هل أصبحت عجوزا حقا - عبد المنعم رمضان | القصيدة.كوم

شاعر وكاتب مصري حاصل على جائزة كفافيس عام 2000 (1951-)


125 | 0 | 0 | 0




إنه إله الريح والأمطار والتجاعيد، ذراعاه مفرودتان إلى آخر السور، تسرقان أمتعتي ومراياي ورفاقي, تسرقان ساعة الحائط, فهل أصبحت وحدي، هل أصبحت الوقت المقلوب مثل زورق، الوقت الخالي من الأيام، لأنني كل صباح، ومن أجل عدم التحليق بعيدا عن المنزل، من أجل ألا أكون طائر الوقواق، أفتشُ عن الروايةِ المليئةِ بأشخاصٍ منذورين متكئين على بخار أنفاسهم، متكئين على الحافةِ وعلى جدران الأودية، وأجلس قرب النافذة، وتحتي وسادةٌ من الحنان الناعم، لا أعرف صوت النور المخبوء فيها، لا أعرف سوى الغمغمة وصوت هياجي، وإذا غادر أحد هؤلاء الأشخاص، الذين اتفقت معهم على الإقامة، وسقط من السماء العالية، سقط من البهو، سقط تحت أحذية ظلام شاحب، تحت أحذية المفقودين الجوف، سقط لأنه مثل كل الآخرين سيموت، ولأن باب العالم كان موصداً، إذا غادر وانصرف إلى خلوته، تركتُ مكاني، وأعددتُ قدحاً من شاي التوت البرى، كي ربما لا أبكي، كى ربما أخسر النشوة مقابل الروغان.
هل أصبحت الخادم والمملوك، العاشق والمعشوق، لأنني كل صباح آخر، لم أعد أستطيع الخوف من امرأة بيضاء متجردة، ساقاها غيمتان تسعيان كي تحملاني على النوم معها فوق العشب، وقبل أن نتسامح ونقع في الجبّ، تتراجع كأنها زهرة تمط عنقها، حتى تصل بي إلى الجزيرة المهجورة، وتئن قبل أن أستوي عليها، وأنفخ فيها من روحي، وبعدها نفترق، لأننا هكذا هاربان، ولأن كلينا لا يتحلّى بالصبر، بعدما السور الواطئ غاص في جلودنا، واستولى على بقية الحدود، واستولى على آنيتي، استولى على أعشاش الليل.


هل أصبحت المسئول عن العائلة وعن أبواب الجنة، ما دامت الأرض، وما دام حجر بين هاويتين، وما دامت أمي، وما دامت الجّرةُ المكسورة، وما دامت ناريمان وعدتني بالعودة من صحرائها البعيدة، ولما أخبروها أن الأنبياء الذين صادفناهم معاً فى الطريق إلى القبة، خرجوا غاضبين من غرفتي، وحملوا فوق أكتافهم، سراويلهم وأحذيتهم وطعامهم الساخن، وعدتني بألا تجلس فوق القمر كل ليلة، على أمل ألا تسمع أغنياتٍ مائلةً، وعدتني أن تهرول عندما تجد سبيلا لتحب نفسها، لكنها كخيالٍ مغسولٍ، كخيالٍ مغسولٍ دون رحمة، اكتشفت أن الحرية الدائمة قائد محموم طويل الساقين، يمشي بأبهة، يمشي مثل حجر الزاوية، ويقود أتباعه إلى الداخل.


هل أصبحت الدركيَّ النائم على الجسر، الدركيَّ العاطل، لأنني ما زلت أتذكّر، بقعة الدم العكرة، التي لم تخرج من فرْج حبيبتي، عندما اختبأتْ فيه شمسي، ثم ارتفعتْ فيه نخلتي، وخلف الشمس وتحت النخلة، كنت أتذكر، ذلك الشيخ الأعمى الخارج من أقوالي، بكوفيته وجلبابه الخفيف، الذى يدل على أحوال جسمه، كيف انزوى وتغطّى بظلامه، وجلس تحت عيني يمسّد آلته اللامعة، ويضبط حركة يده التي تلاحق حركة روحي، أنا الذي آنذاك، كنت أوقف إحدى نسائي، وظهرها للحائط، وأجلس على ركبتي، وأخزّن أنفاسي الساذجة في حفرتها، بينما عجيزتها تترجرج وتتأرجح، إلى أن حاولتُ التحليق عاليا، وعجزت عن التنفس، فانسدلتْ روحي، وانسدلتْ يد الشيخ الأعمى، ودون رعاية لكوننا ضحايا وقرابين، دون رعاية لكوننا أشلاء حرب قادمة، جلسنا نتعلم براءة الخوف من الموت، وبراءة الحرمان من الطهارة.


هل أصبحت سراب الله، لأن الله، منذ شهرين على الأقل، يجالسني، ويختبئ معي في كل ركن أختبئ فيه، ولأن فزعي الداكن اللون، أصبح فزعي من طيوري وعصافيري، ولأنني في آخر كل نافذة، أنصّب نفسي سيداً، وأجلس على الكرسي العالي، ولأن رعاياي، صاروا فاتنين، لحد أنني أخونهم، قبل أن أفقدهم، وإذا أصبحوا رياحاً وحجارة ونياشين، أتخلى عنهم، وأتوق إلى أناس غير مرئيين، أستطيع أن أطاردهم، أستطيع أن أقول لهم، سأنام الليلة على الأريكة، فإذا نمت على الأريكة، رأيت كل الرجال الذين مروا بجواري، يمررون ألسنتهم على جونلات حبيباتي ويلعقونهن، وينهبونهن، ثم يرتدّون ويمسحون دموعي، ويكتشفون أنني ألهث، وأنني أحشد لهاثي في مارشات عسكرية، ثم أنزوي مثل حشرة، وأردد في يقينٍ ما لا ينبغي أن أبوح به، كأنني أقف على أطراف جسمي، وأشاهد أسراري، وأشاهد الرابية والتل والجبل.


هل أصبحت الوشم الباقي، لأن هذه المرأة، هذه المرأة الساحرة، التي كأنها أمي، التي كأنها الرسولة، التي كأنها نون النسوة، التي كأنها المسيح قام، التي كأنها سيدة النبع، التي كأنها فيروز، ما زالت تضع في فمي الأغاني كلها، لعلني في اللحظة التي يأمرني فيها الرب بأن أغادر، أستطيع أن أستعطفه وأتوسل إليه أن يستمع إلى الأغاني، ولما يستمع وينصت تهتز لحيته، ولما تهتز لحيته يمهلني، ودون أن أتلكأ أستعيد عن طريق دروس الماء ودروس اللذة ودروس الصحراء، قدرتي الفائقة على أن أموت وحدي، قدرتي الفائقة على الخوف من أن أموت وحدي.


إنه إله الريح والأمطار والتجاعيد، ثمّة نار تحت الجلد والعظم، ثمة موعظة، ثمة مقابر تكفي البشر والحيوانات جميعاً، إنه إله الريح والأمطار والحشائش والتجاعيد، وبقليلٍ من الحكمة، تكاد السماء التي تحت رجليه تجر جسدها على عربةٍ، بقليلٍ من الحكمة، يكاد يحبسني في غرفته السرية، فأغبط التراب المقدس، وأزرعه في أحشائي، فهل أصبحت عجوزا، هل أصبحت عجوزا جدا.





الآراء (0)   

نحن نمقت الإعلانات، ولا نريد إدراجها في موقعنا، ولكن إدارة هذا الموقع تتطلب وقتاً وجهداً، ولا شيء أفضل لإحياء الجهد من القهوة. إن كنت تحب استخدام هذا الموقع، فما رأيك أن تشتري لنا كاسة قهوة على حسابك من هنا :)