فصل كوكب القلب: فرس الروح - عبد الودود سيف | القصيدة.كوم

شاعر وناقد وباحث يمني من رواد الأدب الحديث، ترأس العديد من الصحف والمجلات الأدبية (1946-)


310 | 0 | 0 | 0



1- دائرة الخردل

حبةَ خردل كان القلب، لكنه استطال في محاريب أضوائي كمعراج ضوضاء، شمعدان أبيضُ في كرنفال شمع أسود: قيلَ: من فضة، وقيلَ سديمٌ وقيلَ: نحاس.. وقيلَ استدار من أقصاه إلى أقصاه في قامة دائرة حِناء مسورة بأصداف الشُهب، ومقببةٍ بشمع الأرجوان، سماءٌ دائرية كسقف الرحى، تبدأ فيها الطواف من نقطةٍ، وتدور منها مُيمماً على كل الجهات، ثم تنتهي إلى النقطة إيَّاها، التي بدأتَ منها دورانك الأعمى على جهات نفسك كلها.
أنت، إذن، على شكل كوكبٍ مترام: بين آخرتك وابتدائك.
ليل ـ مسقوف بظل ليل ـ بلا نهار، ونهارٌ ـ متصل بنهارٍ ـ بلا ليل.. سلسلة من الكمائن وأدغال الطلقات المصوبة إلى صمتك من كل صوب، والمرتدة إلى صوتك، أو صدرك، من دهاليز الغيب.. من دونما صوب.
ولأقلْ: أنت ثوبٌ بدون نسج، ويدان بلا ساعدين ولا راحةٍ.
فرسٌ ـ أنت ـ ورهانْ: تنتظران انجلاء سباقٍ.. ولكن بدون أن يكون هناك حلبةٌ، وبدون أن يكون هنالك ركض، كأنكما تلوِّحان بكفيكما للتحية.. وليس ثمةُ من تحييانْ.
* * *

يجيء القنَّبُ إلى سفوح أصابعك عارياً، فتكسو جسده ـ المشبي ـ كصبَّار، ببلاطٍ، ويخرجُ من بين يديك وقد نصَّب على بوابة أليافه، أحدَ أنجاله حاجباً، فلا يؤذن لك، بعدئذ، الدخول إلى سُدة القنَّب إلاّ بشفاعة الخرز والمخرز.
ويصطحبك الزجاج معه في رحلة صيدٍ، أو استجمام، إلى جهةٍ ما، في فلوات خٌبوت الزجاج، ثمَّ يكسِّر ـ أمامك ـ في الطريق كل صحافهِ وأمتعته، ويقول لك: أنا الوجه وأنت المرآة، عينتك مفتياً على هذه الحشود! لُمْ من قطعانها (ويشير إلى نثار آنيته المهمشة) ما يكفي لتمسيد عنق حمامة، واتبعني! ويهرول ناكصاً إلى حيث كانْ: في أكوام الرمال، وكمن يحملُ في يمينه مخرزاً “ويزعمُ أنهُ إزميل” ويحمل في يساره كومةً من الرمل المتصلد، والمخضَّبِ بما يشبه بقع الحناء الجافة والطازجة (ويزعمُ انها صلصالٌ أو رخام) تهرول أنت راكضاً، إثره، كي تريه وجهه ـ الأول ـ في المرآة، ثانية.
أنت الآن بين الوجه والمرآة: من أمامك قنبُ، على هيئة جنائز الصبّار يأتي ويلقي بأحماله إليك، ويلتمس منك برء رضوضه، وإعادة تسريح قوامه، ومن ورائك وبين أصابعك أنصابُ آنيةٍ مهدومة، على شكل أكوامٍ، تستفتيك كيف تعيدُ لأم كسورها بين يديك!
* * *

الرصاصةُ ماتزال تدّوي في الجو، لم تحط ـ بعدُ ـ على بهو الجثمانْ.
وأنت تحوِّم بينهما كقبرةٍ مروعةٍ: بلا ريش ولا حنجرةٍ ولا قفصٍ ولا سماء.
من أمامك رصاصةٌ ومن داخلك صمتٌ، صليبٌ أسودُ ـ أنت ـ يتدلى في عنق “بطريرك” متعبٍ، يبحثُ ـ في أكوام تعبه ـ عن بقية كرسي، ليقعد أو ليدلي باعتراف أو ليؤم جنازةً، لا فرق، مصبوغٌ من الخارج بجرة ـ كاملة ـ من الورس، ونيئ من الداخل كجوزة «نارجين» نيئة.
أيهما الوجه في روحك وأيهما المرآة؟
هل أقول: خطوةٌ أنت بلا ابتداء، وسفرٌ طائلٌ، إلى مالا طائل، بلا انتهاء؟ أنت منذ الآن..
سبحةٌ وتسبيحٌ في صوت وكفٌ واحدة: حيثُ لا يكون ثمةَ صوتٌ تسبّحُ به، وتسبيحٌ ينطق باسمك، فأنت لست أنت.
اخرجْ من حشود الطوابير في نفسك إلى خارج أقواس نسكك وأنظر ماذا سترى؟
أقول أنا: لن ترى شيئاً، سترى كرةً (من صمت وربما من صراخ) ومن حولها معولٌ (وقد تظنُ الكرةَ حلزوناً أو قنفذاً) وأراك تأخذ المعول وتهوي به على كومة ـ ذلك اللفاف، يهوي المعول على رأسك، كرصاصةٍ، (فتقول في نفسك: الآن حطت الطلقة) وتقوضه، آنئذٍ أراك تدلف ثانيةً إلى فوهة الدهليز (كأنك تتحسس موضع انطلاق الطلقة) تفتش في أكوام لفائفها عن بذرة الخردل قبل أن يكون حبة، ، ثم أراك تعيد تأليف قبتها نقطةً نقطةً وفصاً فصاً وقوساً قوساً، فتعود دائرةً، كما كانت، وتدليّها ـ ثانية ـ كنجفةٍ بين سماء القلب وقاعه، وإذا رأيتُك فرغت من كل المراسيم، قلتُ ـ أو قلتَ ـ: الآن تصدح شبابةُ القلب في التسبيح على فمي.


2- فراشة الجلّنار

شرارةٌ أنا، وأنت الصوانْ، أورامُ جسدنا المتعب، أحطابٌ، وقلقُ الروح مدفأةً، ونحن نجلس بينهما القرفصاء، ونحدّق في شبابيك العتمة الموقدةَ في الروح والجسد، وننتظر ـ في العراء ـ انجلاء هبوب العاصفة.
سنلملم أورامنا وحزم قلقنا، ونعتلُ من صقيع الصمت ما بلا فيه من أصواتنا، ونقذفها في الهواء الطلق، كإسفنجةٍ ثم نقولُ لأنفسها:
انقشع ضبابُ العاصفة، ونغرقُ في نعاس أحلامنا.. في صفيح الصقيع.
ستغطُّ أنت في أحلامك، وأظلُّ أحرسك أنا من بُعد.. كي لا يفرَّ من بطاطين أجسادنا الحلمُ، ثم نضطر للخروج لملاحقته في صقيع هذا الليل الموحش.. تهذي..
وأسمعُكَ
كأنك تقول: الحلمُ شجرةُ فسيفساء، والرأس موهن كقُرص الأرض:
يدور على نفسه، طوال العمر، وقد يطبع في الفم، أحياناً، قبلةً.. لكنه لا يبزغ من فلك الحلم، في العمرة سوى مرة واحدة، هم يسمونه عود ثقاب، وسأسميه أنا فراشة الجلنار.
سأدخل إليّ كأنني أسطرلابٌ، وأنقشُ في بذرة فراشتي سقوف عقد فصّ الرمّانْ، ألُمّ حبيباتها من أعواد القاع، وأرُصُّ مشكاته في تجويف إناء، أرص في أصصي: لحائي ونسغه، ولبي وجذعي، ودفقي ونبعي.. وأطوّف ـ لو أشاء ـ في أسئلتي إلى ما أشاء. ثم أصفّها جميعاً في باقة عقدٍ، وأشكه على عنقي كطوق الخردل، وأدور أنا من حول الطوق، كما لو أنني أخلِّقُ أعضائي في قعر منجم فسيفساء، وأنظر من بَعدُ إلى أين ترسو ببحري العاصفة.
نحن الآن بين مقبَض الطرق وتصاعد قوام بذرتنا، على أناة الطرق ـ بمهلٍ ـ في سفوح السندانْ، يدوّي الطرقُ.
طرقة طرقتين.. ثلاثاً.. باقةً لا عد لها، تُضاء في الأحداق بروقُ جفن الصوانْ.. ينقشعُ ضباب العاصفة.



الآراء (0)   

دعمك البسيط يساعدنا على:

- إبقاء الموقع حيّاً
- إبقاء الموقع نظيفاً بلا إعلانات

يمكنك دعمنا بشراء كاسة قهوة لنا من هنا: