الروح بالحلم اكتئاباً. وانفجار الرأس ـ لكن ـ مثل بالونٍ على طعم الكلام؟
* * *

عنكبوتُ الرمل يبني فوق أقفاص توابيتي سفوحاً.. وحمامْ. وجناناً مثل وخز الشك، ملساءً بلا صوت ولا اسمٍ، قلتُ: قد جادَت عناقيدي وأهدتْ سنبلة. سوف ألقي طمي )أقليدس( في وحلي، وأطري بدم المقتول لطفَ القتلة. سوف ألغي كل شكل يأخذ الصمتُ به حجماً، ومقياساً لمرسوم بمرثاةٍ، وألغي كل شكل ليس دهليزاً ولاخبتاً، وأطفي صخب )النيروز( في صوتي، وأحفو مزماري، إذا سار بإيقاعٍ، وآتي في حشودي مثلَ صبّار على قبضةِ زلزال.
وأنهي الأسئلة.
***

هذه أول صرخةٍ على حلق اليابسة. استيقظ من حلم فأراه ينتصبُ أمامي، كأيقونة، وأسأله عن اسمه، فيقول: أنا صبارة الفسيفساء.
ألبسه أحداقي فيأخذ ينظر بجفني.
رويداً رويداً تنقشعُ أسمال العتمة عن هدبي، وأرى ما يشبه منطاد فخّار، يرتص من أول أحداقي إلى نهاية مالا أرى. قال: تلك جبانةٌ وأنت غصن توت بين نهدين، تستر ماعرا بينهما )وتستطيل إلى الأسفل قليلاً)، وليكن! أنت متعبٌ وهذا أول ماتخيّل في سهوك المبارك من حِناء ونعاس.. وأخذنا نصغي..
تنكسر الكرة إلى قوسين ووتر، فيعلو في الصراخ الصراخُ، ويخلد الصمتُ، منتحباً، خلف جدران الصمت، وأنحبس أنا بينهما، مرتجفاً، كحلزون في غماد أصداف الدهشة، قلتُ أخفف من غلواء دهشتي وأشبك يدي بأول ما يعلق في أصابعها من فأس أو حجر، وأقذف به أول من أصادفه اليوم أو غداً أو بعد غد. يدٌ في الصراخ ويدٌ في الصمت، وكفان بينهما ترتعشان بخصلات الدعاء. تنطبقُ الكفان كأنما لتسلما عليَ. أفرقع أصابعي على سبيل رد التحية، وأقبضُ شيئاً ما، في كفي اليمني، وشيئاً ما، في كفي اليسرى. أنتما المأذنتان وأنا الأذان. هذا قوس الأعلى ـ قلتُ ـ وأشرتُ إلى أحد جذعي الدائرة (مما كان في يدي اليمنى) وهذا قوس الأدنى (مما كان في يدي اليسرى) وهذا أنا (وأشرت إلى الوتر)، فطارت من كفي اليمنى حمامةٌ، وغيّمتْ في الأعلى (قيل إنها الدهشة) وأنهدَّ من كفي اليسرى قفصٌ، وغاب في وحل القاع، (قيل كانت صرخة ثم صارت طلقةً ثم صارت جثمانْ) وظللتُ أنا بينهما كجبانة مشبوحة على شكل وتر ( قيل إنها البكاء).
* * *

صفاً صفاً تتسق قبابُ الأعلى في الأعلى، وركناً ركناً ينهدُّ بساط القاع على القاعْ، كل شيء كما كان في بدئه؛ قبل أن يستوي الشاعر في ملكوت القصيدة، أو تبزغُ الأرض من سموات الخطى، وليكن: كلِّ تسبيحة في فمي مَلَكاَ، وكلُّ قافلة في هبوبي غبارْ. وليكن: كلُّ مايصلح للغناء يصلح للبكاءْ.
* * *

أنا الآن قوس قزح: أسماءٌ للعوسج، وطلاءٌ للبنفسج، خُيّرتُ بأيهما أجيءْ، قلتُ هكذا ـ أجيء ـ كما أنا: جثةً تأخذ شكل مرثاةٍ، فتبني خيمةً، خيمة أنصبها على سقفي فتغدو وطناً.



الآراء (0)   

دعمك البسيط يساعدنا على:

- إبقاء الموقع حيّاً
- إبقاء الموقع نظيفاً بلا إعلانات

يمكنك دعمنا بشراء كاسة قهوة لنا من هنا: