فصل مطلع البحر: أسماء للموج.. وألقاب للزبد - عبد الودود سيف | القصيدة.كوم

شاعر وناقد وباحث يمني من رواد الأدب الحديث، ترأس العديد من الصحف والمجلات الأدبية (1946-)


328 | 0 | 0 | 0




(1)

متوجاً بصولجان الرغبة في استئناس جراد الوحش الضال بين أقدامي وخطاي.
أغادر آخر الخرائب المتربة في أسمائي، وأدخل من قبلة الغيم، مؤتلفاً مثل قوس السؤال.
وليكن! إنني متعبٌ وأنا لاريثٌ ولا عجل.
أدخلُ لأخرجَ. وأؤجج أباطيلي لأخمد شهوتي،
ثم أنتظر الذي يلتمع فيها، لحظة إِئتجاج ثقابها..
قبل أن أندمل، وأعود إلى أكفاني، مباركاً، في أجفان النعاس.
وليكن: إنني كاملٌ. وقابلٌ للطلق أو الانكسار.
لي أحلام بعدد ما صُفَّ في مركبي من ألواح.
كل لوح فضاءٌ للوحة. وكل لوحة مبراةٌ لغصنٍ أو حجر.
وأنا أعمى أستدل عليَ من لهبي، وأصعدُ جامحاً في مرايا الدخان، وأنا مرمرٌ ورخام.

أدخل بلسماً وأخرج طلسماً، وأمشي بينهما كأسنان المشط:
أغنيةً تهذي بين الصدى والصوت. تبحث عن سماء ثامنة تنقش في زرقتها اسمها الذي يجملها أو يكمِّلها أو يحمِّلها ذنوب مملكة طروادة. اسم لكل عاصفة ودعاء لكل ناسك. متشعبٌ مثل أفنان السعف، ومتطاول كُعنان السنديان.
وأنا الذي اتسعَ فامتنعَ أن يُقبض بعصاة الفهم. قابلٌ
للتأويل، وقابلٌ للانفضاض أو الصدارة لافرق.
كأنني عصا. أدفق في نبع وأفتق من حجر. من يسرْ معي امتلكني، وإلا امتلكته، وإلا زرعنا بيننا غصن آس، يظللنا بالتوبة معاً، ويسدل علينا أحجار المراثي، فنرجع إلينا، كأننا ولدنا. ثم نمضي: كلٌ إلى حيث ينتهي بعد الفطام.
* * *

أيها المنصتُ إلي كأنني أبكي. هذا رغوُ. فاتسعْ إلى نهاية صفحته الملساء. لا تقل هذا غيمٌ، قبل أن أجلوه بخاتمي إليك، وأسطع من أليافه البيضاء، ممهداً كأنني صرحٌ من نرجس، ولا تقل: هذا رذاذٌ، فينفرط عقد رمانتنا، قبل أن نسقف عرش فصوصها؛ فننتهي حيث نبتدئ، في فلك خطواتنا الأولى: بين قوسي الرذاذ والغيم، فتدخل بي طلسماً وأخرجُ منك طلسماً.
إرتسمْ في قوس عقدي حجراً حجراً، حتى إذا رأيتني أثني بحبل العقد إلى ظلمةٍ، فلا تظنن أنك ستهوي، أنت بين كفي وأناملي، تنثني فيها لتتقوس، وتتقوس لتستدير في قوس المعراج، وإذا مادرتَ فيها دورتك الأولى، فقد اجتزتَ معي قبة الصراط، وبدأتَ تصعدُ فيها ثملاً إلى أول عرش القلب.. حين يكون وجهك مرآة، وبذرك نبتاً، وأنت تستطيل فيهما مدلجاً في الساق. فخذ بيدك إلى بساطي: فصاً فصاً، وغصناً غصناً، وإما استوتْ قبضة الرمان على يديك، فسرِّح عشبك يرعى في أيائلي وخيلي.. إلى ماتشاء.
* * *
سأقول: هذا رغوٌ، وإلا فإن الزبد موجَ والزجاجُ رملٌ، وما يدخل القلب ينشب فيه أظفاره، ويمكث ولا يخرج إلا عنوةً.
هذا أنا أفضي، وبيني وبينك سرجٌ. وبيني وبينك طواويسٌ، ومواعيد تأجل بوحُها، ومواعيد تأخذك إليك من أشتاتها، فأراك كأنك تصلّي،
وتراني كأنني أدعو، فقل: اتسعت الشبهةُ بين الحمامة والغمامة، واستوى عرش الملح على قبضته كأنه بجعٌ، وأخذ يصغي. وأخذتُ أغني.. حتى إذا لفنا البياض في سترة هودج واحد، أخذنا نفرق بين إِسمينا. فأدعوهُ أنا: صواناً ويدعوني هو: شرارة، ويدعونا الفضاء المسافر في سترتنا: رأساً وتاجْ.


