المرابط الأخير - محمود الطويل | القصيدة.كوم

شاعر سوري يعمل في الإعلام (1989-)


347 | 5 | 3 | 4




الآن المدن المغبرّة تتهدمُ
ورؤوس الناس المتروكةِ
تتحطّم تحت الإسمنت المقهورْ

وقلوبٌ في طرقاتِ الشوقِ تدوزنُ نبضتها
بشرود مغنّيةٍ حُبلى..
الكلُّ غيابٌ عن بيت العشقِ المتجذرِ
والنارُ هناك حضورْ

الذّعرُ يموسِقُ خطوات المنفيّينَ..
وأنت بذاك الخندقِ ما زلتَ مع الأشجانِ تثورْ
ها أنتَ ولم يبقَ سواكَ
تُراقِبَ شيئًا لا نعرفهُ..
تدركُ معنى البسمة في وجهٍ دامٍ
تدرك معنى الدمعِ على أرصفةِ الحزنِ
وتدرك أن أحاديث الخوف قبورْ

ما هذا الطين الراكض نحو حذائِكَ؟
يلمع دِفْئًا..
يعلم أنك منغرسٌ في الأرضِ
ولو دفنوك ولو قَلَعوكَ
ستبقى من قدميك بهذي الأرض بذورْ

يا أنتَ تراقبُ وجه النارِ
وتعبسُ فيه ويعبس فيكَ
وتعبثُ في "جوّالك" تقرأ:
آخر ما قد قال اللهُ
وآخر ما قد قالته حبيبةُ حضنكَ..
والطيران الحربي يُبَسْمِلُ موتًا
وينزّل من آيات القصف سطورْ

في الليل يزورك عتم الشك
يُسائِلكُ الصمت عن الجدوى
تشردُ ثانيتين..
تراهِنُ خوفَك من يبقى يربح!
تربحُ..
أنك تبقى في ذاتِ الخندق رغمَ الرّغم تُغنّي وتثورْ

نحن توسّدنا منذ العجز ذراعكَ
فتوسّد إن شئت ذراع شهيدٍ قُربَكَ
حدّقْ في هذي الأرض ستعرفُ شهوتها
واسمع للريح تدندن أغنية في حُبّكَ
كلُّ ضبابٍ في عتمة ليلك أوضح من كل نهاراتِ المدن الباذخةِ
فمن عينيكَ يشعّ الثأرُ ويلمع من هذا الثأر النورْ

أنت صلاةُ المقهورين.. فلا تتوضأ
هذا العَرَقُ وَضوءُ أئمتنا
وغبارك كعبتهم..
تَمْتِمْ ما شئت من الكلمات فربك يجعلها قرآنَ صمودٍ
أقسمْ باسم رفاقك
من تركوك بنبلٍ أو خبثٍ
وتذكّر أنك وحدك في هذي الأرض وهذي الحربِ
وحولك من تركوكَ وراحوا
حولك من يلبسه دمهُ
من يتهيَّأُ بعد قليلٍ كي يعلن نصرًا فرديًا
يخلع جثته لكن "الجعبة" تبقى ثابتة في صدر الروحِ
تَحسَّسْ تربة قبر رطبٍ
وتذكّرْ.. أنك ما زلت بذات الخندق تحيا وتثورْ

ما ألطفَ هذا الطين رفيقًا ورقيقًا
يا حلوَ بهائكَ بخشوعٍ
والكون خرابٌ يتمطّى نحوك في قُبحِ مشعوذة
لا يرمشُ جفنك تقريبًا
تتهامسُ أحجارٌ هُدمتْ:
(كم هذا المخلوق جميلٌ وصبورْ)

ها أحببناك على قُربٍ..
فالقرب يورطنا دومًا
ها أحببناك على بُعْدٍ..
والبُعد يورّطنا أيضًا
يا ربّ المدن المغبرّة
يا حارسَ طرقاتٍ تشتاق لخطو أحبّتها
تشتاق للون الشيب.. لبحّته
يا ناسك أغنية الأطفال ومحراب التنّورْ

من مثلك يعرف لهفة باب البيت لأيدي من سكنوهُ
يُسمّي الأحجار على قارعة الطرقات بأسماء حبيباتٍ تركوهُ
ومن مثلك يؤنس ظلًّا ظلَّ بهذي الأرض
يلاعبها ويلوّنها ويخفف عنها وحدتها
‏من مثلك يرفض أن يصبح مرتزقًا حتى لهواه
‏ويرفض ما تتقيَّؤه المؤتمرات
ويعرف أين وكيف يثورْ

أُنبيْكَ بسرٍّ تعرِفُهُ؟!
لا وحشة في وحدتك على الجبهات وخط النارِ
الوحشة أنثى وحش الغربة..
تأكلنا "نحن المرتاحين بعيدًا"
بالأوراق الرسمية.. بجواز السفر.. بقيد لجوء
تلك الوحشة "يا وحدك والرشاش عشيقك"
تلك الوحشة زوجة كل طغاة الكونِ
وتنكحُنا حين نحاول أن ننظر نحوكَ
حين نصافح أيدينا الملساء بحمقٍ
حين نحاول لمس تراب بلاد الخوف
وحين موظف ذاك المعبر يصبح ربًّا
يبقينا بجهنم غربتنا..
يمنعنا عن جنّتِنا ال خُنّاها..
‏ويمارس شهوة سلطته في ختم عبورْ

‏الندم ابنُ الوحشةِ.. ورفيق السوءِ
يشاركنا في كأس الماء وبالسيجارة
‏في القهوة يسألنا الندمُ عن الفرص الضائعة.. عن السهو
‏ويجلدنا ألفًا..
‏نتفقّد في جيب الذاكرة خيارات الموت المحتومة
‏نلعنُنا.. كيف نجونا؟
‏لم نكُ نعلمُ ألّا طعم ولا لون لأي حياةٍ ‏دون خيارات الموت
‏ولم نَكُ نعلم أنّ الطرقاتِ ستصبح ضيقةً مُربكةً
‏إن لم تأخذْنا لقبور الأمل المدفون مع الأصحابِ
‏وعند النوم يراودنا حلمٌ بالأرض المعشوقةِ
‏نصحو..
ندرك أن العمر مع الأحلام يطير هباءً
فاحذر أن تتحول هذي الأرض لحلمٍ عندك
لا تحلمْ..
يكفي أن تبقى في شبرٍ من هذي الأرض تثورْ

الآن يجن جنون العاصفة الكبرى
تقتلع البحر من الأعماق
تهوج كثور في حلبات مصارعة
تصرخ بالصُّوْر إلى الموتِ
وإسرافيل يسدّ من الرعب مسامعه
وتراقبها أنت كآلهةِ ثباتٍ لا تتزحزحُ
أنت سفينة نوحٍ والقُبطان
وأنت تجذّفُ والمجذافُ
قرارك ألا رأي لغير القلب
فأعلنه شراعًا
وتهيّأ لِدُوَارٍ صعبٍ
فالأمواج جبال حولك
والكل مع العاصفة يدورْ

لا غيرك عطَّرَ جعبته ويزيّنها كعروسٍ فاتنةٍ
فسواك يؤنّق "بدلته" الرسمية جدًا
لحضور حوارٍ أبردَ من عاهرة
دعهم يحتضرون هناك
وأنت بأرضك أعلن أن شقوق الروح ثغورْ

اليأس حقيقي ومباحٌ
لكنْ خلفك شعبُ خيامٍ
شعبُ شتاتٍ
شعبٌ في الذاكرة يغنّي:
‏(يسقطُ.. يسقطُ)
تنبتُ من حُلْو الذكرى في إحدى شفتيه زهورْ

‏أنت الباقي..
‏وخيارك منذ قطعتَ مشيمةَ عجزك
‏أن تبقى حرًا ونهائيًّا
‏ممتدًا ما بعد الخوف وبعد القهر وبعد جميع النكبات
لتبنيَ نحو مُحَالين جسورْ

يا سادنَ صرختك الأولى
اللحظة في توقيت زنادك بدهورْ

يا حاسمَ أمرِ المتروكين بلا أمرٍ
الزمن يلمُّ بضائعَهُ..
ومكانك هذا آخر ما يمكن إطلاقًا
فاخترْ..
إما أن تبقى وحدك في الجبهات تثورُ وتلعنُ..
‏أو أن تبقى في الجبهات وحيدًا..
تلعنُ وتثورْ



الآراء (0)   

دعمك البسيط يساعدنا على:

- إبقاء الموقع حيّاً
- إبقاء الموقع نظيفاً بلا إعلانات

يمكنك دعمنا بشراء كاسة قهوة لنا من هنا: