ألزهايمر - شوقي بزيع | القصيدة.كوم

شاعرٌ وكاتبٌ لبنانيٌّ تمكَّن من كتابة ما لم يكتب قبله ولا ينبغي لأحدٍ من بعده. حمل بردة عكاظ. حائز على جائزة العويس الثقافية دورة 2016-2017 في مجال الشعر (1951-)


2140 | 0 | 0 | 0




في شارع الحمراء،
حيث اعتدتُ أن أتصفح الطرقات بالأقدامِ
بين البيت والمقهى،
التقيتُ بهِ،
وكان زميل دراستي زمن الطفولةِ
قبل أن ترمي مصائرنا بنا
كلاًّ الى قَدَرٍ،
وإذ صافحتُهُ بحرارةٍ
لم يكترثْ
بل مدَّ لي بتوجُّسٍ يدهُ
وحدّق بي مليّاً
ثم تمتم: مَنْ؟
وفتش عن ذبالة صورتي
في جيب عتمتهِ فلم يُفلح،
كما لو أن وجهي محضُ سوءِ تفاهمٍ
بين الشكوكِ وبينهُ،
حتى إذا غَشِيَتْهُ صحوتُهُ أخيراً
صاح مبتهجاً:
عرفتكَ، أين أنت اليومَ؟
هل ما زلتَ تعملُ بالزراعةِ؟
هل تتذكّرَ الماضي
الذي انقطعتْ أواصرُهُ البعيدةُ
منذ كنتَ مربياً للنحلِ
في ذاك الزمان النضرِ،
كيف غفلتُ عنكَ؟
أظنُّ أنَّ خليّةَ النحل
التي قصَّرت في إطعامها عمداً
تخاطَفَها سواكَ،
وربما انقرضت أخيراً،
قلتُ: لكني...
ولم أُكْمِلْ..
فقاطعني وقال: لربما اختلطتْ عليَّ الذكريات،
فقلت: دعنا يا صديقي من حديث النحلِ
فهو مخاتلٌ شأن الجميع،
وهذه الأشياء تحدُثُ غالباً،
فأجابني: في مثل هذا العمرِ
لا نأمن الى أحدٍ،
وقال كمن يحدّث نفسه:
حتى الكلاب تخونُ صاحبها،
ولكنْ ما لنا ولهذه الافكار، قلت،
ثم أضفتُ: تبدو متعباً
أتعيشُ وحدكَ أم لديك رفيقةٌ ترعاكَ؟
قال، كمن يصوِّبُ نحو فكرتهِ
ويفشل في تصيُّدها:
بلى، لكنها شأن النساء جميعهن،
لأتفه الاسباب تنهرني
كما لو أنني طفلٌ،
وتابع واجماً:
هي لا تحرِّك ساكناً في وجه قطَّتها
التي تتحيّن الوقت الملائم لافتراسي،
كيف أُفْلِتُ من براثنها؟
تصوَّرْ أن هذي القطة الشمطاءَ
ما تنفكُّ يومياً تمدِّدُ جسمها
كالنمر في الممشى
وترمقني مكشِّرَةً بنظرتها اللدودةٍ،
قلتُ:
لكنْ لم تحدِّثني عن الأولاد،
فال: تفرقوا في الأرض،
ثم أضاف: حتى الملح يفسد هذه الأيام،
لكنْ ممَّ تعتاشانِ؟ قلتُ،
فقال: هل تدري بأني في مراهقتي
صبوتُ الى امتهان الرسمِ؟
لكنَّ الحياة تبخَّرَتْ ألوانُها
فاخترتُ تعليم الرياضيات في إحدى المدارسِ
قبل أن...
ماذا؟ سألتُ،
فقال: أن يتكالب الشعراءُ
ضدَّ نباهتي في النظم،
ثم عملتُ فيما بعد بحّاراً،
ولكن الرياح كثيرة الشكوى كعادتها
ولم تعد المياه، كما عهدتَ،
تثير شهيّة الأسماكِ للإبحار صيفاً،
ثم خبّأ دمعةً في كمِّهِ
ورنا، كمن يرنو الى فضلات مأدبةٍ
تقادمَ عهدُها،
وقال لي: من أنت؟
قلت: رفيق أيام الطفولةِ،
قال:
تخونني الأسماءُ فاعذرني،
وأبْصَرَ طائراً بالكادِ يُسعفه توازُنُهُ
على سلْكٍ،
فقال: كم الحياةُ ثقيلةٌ
ولذا الطيور تظلُّ في الأعلى،
وفيما يشبه الدوران حول النفس،
خُيِّلَ لي بأن يديه تتّخذانِ
وضعَ حمامةٍ بيضاءَ موشكةٍ على الطيرانِ،
ثم أضاف منتشيا:
أتَذْكُرُ كم من المراتِ طاردْنا
فراشاتِ الحقول معاً،
وأحصينا النجوم على أصابعنا،
وساهرنا المواقدَ قبل ان تغفو،
أتَذْكُرُ؟
قلتُ: أذكُرُ،
قال: أبي مريض بالسحايا
غير أني لم أزره لكثرة الأشغال،
قلت: كنتُ أظنُّ أنَّ أباك ماتَ،
فقال: مات؟!
أظنُّهُ ما زال حيّاً،
(ثم حاول أن يهاتفه فلم يُفلح)
وتابع ذاهلاً: هو طاعنٌ في السنِّ،
لكنَّ الزمان أصابه، وهو العجوزُ،
بآفةِ النسيانِ،
ثم ، كمن تذكّر فجأةً أمراً خطيراً،
قال: فاتَ الوقتُ،
قلت لهُ: على ماذا؟
فقال: على معاينة الطبيبِ،
وراح ينظر نحو ساعتهِ،
ولكنْ:
ما اسمه؟
أتظنُّهُ ترك العيادة؟ قال لي متأفّفاً،
وأضاف: في أي الأماكن نحن؟
كيف سهوتُ؟
لكنْ، كيف يمكنني العثور على العيادةِ،
هل تساعدني؟
وأردف قائلاً: من أنت؟..
واتَّخَذَتْ ملامحُ وجههِ شكلاً نباتيّاً،
كما لو انَّ صدْعاً في الزمانِ
تسرَّبت منه الحياةُ
وَرَدَّهُ نحو الجذور الأمِّ
لكي ينمو مع الاشجار ثانيةً،
وحين مضى،
التفتُّ الى الوراءِ لكي أراه،
فلم أجد له أثراً...








الآراء (0)   


الموقع مهدد بالإغلاق نظراً لعجز الدعم المادي عن تغطية تكاليف الموقع.

يمكنك دعمنا ولو بمبلغ بسيط لإبقاء الموقع حياً.




قمصان يوسف
( 11.4k | 5 | 6 )
جبل الباروك
( 9.6k | 5 | 5 )
مرثية الغبار
( 7.2k | 0 | 9 )
الشاعر
( 6.7k | 0 | 1 )
العائد
( 5.2k | 0 | 1 )
الأربعون
( 4.6k | 0 | 4 )
لا تبتعد في الموت أكثر
( 4.2k | 0 | 6 )
المسيني
( 3.8k | 5 | 3 )
حوار مع ديك الجن
( 3.7k | 0 | 1 )
الأعمال الكاملة
( 3.6k | 0 | 1 )
تجليات المرأة
( 3.6k | 5 | 2 )
صوتها ضُمّة برق فوق نيسان
( 3.6k | 0 | 5 )
فراشات لابتسامة بوذا
( 3.4k | 0 | 2 )
وما أنا إلّا فلذةٌ من خيالها
( 3.2k | 0 | 2 )
تفاحة الغياب
( 3.1k | 0 | 3 )
سحابة صيف
( 2.8k | 0 | 0 )
حنين
( 2.8k | 5 | 1 )
الخمسون
( 2.8k | 0 | 0 )
البيوت
( 2.7k | 0 | 1 )
مسافة
( 2.6k | 0 | 0 )
دير قانون النهر
( 2.6k | 4 | 1 )
السنديان
( 2.5k | 0 | 0 )
الأسلاف
( 2.4k | 0 | 0 )
الزنزلخت
( 2.4k | 0 | 0 )
تعديل طفيف
( 2.4k | 0 | 0 )
الغائب
( 2.4k | 0 | 1 )
يصغي لأسئلة الأعماق
( 2.4k | 0 | 1 )
خلف دموع الشتاءات
( 2.4k | 0 | 1 )
الصور
( 2.3k | 0 | 0 )
فراديس الوحشة
( 2.3k | 0 | 1 )
تكوين
( 2.3k | 0 | 1 )
عندما يصبح الحبر أعمى
( 2.3k | 0 | 0 )
ماء الغريب
( 2.3k | 0 | 0 )
عزلة الخادمات
( 2.3k | 0 | 0 )
التماثيل
( 2.2k | 0 | 1 )
خالد السكران
( 2.1k | 0 | 0 )
سأحمل صوتك المكسور
( 2k | 0 | 1 )
متحف الشمع
( 2k | 0 | 0 )
خلود تنجح في امتحان الموت
( 2k | 0 | 2 )
علي الصغير
( 1.9k | 0 | 0 )
ثلج العام 1958
( 1.9k | 0 | 0 )
الخرّوب
( 1.9k | 0 | 0 )
تأليف-1
( 1.8k | 0 | 0 )
صراخ الأشجار
( 777 | 0 | 0 )
الرحيل إلى شمس يثرب
( 759 | 5 | 2 )
كأنني بحرٌ وأمواجي ورائي
( 401 | 5 | 4 )