إحصائيات تقييم قصيدة "سيرةُ الزيتون" لـ "محمد الجابري"
عدد التقييمات: |
معدل التقييم: 0
5 star
0
4 star
0
3 star
0
2 star
0
1 star
0
لتقييم وتفضيل ومشاركة جميع قصائد وترجمات الموقع، يتوجب تسجيل الدخول. عملية إنشاء حساب جديد أو تسجيل الدخول لا تستغرق من وقتك دقيقة واحدة، وتتيح لك العديد من المزايا
قيم قصيدة "سيرةُ الزيتون" لـ "محمد الجابري"
سيرةُ الزيتون 0
مشاركة القصيدة
يمشي بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ ويحملُ فأسَهُ
الخضراءَ في لفحِ اللَّظى،
ليُؤسِّسَ الإنسانَ في أرضٍ
على رجْعِ الصَّدى بَعَثَتْ مواجعَها.
وعلى جوانبِ تُرعةٍ أرخى سواعدَهُ
ونامَ، مُحرِّرًا تاريخَهُ البدويَّ
مِنْ أسْرِ المسافةِ والغيابِ،
مُهيِّئًا لُغةَ الحوارِ لمفرداتِ الرَّملِ والماء.
سيحُطُّ في هذي الرِّمالِ سنيَّهُ،
وسيطْرحُ الزَّيتونُ مُبتدِئًا مسيرتَهُ،
وسيكتبُ الشُّعراءُ في زمنٍ
سيُعرفُ بالحداثةِ رُبَّما
أنَّ المجازَ خليفةٌ
للرَّملِ والماءِ المُصلِّي في رحابِ الطِّين.
***
لخمْسٍ مِنْ شتاءاتِ الحكايةِ لمْ يذُقْ أُنثى،
وحيدًا في ازدحامِ القريةِ الأولى،
نبيًّا في بدايةِ عهدِهِ.
يعلو ويهبطُ في البلادِ
يُوزِّعُ الزَّيتونَ مِنْ دمِهِ
على الأسواقِ، ينزفُ وجهُهُ عُمْرًا،
فتُعطيهِ الفتاةُ محارمًا وتقولُ:
فلتمسحْ جبينكَ مِنْ بقايا صبرِكَ الأزليّ.
بنتٌ ينامُ بوجهِها عشرونَ صيفًا ليِّنًا،
يسْتيقظُ البُنُّ المُحوَّجُ في مرايا عينِها،
حتَّى أواخرِ ظهرِها ينسابُ ليلٌ قاتمٌ ومُموَّجٌ،
تتساقطُ الدَّهشاتُ مِنْ أطرافِهِ.
بنتٌ أمازيغيَّةٌ، غجريَّةٌ، بدويَّةٌ، قرويَّةٌ،
في كُلِّ أصنافِ النِّساءِ
ترى ملامحَها تُضيءُ لكَ الرُّؤى.
صَفصافةٌ ينسابُ ظلٌّ هادئٌ منها،
لها قِرْطٌ تدلَّى
فيهِ نجْمٌ والهلالُ يُبشِّرانِ بمطلعِ العيد.
«هلْ تشتري شالًا ومِنْديلًا مِنَ الصُّوفِ القديمِ؟» تقولُ.
فيُرتِّبُ الأنفاسَ في أضلاعِهِ ويُجيبُ:
بلْ أشتريكِ بكُلِّ ما ادَّخرَ الفؤادُ مِنَ الحنين.
عادا معًا لحديقةِ الزَّيتونِ يبتَدئانِ عهْدًا دافئًا،
ويُقطِّرانِ على الثَّرى طينَ المحبَّةِ قطرةً قطرةْ.
في كُلِّ ليلٍ يُشعلُ النِّيرانَ،
يفترشُ الحصيرَ أمامَ بابِ الكوخِ،
يسْألُها الغناءَ فتعْتلي قمرًا وتصْدحُ بالهوى،
ويُصابُ رأسُهُ مِنْ ثُمالةِ حِجْرِها.
«فلتَبْنِ لي دارًا مِنَ الطِّينِ الوفيِّ» تقولُ غُنوتُها
فيغرسُ فأسَهُ السَّمراءَ في جسمِ التُّرابِ،
يُشيِّدُ الدَّارَ الوسيعةَ غُرفتَينِ ومخزنًا للعُمرِ،
تقذفهُ الرَّفيقةُ بالمحبَّةِ كُتلةً مِنْ طينِ كفَّيها
ويَصْهَلُ ضِحكُها.
يجري عليها، يسْتحمُّ كلاهُما بالطِّينِ
يصطادُ الصَّدى طيرَ الطُّفولةِ ضاحكًا،
ومُلوَّثانِ بطينةٍ يتطارحانِ الحبَّ،
تسْعةُ أشهُرٍ وتضجُّ دارُهما بصرخةِ وافدٍ
سيُدوِّنُ الزَّيتونُ قصَّتَهُ.
***
مَرَّ الرَّبيعُ على الحكايةِ حامًلا تِسْعًا مِنَ الأولادِ
مُمتلئينَ بالصَّلواتِ، في أعصابهم حملَ التُّرابُ رسالةً
مِنْ ماءِ تُرعتِهم لجذعِ شُجيرةِ الزَّيتونِ،
والأمُّ العظيمةُ طفلةٌ ضحكتْ على الإيقاعِ في سيرِ
الزِّمانِ وغافلتهُ لتمتطي خيلَ الأُنوثةِ نحوَ ألوانِ الحياةِ،
فلمْ يزلْ في الوجهِ مُتَّسعٌ لزينةِ حُسْنِها المصبوبِ
ريًّا مِنْ أباريقِ السَّما.
تصحو الدُّيوكُ على روائحِ خُبزِها،
يسْتخرجونَ الفجرَ مِنْ قُببِ العجينِ
وصحوةِ الفرنِ القديمِ،
لخُبزِها وجهٌ خرافيٌّ مليءٌ بالتَّفاصيلِ
التي تأتي على العمرِ الشَّقيِّ تُضمِّدُه.
في مشهدٍ طالتْ مهابتُهُ حوافَّ القريةِ الأولى
ويحملهُ الرُّواةُ العابرونَ على ربابةِ بوحهمْ،
جلستْ أمامَ الفرنِ تسكُبُ عمرَها في النَّارِ شامخةً،
يسيلُ بوجهِها خمرٌ مِنَ الزَّيتونِ،
تقبْعُ كَنًّتانِ على جوانبها يُهيِّئنَ العجينَ
لفكرةٍ صوفيَّةٍ في الموتِ والبَعثِ الجديد.
***
البيتُ أصبحَ طابقَينِ مِنَ السِّنينَ،
تَسيرُ ملحمةٌ مِنَ الشُّبَّاكِ فوقَ جدارهِ،
وتروحُ للإنسانِ في الحقلِ الكريمِ
لتزرعَ الدُّستورَ في شِريانهِ.
للفأسِ حقٌّ مِنْ عبادتِنا كأوَّلِ آيةٍ نزلتْ على
الفلَّاحِ يتلوها على الطِّينِ المُقدَّسِ في الضُّحى.
للماءِ فلسفةٌ تُطرِّزها الرِّياحُ على جبينِ الأرضِ،
والعطشانُ مَتنُ النَّصِ والتَّفسيرِ
والتَّفسيرُ طينٌ يختفي في العُمرِ، كَمْ باحتْ ملامحُنا بهِ.
نحنُ المسافةُ بينِ باطنِ أرضنا وبواطنِ الإنسانِ،
للإنسانِ صحنٌ مِنْ محبَّتِنا
وكوبٌ مِنْ إدامِ الدَّارِ للغُرباءِ،
والغُرباءُ أبناءُ العُمومةِ في السَّماءِ،
برغمِ ما اختلفتْ لغاتٌ في اللِّقاءِ،
فنحنُ مِنْ طينٍ وطينُ اللهِ توجعُهُ الدِّماء.
***
يأتي الخريفُ على ضلوعِ العُمرِ يُخمدُ نارَها،
تجعيدةٌ في القلبِ تنبتُ كُلَّما اقتُلِعتْ مِنَ الحقلِ
الكريمِ شُجَيرةٌ.
عددٌ من الأحفادِ لا يُحصى،
وربُّ البيتِ يقذفُ ما تساقطَ مِنْ بنيهِ إلى السَّما.
سبعونَ عامًا مُنذُ شيَّدَ بيتَهُ المبعوثَ دفئًا،
حوْلهُ الآنَ البيوتُ تناثرتْ
وتعثَّرتْ دورٌ برحلتِها وضلَّ السَّاكنونَ بيوتَهمْ.
لكنَّهُ ما زالَ بيتَا سيِّدًا لشوارعِ الحيِّ التي
خُلِقتْ بآخرِ حقبتَينِ،
مهيبةٌ جُدرانُهُ
حتَّى وإنْ زحفتْ شقوقُ الوقتِ في أجسادِها.
مِنْ كلِّ شقٍّ في الجدارِ تسيلُ أيَّامٌ
وتسقطُ ضحكةٌ، يتسرَّبُ الدِّفءُ القديمُ مُهاجرًا.
مضغتْ تفاصيلُ الخريفِ ملامحَ الوجهِ الفتيِّ
وأغرقتْ شُطآنَهُ.
يخبو بريقٌ في العيونِ وتصرخُ الرَّعشاتُ في يدِهِ
ليُحرَمَ فأسَهُ؛
فأسًا جوارَ البابِ ما زالتْ تصونُ شموخَها.
في الرُّكنِ يجلسُ معْ رفيقةِ دربِهِ
رغمَ احتضارِ الصَّوتِ في أُذْنَيهما يتهامسانِ،
ويُشعلُ المصباحَ بالزَّيتِ العتيقِ مُصمِّمًا ألَّا تمسَّ
حداثةُ الأشياءِ مَوْطنَهُ المُشبَّعَ بالبكارةِ والنَّقاءِ،
يُراقبُ الجُدرانَ حيثُ تعرَّقتْ وجعًا وذاكرةً
وأصواتًا يُردِّدُها الصَّدى في الرُّوح.
صوتُ المحاريثِ الجديدةِ يُطفئُ الذِّكرى
ويخدشُ رقَّةَ الزَّيتونِ في سَفَرِ الدُّخانِ
إلى الحقولِ وفي سُعالِ الأرضِ
حيثُ تمزَّقتْ رئةُ التُّرابِ مِنَ التَّوجُّسِ
والتَّنبُّؤِ باكتهالِ طفولةِ الزَّيتون.
أبناءُ أحفادِ الأوائلِ يعبرونَ الحاجزَ الزَّمنيَّ
مُدَجَّجينَ بكُلِّ ما ارتكبَ الجحودُ مِنَ التَّمرُّدِ،
يقذفونَ -بغيِّهمْ- مِلحًا بجُرحِ الجدِّ،
قالَ كبيرُهم:
الدَّارُ يا جدِّي سنهدمُها لينهضَ بالحجارةِ منزلٌ ضخمٌ
-كعنقاءِ الأساطيرِ المُخيفةِ- مِنْ رمادِ الفكرةِ الأولى
يصدُّ البرقَ عنَّا إنْ تقيَّأتِ الحروبُ صديدَها.
«لا تهدموا داري».
شقَّتْ ضبابَ العمرِ وَمْضةُ صرخةٍ
مِنْ قلبِ جدَّتِهمْ وأكملتْ النُّواحَ بدمعِها:
الدَّارُ
موسيقى النَّشيدِ وغُرَّةُ الأيَّامِ،
مسألةُ الوجودِ ورحلةُ التَّأويلِ
مِنْ جوفِ الرِّمالِ إلى القُرى،
صوتُ التَّفاصيلِ الصَّغيرةِ في زقاقِ العُمرِ،
بَوْتقةٌ بداخلها طبيخُ اللهِ للإنسانِ.
***
الدَّارُ تُهدَمُ في اندهاشِ العابرينَ على الحكايةِ،
كلَّما سقطتْ مِنَ الطِّينِ العظيمِ سبيكةٌ
يتألَّمُ المِلحُ المُعتَّقُ في دموعِ الجدِّ،
يَبْتهلُ الحنينُ مبادئَ العرقِ الشَّريفِ،
تفوحُ في الأرجاءِ رائحةُ السِّنينَ،
ويخرجُ الأمواتُ مِنْ تحتِ الجدارِ مُسربَلينَ
بضوئِهم وبَخورِهمْ
ويُسلِّمونَ على أبيهمْ بالمحبَّةِ كُلِّها.
يبكي أبوهم
في الغيابِ وفي الحضورِ يَضمُّهمْ
يتحوَّلونَ بحِضنِهِ بذرًا مِنَ الزَّيتونِ
يسكنُ كفَّهُ المَمْهورةَ الوشمَ السَّماويَّ النَّبيلَ،
يشمُّ عِطرَ البذرِ، مُنتشيًا يقولُ:
سيكبُرُ الزَّيتونُ في قلبي،
وللزَّيتونِ عُمْرٌ آخرُ.
الآراء (0)
نحن نمقت الإعلانات، ولا نريد إدراجها في موقعنا، ولكن إدارة هذا الموقع تتطلب وقتاً وجهداً، ولا شيء أفضل لإحياء الجهد من القهوة. إن كنت تحب استخدام هذا الموقع، فما رأيك أن تشتري لنا كاسة قهوة على حسابك من هنا :)