مرثية الأيام الحاضرة - أدونيس | القصيدة.كوم

شاعر وناقد ومفكر ومترجم سوري لبناني، قاد الثورة الحداثوية في النصف الثاني من القرن العشرين، مما ترك أثرا كبيرا على الشعر العربي يشبه تأثير إليوت على الشعر الإنجليزي. حائز على جائزة العويس الثقافية دورة 2002-2003 في مجال الإنجاز الثقافي والعلمي. (1930-)


1252 | 5 | 7 | 2



إلقاء: أدونيس


-1-
عرباتُ النفيْ
تجتازُ الأسوارْ
بين غناءِ النفيْ
وزفيرِ النارْ.

الريحُ ثقيلةٌ علينا ورمادُ أيّامِنا يلبسُ الأرض. نلمحُ روحَنا في بريقِ شفرةٍ أو على طَرَفِ خوذةٍ، وفوق جراحنا يتناثرُ خريفُ الممالح.

بعيداً تجرُّ المأساةُ وجهَ تاريخِنا، وتاريخُنا ذاكرةٌ يثقبُها الرعب، وسهولٌ من الشوكِ الوحشيّ.

في أيّةِ جداولَ بحريّةٍ نغسلُ تاريخَنا المضمّخَ بمسكِ العوانسِ والأراملِ العائداتِ من الحجِّ الملوَّثِ بعَرَقِ الدروايشِ
حيث تنخطفُ السراويلُ وتحظى بربيعها جرادةُ الروح

الليل يتخثَّرُ وفوق جثثِ العصافير تدبُّ طفولةُ النهار
وعبثاً يتزحزحُ البابُ الموصد. ونصرخُ ونحلمُ بالبكاء ولا دمعَ في العيون.

وبلاديَ امرأةٌ من الحمّى، جسرٌ للملذّات يعبرهُ القراصنةُ وتصفّقُ لهم حشودُ الرمل. ومن شرفاتِها البعيدةِ تلمحُ عيونُنا أشياءَ الناس – أضاحيَ لقبورِ الأطفال، مجامرَ للأولياء، شواهدَ من الحجر الأسود؛ والحقولُ مليئةٌ بالعظام والرَّخَمِ، وتماثيلُ البطولةِ جيفٌ ناعمة.

ونمضي، صدورُنا إلى البحر، وفي كلماتنا يرقدُ نحيبُ عصرٍ آخر، وكلماتُنا لا وريثَ لها.

نعانقُ جُزُرَ الوحدة، نشمُّ الغرابةَ البِكرَ في قُعر الهاوية، ونسمع مراكبَنا ترسلُ خوارَها اليائس، واليأسُ هلالٌ طالعٌ والشرُّ في طفولته.

وعند مساقطِ الأنهرِ في بحرِنا الميت، يلدُ الليلُ أعياداً وعرائسَ من الزبد والرمل من الجراد والرمل

ونمضي، الرّعب يحصد الرّكبَ، في منحدراتٍ من الوحلِ والنحيب، والأرض تنزفُ دماً في خواصرنا والبحرُ سدٌّ أخضر.

-2-
في أيِّ ربٍّ جديدْ
تنهضُ أجسادُنا
ضاقَ علينا الحديدْ
وضاقَ جلّادُنا
باسمِ خرابٍ سعيدْ
ييأسُ ميلادُنا –

ضيّقةٌ جباهُ أيّامِنا والسنون عجفاءُ راكدة.

عواصفُنا في خِرَقٍ، وسماؤنا الرمل، وها نحن في مفارقِ الفصول نتحصّنُ بأهدابِنا
ونمشي تحت سماءٍ فسيحةٍ من البغال والمدافع، وغبارُ المقابر يمسكُ بأهدابنا، والأرضُ كلُّها بلون أهدابنا، وأهدابُنا مَخِيطَةٌ بالإبر.

ألحياةُ هزيلةٌ في هذه الدقائق من العمر. النهارُ لا حواجبَ له، وليس للشمس أهدابٌ طويلة. ولا همسَ في بَرَدى والفرات، لا لقاحَ، لا تململ. السلالةُ عاقرٌ في بلادي وخرساء، والتاريخ يحملُ بقاياه إلى أرضٍ أخرى.

أيتها الأرضُ المفروشةُ بالوبر، أيتها الخريطةُ الجامحةُ من القمحِ والنفطِ والمرافئ، يا أرضاً بلونِ الهجرةِ وبلونِ الريح.

- هل ستنهضُ ريحٌ جديدةٌ ضد الرمل؟

وأنتَ أيها المطرُ، أيها المطرُ الذي يغسلُ الأنقاضَ والخرائب، أيها المطرُ الذي يغسلُ الجيفَ، ترفّقْ أيضاً واغسلْ تاريخَ شعبي.

يجهلُ أنَّ الصخرةَ الجارحَهْ
قصيدةٌ مخنوقةٌ في الشفاهْ
ويفهمُ الجاموسةَ النابحَهْ
حمامةً أو زهرةً أو إلهْ.

وذاتَ يومٍ تُبعثُ الحشرجاتْ
في وطنِ الضفادعِ الجائعَهْ
وتنقلُ الخبزَ لنا والصلاةْ
جرادةٌ أو نملةٌ ضائعَهْ.

هو ذا اعترافُ الرمحِ التائه،
هو ذا أنا
اقتلني أيها الصدق.

-3-
- ... تضفّري يا فتوّة بأوراقٍ أكثرَ اخضراراً. لا يزالُ الشعرُ معنا، لا يزالُ الحلمُ:

لسيحونَ هذه الأفراسُ المُحَمِحِمة؛ لخراسانَ هذا الرمّاح. بيتُنا ذهبٌ على سفوح هملايا، وسمرقندُ رايةٌ. بأهدابنا مسحنا جسدَ الأرض، بعروقنا ربطنا الأزهارَ الهاربة. كنّا نغسلُ النهارَ، والحجرُ حريرٌ تحت أقدامنا، والأفقُ صهوةُ جيادنا، ونعالُها الرياحُ الأربع.

تلك هي دروبنا – نتزوّجُ الصاعقة، ونملأُ الأرضَ بصراخ الأشياء الجديدة.

تلك هي تخومُنا – نحنُ أكثرُ اخضراراً من البحر، نحنُ أكثرُ فتوّةً من النهار، والشمسُ بين أصابعنا نردٌ أخضر.

فوق الهاوية سنبني، ولسوف نظلُّ في فوهة المستقبل.
تلك عي عتبة المستقبل:

أسمرُ طالعٌ من البحر، مليءٌ بغبطة الفهد، يعلّمُ الرفضَ؛ يمنح أسماءَ جديدةً وتحت جفونه يتحفّزُ نسرُ المستقبل.

أسمرُ طالعٌ من البحر لا تُغويه أعيادُ الجثث، مليءٌ بالعالم مليءٌ برياحٍ تكنسُ الوباء، والنسمة الخالقة في رياحه تقسرُ الحجرَ على الحب، على الرقص والحب.

آلهةُ الرمل تنطرحُ على جباهها والنبعُ يدفقُ تحت العوسجة؛ ولا موتَ في البحر.

... ونأتي إلى بلادنا الأسيرة حيث المصباحُ كنيسةٌ والنحلةُ راهبة.

-4-
- من أي بلادٍ أتيتَ، من أيِّ حظيرةٍ لا اسمَ لها؟
- لم يكتملْ وطني بعد. روحي بعيدةٌ ولا مُلْكَ لي.

حيث يبدأُ القراصنةُ، تنتهي الكلمة. أحملُ كتبي
وأمضي – أسكنُ في فَيْءِ قلبي وأنسجُ بحريرِ القصائدِ سماءً جديدة.

أيها البحرُ يا صديقَ الجرح، أيها الجرح يا صديق الملح.
أيها البحرُ الأبيض
أيها الفراتُ يا أياماً بلا رقم
أيها العاصي يا سريراً بلا طفل
وأنت يا بَرَدى –

لقد شربتكِ جميعاً وما ارتويت، لكنني تعلّمتُ الحب، ووحده اليأسُ جديرٌ بالحب.


يائسٌ وليسَ من موت، تائهٌ وأكرهُ الهداية، وليس لي قدمٌ في موطني الوحل.

أترك ورائيَ أصدقائي – قضبانَ الحديد والسجون، وأتركُ بلادي لأولئكَ الرواقيين المجانين.

وأمضي وليس لي غيرُ أحزاني ومسافاتي، وفي موكبي حبيبتي وشِعري، وفي عينيَّ يرقدُ شعبيَ الضائع.

وأمضي وأنا أحلم – بالقلوبِ المعلّقةِ في الدوالي والرؤوسِ المزروعة في الحقول، وأتذكرُ أن هذه ليست إلا بقايا أحبابي.

وحين تدخلُ في عروقي رائحةُ البحر، وتملأ شَعرَ حبيبتي قُبَلُ الريحِ وتموتُ الشواطئُ وتُبعث، لن أتذكّرَ غير أمي
وسأنسجُ لها في ذاكرتي حصيراً ليّنةً تجلسُ عليها وتبكي.

وداعاً يا عصرَ الذباب في بلادي.

... ورقٌ ولا حبر، ولا قلبَ ينفضه الحبر واليأس نجمةٌ في الجبين والشرُّ في طفولته والصمتُ رملٌ كاسحٌ ولا ورق.

- من أيّ بلادٍ أتيتَ، من أيِّ حظيرةٍ لا اسمَ لها؟
- لم يكتملْ وطني بعد، روحي بعيدةٌ ولا مُلْكَ لي.






(بيروت، 1958)

نُشرت في العدد السابع-الثامن لمجلة "شعر" بعنوان "وحده اليأس" – حزيران 1958



الآراء (0)   

نحن نمقت الإعلانات، ولا نريد إدراجها في موقعنا، ولكن إدارة هذا الموقع تتطلب وقتاً وجهداً، ولا شيء أفضل لإحياء الجهد من القهوة. إن كنت تحب استخدام هذا الموقع، فما رأيك أن تشتري لنا كاسة قهوة على حسابك من هنا :)