(2)

لعله النرجس استطال في فضاء خواتمي، وادَّعي نسبته إليّ، أو أنه انتحل إِسمي، خلسة، ثم خلع عليَ أحد ألقابه، فجئتُ أغفو على وسائده، وأمشي حالماً، وجئتُ أهذي بتفاصيله، وأعود إليَ منقسماً إلى سطح وقاع. في سطحي ماءٌ يدوي. وسفائنٌ تغّني، وفي قاعي أوتارٌ تهذي، ومآذنٌ تصلي. وأنا مشدود إلى نهاية أوتاري، قزحٌ كاملٌ يرفضُ أن يُسمى،
ويتكسّر في مواعين أحلامه إلى مالا يحصى من الأسماء، وبذور الكريستال،
فلأنته إلى حيث انتهيتُ. إما زبداً أقيم به سرجاً لموجة، وإما بحراً، أصطبه على فمي كياقوتةٍ..
وأدخلُ أبيض كالموج، وأصعد أزرقّ كالماء، وأعتلي زرقة السماء ومنبر اللهب.
فليقايضني النرجسُ بنصف أحلامه وممالك شذاه، وأهبه بعض ما في سروي من فضاء. وبعض ما في فضائي من عتاد وأبهةٍ، وندخل متوَّجَيْن بالدهشة والملكوت.
قبلي كان للبحر اسمٌ واحدٌ، وللماء سقفٌ واحدٌ.
وللسماء سبعة أبواب. قلت: اسمٌ واحدٌ يكفي.
وسقفٌ واحدٌ قد يكفي، إذا وسعتهُ إلى آخر
خطاي، وسددتُ الثقوب الوسيعة في مساماته.
ولكن سبعة أبواب لعمر واحد، متفائل كالدعاء، لا تكفي.
وأومأت للبحر أن يتبعني، وللماء أن يغشى في أوردتي، ويخرج ذائعاً من أعراقها، ورددتُ ما للنرجس بي من زهو، وأطلقتُ مافي عصمتي من زهو، وخططتُ آخر الحدود مابيني وبيني، وصعدتُ في جنح الغيم، أفتتح عرش أبوابه كاملةً.
* * *

آخذ بيدي. صاعداً في سلاليم غيمي.
يداي قرنفلةٌ. وفمي أدعيةٌ، وأنا سقفُ ماء.
بعضي ينسجُ بعضي، فأولد بينهما على هيئة كرة من الطين
وأمضي أنقشُ في دائرتها أسمائي..
هذا أنا أقدح حجر صواني، وأسافر في فضاء لمعه،
دخلتُ فليكن نهاية ما يحد الغيم، أولَ ما أشيرُ به إليَ، إذا دخلتُ، وليكن أول ما يبدأ به القلب، آخر ما أحدُّ به فضاء قصيدتي.

وليكن! إنني متعبٌ. وهذا آخر ما أُخيِّلُ في عيني
من أشجار النعاس، وآخر ما تبقى في زندي من قشٍ،
وأقدحه، وأصعد ذاهلاً في جنون القصيدة.
وليكن. إنني على موعدٍ كي أفضَّ بكارة تاج الغيم،
وأجلسُ موهناً على عرشه.
* * *

هذا فضاءٌ من محار. حمائمٌ من فضةٍ، ونساءٌ من
نرجسٍ.. “يهبطنَّ في أكسية البروق وفي يواقيت الندى.
رافلاتٍ بأعشاب الوساوس. يدخلنَّ معطراتٍ بشذى تفاح،
يهيجُ في أوصالي الشهوةَ.. لهتك قناع كل مرآة، وكشف قاع كل قناع”.
أيائلٌ تتشرد في أشتاتي، وتجمعني على أحداقها من كل أنحائي..
حتى إذا رجعتُ إليَّ موهناً، وفتحتُ عيني كأني أستيقظُ من حلم،
وأنهضُ متثائباً، يقولُ لي الحلم: خذني إليك، ندخل نكمل رحلتنا في بساط هذا الفضاء.
تهبط الحمائم من ريشها. والنساء يصعدن إلى صنوجهن، ثم يرشن من ريش الحمائم قيثاراً، ومن سيقان النرجس أوتاراً، وينصبن على أعناق الأيائل هوادجهنَّ ويدخلنَّ مدثراتٍ بإزميل الغناء.
* * *

هو الغيم سُلَّمُك الزجاجُ، إذا خطوتَ، وأوَّل ما تقيم بسقفه زينةً، وتنصبُ هودجاً.
وهو رجوع أصابعك إليك من أقصى إشاراتها، وآخر ما تمدُّ إلى غصنٍ وتقرؤ في كتاب.
وهو انتصاب خندقك الأخير بقبص الموج، والزبد المكسّر،
تحت جنح خاصرة الزبد.
* * *

المدى تفاحةٌ، وأنا سكينٌ، وحيثُ هويتُ، ثقَبتُ على جلدها باباً،
وأطلقتُ العنان للنساء أن يستدرن في خواتيم شهوتي، ويدخلن يتفيأنَ في فضاء أشجاري، وأغصان هواي.
وأنا متعبٌ لا ريثٌ ولا عجلٌ كأن الماء يرسم
في خطاي نافورةً، والطين يفتتح في مداي قبةً.
وأنا أعود إليَ من أقصاي. في يدي مقاليد يدي. وفي
يدي مصابيح القبة والمحراب.
سيقول لي الطين:
هذا يوم أختتم فيه أسفاري وأدخلُ إلى ملكوت
يهبني التهليل، ويخلعُ علي بسطةً.. ينقشُ فيها
بعضي بعضي وأوُلِفُ منها قامتي الواحدة.
ويقول لي الماء:
أنا الجسدُ الذي أعطى للكلمات قوامها، وأنا النبعُ
الذي يؤلفُ بين أشتات الحصى والحجارة والغبار.
دمي يتلو دمي، فينسج سورة ابتدائي، وندخل ننقشُ
في الفضاء خطوط فراشة نرجسنا الواحدة.

دخلتُ..
حيث أخطو ليس ثمة سماء ولا قاع.
أخطو فتنحرفُ بوصلة الجهات، تتسلل
جميعها من قطب واحد، تتجمعُ في نقطةِ مركز
وتخرجُ منها إلى خطوتي لترسمَ فضاء دائرة..
تبدأ الدائرة. تكبر. تكبر. وتصبحُ إلى مالا نهاية،
في حدود الفضاء، إذن بدأتُ...



الآراء (0)   

دعمك البسيط يساعدنا على:

- إبقاء الموقع حيّاً
- إبقاء الموقع نظيفاً بلا إعلانات

يمكنك دعمنا بشراء كاسة قهوة لنا من هنا: