سفنُ الإشارة - مهدي النهيري | القصيدة.كوم

شاعرٌ عراقيٌّ (1978-) وكما يدلُّ اسمه، فهو نهير شعرٍ عربيٍّ.


306 | 0 | 0 | 0




مجموعة من القصائد والمقطوعات والفواصلِ النثريةِ كتبت بصيغة نص واحد في الشهر الخامس من سنة 2011م ، وأهديتْ إلى:
• الحياةِ ، بوصفها موضوعاً..
• الطريقِ ، بوصفها فهرسَ الراحلينَ..


خُذْ تحايايَ مكسوَّةً بالهباءِ،
وأنصِتْ لهذي الخلاصةِ في ما أقولُ:

مللتُ الرسوخَ على قصةِ الإنتظارِ طويلاً، ولا أستطيعُ احتمالَ الغرابةِ أكثرَ،، هلا تذكرتَ أنّ ابنَ آدمَ منتظرٌ أن يجيءَ إليهِ ابنُ آدمَ يُشبهُهُ أو قريبٌ عليهِ ببعضِ الصفاتِ..
رجوتُكَ، دعْ ما لديك، التفتْ للمنافي التي تَتَسلَّقُني كي تراني وراءَكَ أركضُ من زمنٍ، غايتي أن أنالَكَ فيهِ، أمانيُّ أدعيتي أن تحطَّ على كتفيكَ يدايَ، فهاتِ..
كتبتُ إليكَ رسائلَ أكثرَ حتى من الحبرِ، لكنَّهم أفزعوني بـأنَّ الرسائلَ أحرقَها البعدُ، صحتُ بأشلاءِ صوتي عليكَ لعلَّك تسمعُني، غيرَ أنَّ الصدى عادَ لي قائلاً: يا كثيرَ الجهاتِ..
(لم يصلْ من صراخِكَ حرفٌ)،
فلم تيأسِ الكلماتُ التي كُتِبَت والتي صُرِخَتْ، رحتُ أنقشُ بعضَ الرسائلِ فوقَ الجدارِ الذي ستمرُّ عليهِ، فقالوا الجدارُ تهدَّمَ، قلتُ:
(سأبني جداراً من الكلماتِ أخطُّ عليهِ حنيني بخطٍّ أجلَّ ليقرأَهُ)،
قلتُ للشعرِ:
(هل تستطيعُ الدخولَ إلى عالمي كي تساعدَني؟)،
قالَ:
شغلي ألمُّ التعاساتِ ثمَّ أطوفُ على الشعراءِ، ولا أدَّعي أنني إذ أوزعُها، سأوزعُها بالتساوي، ولكنْ على حسْبِ ما أشتهي،
قلتُ:
(لا بأسَ وادخلْ وهاتِ التعاساتِ شرطَ وقوفِكَ في محنتي معَ حزني لتسندَهُ)،
قالَ لي:
حسناً مُتْ بليلِكَ، عشْ في النهارِ ومُتْ في النهارِ، وعشْ موتَ ليلِكَ، واغربْ إذا طلعتْ شمسُ واحدِهم، وأَعِدَّ الشروقَ إلى أن يغيبَ، ودرْ في المتاهاتِ وحدَكَ لا تصطحبْ أحداً، إنَّهُ ثمنُ الشعرِ هل تستمرُّ؟
فقلتُ لهُ: أستمرُّ..
ومنذُ اتفاقي مع الشعرِ لم أستقرَّ على ما يريدُ، ولم يستقرَّ على ما أريدُ..
وغاصَ كلانا بعمقِ كلينا كثأرينِ يلتقيانِ بمعركةٍ لا جيوشَ بها غيرُ ثأرينِ يختصمانِ..
أقولُ لهُ إذْ أمَكَّنُ من بطحِهِ فوقَ أرضِ النزالِ:
نَكثتَ بوعدِكَ يا شعرُ، أينَ وصولي إليهِ؟
يقولُ وقد شدَّ كلتا يديَّ إلى خلفِ ظهري:
وهل أنتَ ملتزمٌ بتعاليمِ أولِ يومٍ لقيتُكَ فيهِ؟
أقولُ: نعمْ..
فيقولُ: أنا يا صديقَ العذابِ كذلك ملتزمٌ بالوفاءِ..
فلمْ أرضَ منهُ ولم يرضَ مني، ولا تقفُ المعركةْ..
ثمَّ نسقطُ فوق ترابِ النزاعِ ونتعبُ من حربِنا، مثلَما تتعبُ الديكةْ..
ونعقدُ هدنَتَنا بيننا ونعودُ لأعمالنا نَهَرينِ حريينِ أن يجريا في الهواجسِ كي يجدا سبباًً واحداً للقاءْ..
فيصبحُ ماءُ البدايةِ في واحدٍ منهما الطينَ في واحدٍ منهما، مسرفاً في النهايةِ ثمَّ تصيرانِ ماءً وطيناً وطيناً وماءْ..
***

هذهِ - أيُّها الغائبُ - مسحةٌ من حكايتي المضنيةِ، لمْ تجدِ التفاصيلُ الكثيرةُ فيها قدْراً كبيراً من التوثيقِ ولكنَّها على كلِّ حالٍ تفي بغرضِ أن تطلعَك على ما أنا عليهِ، فإنْ قرأتَها وشعرتَ بحاجتِكَ إلى الرأفةِ عليَّ أو بالعطفِ فلا تكنْ عجِلاً بالعودةِ، خشيةَ أن لا تمكثَ عندي إلا بمقدارِ ما يسدُّ حاجةَ عطفِك..
لذلكَ - أيُّها الغائبُ - أطلبُ منكَ أن تعيدَ القراءةَ مرةً أو اثنتينِ لكي تصلَ إلى مُرادي منها، وهو ما لا أستطيع أن أوجزَهُ لكَ، لقلةٍ في كلماتي، ولكنني سأوجزهُ لي فأقولُ:
أريدُكَ..
***

كنا التقَينا صدفةً،
قبلَ اندلاعِ الشعرِ في جسدِ المكانْ..
كانتْ قصائدُنا تحيتَنا لبعضٍ قبلَ أن تدري الحدائقُ أنَّ أغصاناً تشيلُ الوردَ: أجسادٌ لعشاقٍ؛ وقبلَ الغيمِ أن يدري بأنَّ الماءَ، ينزلُ من مخادعِهِ: نساءٌ يبتسِمنَ فتمرعُ الدنيا؛ وقبلَ الصبحِ إذ يشدو ولا يدري بأنَّ تَنَفُّسَ الشَّلالِ والأعشابِ والأحجارِ والأوقاتِ: أربابٌ بلا عُبَّادِهم؛ كانتْ حياةٌ لم تُدَنِّسْها حياةٌ، كنتَ مُبتسماً بوجهي، كنتُ مُبتِسماً بوجهِكَ، كانتِ الكلماتُ أقصرَ من مُرادَينا، ولكنَّا تكلَّمْنا كثيراً حالمَينِ وما أرقَّ بأن يلوذَ الحالمانْ..
في الليلِ، مشتعِلاً بموسيقاهُ
محمولاً على كتفِ الكمانْ..
يا أيُّها المخبوءُ، أوقفْني بليلكَ مرةً واسدلْ عباءاتِ التوحُّدِ والهيامِ على تلاقينا، وكنَّا كيْ تكونَ بنا وتَحْدُثَ شعلتانِ، على المدى وهاجتانْ..
***

إذاً لستَ راضياً عن مقترحي هذا، ولستَ شاكَّاً بيقينِكَ، مُلْغِياً أنَّ يقيناً في جهتِكَ الأخرى كادَ يهزمُهُ الشكُّ، لستَ بالحالمِ معي ولستَ بالعائدِ إليَّ ولستَ مانحي ما أودُّ..
لا أسقطُ في مهوى شتيمتِكَ، ولكنني سأشتمُ حظي الذي ألصقَ قدري بكَ وأفردَني عنكَ، وقضى بأن أكونَكَ وقضى بأن تخونَني، وكتبَ عليَّ اتِّباعَكَ وكتبَ عليكَ بَيْعي، ومشى بي إلى مخابئِكَ وحادَ بكَ عنها إلى غيرِها كي أظلَّ أفتشُ عنكَ..
تعسٌ للسعيِ وتبٌّ للطرادِ وموتٌ لحياةٍ رامسةٍ..

أطرقْ نشيجَكَ أيها الباكي، وخضْ
حربَ التحامِكَ في ضياعِ المأربِ..
وادْعُ الدروبَ وقلْ لها: هيأتُ
أقدامي، فلا تترددي أو تهربي..
أنا يا بساتينَ الرحيلِ مُهادنٌ
وطني، وماضٍ أستريحُ بمغربي..
أنا ذاهبٌ للماءِ أو للقفرِ، لا
فرقٌ بهذا عن أخيهِ المجدبِ..
لا فرقَ في هذا الزمانِ نراهُ في
هُبلٍ يؤكدُ أنَّهُ ليسَ النبي..
لا لوذَ، لا عودٌ إلى..، لا حيرةٌ
تفضي لحلٍّ، لا وثوقَ بكوكبِ..
الكونُ مجزرةُ الوضوحِ، غريقةٌ
سفنُ الإشارةِ، غُيَّبٌ في غُيَّبِ..
لا صوتَ لا فمَ لا سؤالَ، دفاترُ
التأريخِ مغلقةٌ، كأنْ لم تُكتبِ..
الظلُّ أصلُ الكائناتِ، الحزنُ أسُّ
الفاقدينَ، السِّلْمُ سنخُ العقربِ..
هذا الضياعُ مشيدةٌ بدمي ممالكُهُ،
ومُلْقاةٌ بعمقي المُتربِ..
أبني أساطيري سطوراً تُمَّحى،
وأمدُّ ليلَ الكبرياءِ لِيختَبي..
خلفي، فأحْطمُ ما يضمُّ الخلفُ،
مُختاراً أماماً من ولوجٍ مُعشبِ..
لا كي أعيشَ به، ولكنْ كي أموتَ
بشكلِ مقبرةٍ، بهيَّ الموكبِ..
الموتُ يحرسُني فلا أخشى سواهُ،
ولستُ أخشاهُ، وهل أخشى أبي..
الموتُ: ما الأمُّ الرحيمةُ مثلُهُ
قلباً،، ضميرُ الموتِ حلوُ المذهبِ..
يا موتُ فاخترْني سواراً للمقابرِ،
وانتدبْني رملَ لحدٍ أرحبِ..
ضيقُ اللحودِ من اتساعِ العيشِ أوسعُ،
حينَ عيشُ المرءِ مرُّ المشربِ..
سأذوقُ من كأسِ التواجدِ في التخفي،
ما يُرَوِّيني وما يستنُّ بي..
قانونَ أن أمحو نقوشَ تمسكي،
بالقاعِ كي تعلو مَسَلَّةُ غيهبي..
يا وجديَ الصوفيَّ يا صلبانَ مقتليَ
الرهيبةَ، يا صحارى مطلبي..
ضمّوا رفاتي في رفاةِ قصائدي،
لو متُّ موتَ المستحيلِ الأصعبِ..
لو أنني استأذنتُ أضرحةَ النبيينَ
القدامى، كي هنالكَ أجتبي..
أخرايَ، مُخْضَلاً بأنفاسِ الحبيبينَ
الحفاةِ الهادئينَ الصُخَّبِ..
ولو انتقلت إلى البهاءِ متوجاً
بوضوحِ أسئلتي وغيمِ ترقُّبي
ولو اصطفيت من التوجسِ زوجةً
تهبُ الصغارَ من الأماني الأطيبِ
ولو اقترفت متاهتي لأرى بأني
سوفَ ألقاني بقَعرِ تغرُّبي
**

من أيَّامِ البلوى أخزنُ أياماً أستأنسُ فيها لو جفَّ الحزنُ وأغرسُ فيها أيامي الفارغةَ المحسوبةَ أياماً لا حزنَ ولا فرحٌ فيها..
هذا من ضمنِ مجازِ القولِ، وإلا أيُّ الأيامِ تمرُّ بلا شجوٍ؟
وأخصُّ بذكري أيامي شخصيَّاً؛ أيامي: مقسومٌ فيها الصبحُ إلى ليلينِ ومقسومٌ فيها الليلُ إلى سجنينِ ومقسومٌ فيها الحزنُ إلى شخصينِ، يُسَمَّى أولُ شخصٍ مهديَّاً، والثاني ضاعَ وضاعتْ أحرفُهُ..
***

لا يقولُ الحياةَ إلا إذا كانت
فتاةً يقولُها كي تقولَهْ..
يتمنَّى، حدَّ افتراعِ سجاياهُ
غصوناً، وشاعراً وطفولةْ..
ويغنِّي حتى تصيرَ الصحارى
كلِماتٍ مُرَدَّداتٍ هطولَهْ..
ويداني أحلامَهُ فيكادُ الليلُ
يحثو الخُطى إلى أن يطولَهْ..
شاعراً خاضَ عمرَهُ، ثمَّ خاضَ
العمرُ هذا لشاعرِ العمرِ غيلةْ..
قمراً، ينسجُ المحيطينَ فيهِ
أنجماً أو مآذناً معسولةْ..
غيرَ أنَّ الإقامةَ البئرَ شاءت
أن تُريهِ الغَيابةَ المجهولةْ..
فرآها - وليتَهُ ما رآها -
الحُلُمَ الجمَّ في الليالي القليلةْ..
(هُوَ) ذاكَ (الذي رأى كلَّ شيءٍ)
(فلتُغنِّي) خَيالَهُ يا خيولهْ..
ولْتُضيئي إيابَهُ قُبَّراتٍ
صَدِئاتٍ محنطاتٍ أَفولةْ..
ولْتُعيدي إليهِ ما لمْ يذقْهُ:
شهدَ إصرارِهِ على أن يكيلَهْ:
سنبلاً يملأُ الحياةَ، وغيثاً
يغسلُ السُّنبلَ المضيءَ حقولَهْ..
هو آفاقُهُ وبدرُ مناهُ،
ونجاواهُ والصلاةُ النبيلةْ..
***

هل علمتَ وأنتَ المخبَّأُ في حدقاتِ الهباءْ..
أمانيَّ لا نفعَ من دفنِها،
كم أنا صادقٌ في الرجاء..
هل رأيتَ مسيري المضاءْ..
بظلمةِ أحلاميَ المعتمةْ..
مثلَ سطرٍ من الشعرِ أسودَ يمشي على صفحةٍ، هيَ بيضاءُ لكنَّها مظلمةْ..
***
هل تبلَّلتَ بالدمعِ، وهل أصابكَ شررٌ من قولي السالفِ ناراً؟
هل أنتَ على ما يرام؟
قفْ لحظةً أو دهراً معكَ وأعدْ شريطَ الذكرى، ستراني ماثلاً في ضميرِكَ مُنحنياً لا انحناءَ الذليلِ، إنَّ انحنائي عينُ كونيَ فلاحاً في حقلِ البقاءِ أزرعُ الغفوَ في العيونِ والعيونَ في المساءاتِ..
وأربِّي أياماً فإنْ كبرت أطلقتُها في الريحِ، وأهيئُ للقادمينَ أوطاناً فإنْ صلحتْ سكنوها وإن ضاقت بهم شكروني..
وأُجَهِّزُ نفسي لمُهمةٍ تباشيرُها تلوحُ في الأفقِ، وأكيدٌ أني لن أكونَ نبياً في يومٍ ما ولن أخلفَ نبيَّاً، ولا نيَّةَ عندي لأنْ أسكنَ في أرديةِ الصوفِ على رغبتي بأن أتحلى بأجواءِ سكنتهِ السائحينَ وهم في أماكنهمْ..

أماكنُهمْ: محاريبٌ تطوفُ..
على الدنيا، وهم فيها وقوفُ..
يجوسونَ الزمانَ ويبصرونَ
المضيَّ يُبشرونَ ولم يخيفوا..
فمحضُ عيونِهم ربٌّ وماءٌ،
ومحضُ جسومِهمْ قلقٌ وصوفُ..
على جدرانِ عالمِهم خطوطٌ
تُنَبِّئُ أنَّهم وطنٌ عفيفُ..
وتخبرُ أنَّ أوجُهَهُمْ مصلى
رحيبٌ حينَ فكرتُهم كهوفُ..
أحبُّ فضاءَهم كوخاً صغيراً
- تَراءى - إذْ هُوَ القصرُ المنيفُ..
***

هؤلاءِ مدائنُ عامرةٌ بإياهم، شامخةٌ طولاً بكونِهم خوارقَ الأرضِ في السياق الذينَ يظهرونَ بهِ خفاءً..
قبورُهم مسارحُ ترقصُ فوقَ خشباتِها اللذاتُ إذا شاءت أن تطهرَ، فالنخلاتُ المحظوظةُ الفارعةُ إلى جانبِ الأضرحةِ: مَشَدَّاتٌ لمناديلِ الحاجاتِ، ومُقَبَّلاتٌ على طولِ السنةِ، وجباهُهم دائماً حبلى بالشمسِ كلَّما أبصرتْهم العذراواتُ في أحلامِهنَّ..
هؤلاءِ أحبتي، ولكي أكونَ قريباً منهم فأنا سأبتعدُ عنهم كثيراً..
***

عوداً على بدئي، أعودُ إلى الذي
كاتبتُهُ ورجوتُ منهُ جوابا..
وسألتُهُ أن لا يظلَّ مُلَبِّداً
آفاقَهُ في مُقلتيَّ سَحابا..
وطلبتُ منهُ زهرةً أو شوكةً،
أو جُرْفَ موتٍ يابساً مُرتابا..
أو سجدتيْ سَهْوٍ عسى يقدانِهِ
فيعودَ مُلتَهِباً إليَّ عتابا..
أو عشَّ فاختةٍ أصابَ هدوءَهُ
هزٌّ فأسقَطَهُ عليَّ خرابا..
أو نخلةً محنيةً أو غابةً
مشعولةً أو آدماً توَّابا..
أو أنَّهُ ينسى، فينسى أنَّني
كاتبتُهُ ورجوتُ منهُ جوابا..
***

أنْ أُحَطِّمَني الآنَ:
أغنيَّةٌ أتمنى أحطُّ على لحنِها..
أن أكاثرَني الآنَ:
أمنيَّةٌ أتغنى على كونِها..
أنْ أجُدِّدَ موتي منَ الآنَ:
مقبرةٌ ما أجلَّ ثرى دفنِها..
أنْ أضجَّ وأبكي بكاءَ المياهِ التي لمْ تجدْ شجراً ثمَّ ماتتْ بحسرتِها:
حلمٌ طيبٌ أبيضٌ سأنالْ..
منهُ رملاً قليلاً وموتى كثيرينَ ثمَّ أنادي على الغائبينَ جميعاً، بصوتِ المُنادى الوحيدِ:
تعالْ..
يا أنا المختفي في الرمالْ..
لمْ تجبْني، ولمْ تتجلَّ رحيماً، ولم تتخذْ وطناً من يديَّ..
ولم تعترفْ بالتواريخِ نائمةً، وستصحو على مُقلتَيَّ..

بدا لي من اللبثِ أني هنا..
أقيمُ على وحدتي موطنا..
أشيدُ الجهاتِ الكثيراتِ بيتاً،
لأسكنَهُ ديدنا ديدنا..
بدا لي هنا أنَّ هذا الخلودَ
إلى الليلِ (لمَّا يكنْ مُمْكنا)..
بدا لي وأقنعَني بالكتابةِ
أصحو بِها كي أرى مسكنا..
بدا أنَّ آياتيَ الفَتَياتِ
سيُصبحنَ في لحظةٍ مأمَنا..
ألوذُ بزاويةٍ من حناياهُ،
مُرتَجِفاً خائفاً مُؤمنا..
بما قلتُ، مبتعداً عن ثرايَ
ومقترباً للسما والسنا..
ولما بدا لي، بدوتُ طريقاً
إلى غيرِ ما أدَّري مُمْعِنا..
***

قصائدُ أم فواكهُ أم بناتُ..
يُقِمنَ بداخلي أم ذكرياتُ..
رضاً سخطٌ، وصبحٌ أنجميٌّ،
وموتٌ قدرَ ما تعني الحياةُ..
ونسيٌ كادِّكارٍ، فزَّ منهُ
سنابلُ بالجِياعِ مُعَبَّآتُ..
***

اليوسفيونَ: أرقامٌ مُوَزَّعَةٌ
على السجونِ، وآياتٌ على السُّحُبِ..
اليوسفيونَ: وهَّاجونَ أوقدَهم
ربٌّ فهم بينَ فلاحٍ وبينَ نبي..
اليوسفيونَ: أولادُ البئارِ رأتْ
فيهم قصودُ المراثي كلَّ مُتَّرِبِ..
اليوسفيونَ: قالوا قمحَهمْ وطناً،
وأثَّثُوهُ من الزيتونِ والرُّطَبِ..
واطعموا الزَّمَنَ الجَوعانَ وانتظروا
أن يَنقشُوا البَلَدَ المهجورَ، بالذَّهبِ..
وبشَّروا: أنْ سيأتي طالعٌ، عَبِقَاً
مُطَرَّزاً بالنَّدى والريشِ والعجبِ..
اليوسفيونَ أنهارٌ مُسَيِّجَةٌ
بها المدائنُ خوفَ القادمِ الخَرِبِ..
******

تذكرتُ يوسفَ في مصرَ، مصرُ التقتهُ على أرضِها مرتينِ، اشترتْهُ بدايتَها بدراهمَ معدودةٍ خادماً أو فتى لِزليخا، ولكنَّ مصرَ رأتْ فيهِ من بعدِ ذلكَ قدِّيسَها فالتقت فيهِ ثانيةً طائعاً قلبُها لإشاراتِ كفَّيهِ، فهْوَ يشيرُ إلى.. فتجلسُ شمسٌ، يقولُ: كذا فيطلُّ نهارٌ، يهمُّ بأنْ..، فتطيحُ عروشٌ، ويوسفُ مبتسماً يتمشى دهاليزَ صيرورةِ الكونِ، ينجو من البئرِ يصبحُ غيماً، ويُتَّهمُ الذئبُ فيهِ فيعشقُهُ ملِكٌ عادلٌ بل يُوحَّدُ فيهِ الإلهَ فتخبو الذئابُ بمصرَ وكانتْ بمصرَ تمصُّ دمَ الآدمينْ..
فأكرمْ بهِ لا ملاكاً كريماً ولكنَّهُ بشرٌ من حنينْ..

عُدْ لي بربِّكَ مثلَ يوسُفَ، أو أَعِدْ
كقميصِهِ لي من هواكَ قميصا..
وابعثْ بريحِكَ لي جَناحَ حمامةٍ،
ينْبِتْ جَناحَ حمامتي المقصوصا..
قَسَمَتْنِيَ النزعاتُ حتى أنَّني
وُزِّعتُ بينَ الناظرينَ شخوصا..
حيناً أكونُ أنا، وحيناً لا أكونُ،
لذاكَ أُحْسِنُ أن أكونَ نصوصا..
حرصاً على أن أقتفي ما أكتفي
بوجودِهِ كي لا أُضَاعَ رخيصا..
وأنا الحريصُ على وجودي كوكباً
مُتأبِّطاً بالضوءِ، ليسَ حريصا..
***

أروعُ ما يُبهِجُ المصباحَ أنَّهُ يتَّقدُ حزناً كي يضيءَ، فيفرحَ المستضيئونَ حولَهُ، بأحزانِهِ المشمسة..
ليس للمصباحِ قيمةُ أن يظلَّ، لولا أنَّ لهُ قلباً مُشِعَّاً في العيونِ، يرى الحبيبُ على ضوئهِ وجهَ الحبيبِ، ويرى الطفلُ على ضوئهِ أمَّاً، رغمَ كونِها مغطاةً بصفةِ أنها ربةٌ لبيتٍ؛ صحيحٌ أنَّ الحبيبَ السالفَ لو كانَ لهُ ما للمصباحِ من وجدٍ لما احتاجَ لرؤيةِ وجهِ حبيبِهِ إلى مصباحٍ، لأنَّهُ في لحظةِ العشقِ الحقَّةِ سيصبحُ هو مصباحاً فلا تعودُ عيناهُ محتاجتينِ إلى ضوءٍ خارجيٍّ أبداً، ولكنْ على كلِّ حالٍ للعشقِ درجاتٌ ومنازلُ لا ينالُها كلُّ من ادَّعى العشقَ..
ولولا المصابيحُ لبارتِ الليالي..
***

وكونيَ مصباحاً: سبيلٌ إلى وحدي..
ومسلكُ أنْ أمشي حثيثاً إلى لحدي..
ومدعاةُ أن لا أصطفي غيرَ لوعتي
رفيقاً، وأن أعدو إلى ذلكَ القصدِ..
على عَرَباتِ العمرِ أحملُ موتيَ
الثَّقيلَ، وأنحو بالدجى جهةَ السُّهْدِ..
وأطرقُ بابَ المُنتهينَ مؤدَّباً،
وأستأذنُ العشاقَ أن يقبلوا (مهدي)..
وأن تَتَشظَّى بينَهم رئتي وأنْ
أؤكدَ أنَّ الوجدَ أجمَعَهُ عندي..
فإنْ أذِنوا، أذَّنتُ آيةَ أنني
تُوفّيتُ - عني راضياً - عالمُ الوجدِ..
***

على بابِ المقابرِ شدتُ عينا
رقيباً كي تكونَ هناكَ عينا
فإنْ ظمئتْ خطايَ وجدتُ عينا
تفيضُ من الثرى ماءً عَلَيَّ..
***

موتي ارتضاني وشاءَ المنتهى ورمى
وشالَ أحجارَ أن آتي لهُ ورمى
ولم يكنْ شاهداً أني ثرى ورما
دٌ من عذاباتِهِ، يا موتُ فاشرحْ لي
هذا الطريقَ لكي ألقي بهِ رحلي
فإنْ أنا لم أرُحْ نحو المنى رُحْ لي
وقطِّعِ الروحَ واملأْ قصتي ورما
***

يا لذةً مُشتَهاةً، أقفلي جسدي
على مواويلِهِ، واستنهضي القصبا..
وحوِّلي العمرَ ناياً واشحنيهِ سدىً،
سدىً بصورةِ أن يبدو لنا طربا..
سدىً نعيشُ بهِ أعمارَنا كذِباً
لا نشتهيهِ ونأبى كونَهُ كذِبا..
لكنْ نساقيهِ من أرواحِنا قلقاً،
حتى لَينمو سُدانا قريةً وربى..
وساكنينَ وأكواخاً تشيخُ ولا
تدري بأنَّ الذي قد شاخَ محضُ هَبا..
وخارطاتٍ من اللا شيءِ تحملُنا
إلى الفراغِ فراغاً في الفراغِ خبا..
***

إذاً هُوَ هذا الخرابُ الذي أنا فيهِ، مآلٌ إليهِ انتهيتُ، وأنتَ تُهندسُ ما يخطئُ الآخرونَ، ولا تدَّعيني لصيقاً لكونِكَ، لا ترتضيني هواءً يُغرِّدُ في رئتيكَ ولا ترتضيكَ هواءً يؤدي التحيةَ في رئتيَّ، بعيداً بعيداً تمارسُ وحدتَكَ المزهريةَ عطراً لغيري، بعيداً تمسُّ البحارَ فتجعلُها كالفراشاتِ مائيةً لا تحطُّ على غُصْنِيَ المُشتهيكْ..
أنا أدَّعيكْ..
ممالكَ ضاعتْ وأصقاعَ شعرٍ تآكلَها الليلُ في غفلةٍ من سُهادِ المليكْ..
***

ما زلتُ أقطفُ من نجومِ سمائِهِ
ما أستضيءُ بهِ وما يهديني..
ما زلتُ أشعرُني بأنِّي نوبةٌ
من رأسِهِ مشدودةٌ لجنوني..
ما زلتُ أخذلُ مُدَّعى أنِّي سواهُ،
وأنَّهُ ليسَ الذي بجبيني..
أنا كنهُهُ، وهو المقيمُ على المعاني،
وهْي أشرعةٌ بهامِ سفيني..
***

هل أجلُّ مِنْ أنْ أتمدَّدَ كالمعدنِ عندَما أحسُّ بحرارةِ البعدِ؟
وهل أجلُّ من أن أصلَ إلى ضالتي لا بالطريقِ البريِّ ولا الآخرِ الجويِّ أبداً فقد جرَّبتُهما ولم يُجرِّباني، أو بعبارةٍ أصحَّ لم ينتفِعا من صحوي جداً في مداهما المغبرِّ جداً،، إنَّ طريقي إلى ضالّتي هو الصحراءُ، غيرُ تلك المدعوةِ براً، إنها صحراءُ التأمُّلِ..
ولا ضيرَ بأن ألقي عليها اسمَ الصحراءِ، فأنا مولعٌ بقطعِ المسافاتِ الجافةِ، تماشياً مع الفحوى..
***

إنَّ فحوايَ تُشبِهُ الصحراءا..
رغمَ إيماءتي حقولاً وماءا..
رغمَ إغماضتي نهاراتِ وردٍ
ومواويلَ تنجبُ الأولياءا..
إنَّ فحوايَ لا الجفافُ، ولكنَّ
القرى والحقولَ والبسطاءا..
محضُ فحوايَ،، والشبابيكُ تغفو
بينَ عينيَّ كالغرامِ مُضاءا..
سكنتْ في حدائقي ألفُ عذراءَ،
وعادتْ نقيَّةً عذراءا..
إنني المطفأُ الوحيدُ المعنى
باشتعالاتِهِ، ظهوراً خفاءا..
***

الصحراءُ بجنبِ الذاتِ معوَّذتانِ، أتمتمُ ليلياً عطرَهما، مكتفياً بالشوكِ الصحراويِّ بصيغةِ أزهارِ الروحْ..
لا قعرَ ولا ثمةَ أغوارٌ، كلُّ خيالِ الروحِ صروحْ..
لا الدمعُ المسفوحُ بطولِ العمرِ بدمعٍ مسفوحْ..
لا الصوتُ المتعرِّجُ في الأبعادِ بزوَّادةِ جدوى فارغةٍ من جدواها، سيرٌ مبحوحْ..
لا أثرٌ لبقاءٍ مجروحْ..
في هذا المدِّ الممتدِّ من الطفلِ المكبوتِ إلى الشيخِ المفضوحْ..
الأيامُ متونٌ للذةِ في الداخلِ والأشعارُ شروحْ..
لا أثرٌ لبقاءٍ مجروحْ..
***

قَلقي: عقلُ آدمٍ، شهواتي:
وجهُ حوَّاءَ، مِيتَتي: هابيلُ..
وحدتي: الأرضُ حينَ أنزلَ فيها
الموتُ حيَّاً، وراحَ فيها يصولُ..
عشقيَ: الماءُ في مغارةِ صوفيٍّ،
وإصرارُهُ الجريءُ الخجولُ..
حُلُمي: البحرُ لا سفائنَ فيهِ،
فهو مَحْضٌ مُنَزَّهٌ مشغولُ..
بأساليبِ: كيفَ يخلقُ موجاً
آخَراً علَّ يقرأُ المجهولُ..
جوعيَ: النارُ قشةٌ، قشةٌ تشبعُ
منها فهْيَ اللهيبُ المَهُولُ..
ليليَ: العزلةُ الطويلةُ في المحوِ،
نهاري: وجوديَ المستحيلُ..
***


المستحيلاتُ أورقتْ شجراً
في الروحِ، واستُبدِلَ الضياعُ هدى..
والعاصفاتُ الصفاتُ غيَّرَها
هذا المسجَّى بكونِهِ ولدا..
ليبنيَ العمرَ قلعةً شهقتْ
ويرفعَ الحزنَ كوكباً صمدا..
ويُشهِدَ الماضيَ المكسَّرَ أنَّ
حُلْمَهُ قطُّ لم يعدْ بددا..
هذا الذي سارَ وحدهُ أبداً،
ها هُوَ يَختالُ أمَّةً أبدا..
يؤوي البساتينَ فرطَ أنهرِهِ،
ويُحدِثُ الظلَّ فرطَ ما وُجِدا..
لهُ من الذكرياتِ أهطلُها،
ومن بقايا الحقولِ ما حصَدا..
أبوهُ: أحلامُهُ مُضَيَّعةً،
وأمُّهُ: الدمعُ عندما وُلِدا..
لكنَّهُ - وهْوَ من قدِ انمحقتْ -
حياتُهُ: ألجليدَ والجلدا..
فهْوَ المهبُّ العصوفُ مُنصدِماً،
والجذعُ بالرغمِ أنَّهُ انجردا
***

المعنى في قلبِ الشاعرِ، والشاعرُ يسكنُ في قلبِ المعنى، والإثنانِ سماءانْ..
يتسلَّقُ هذا سُلَّمَ هذا مكتظاً بالصحوةِ منغمراً بالمطرِ الشعريِّ يناغمُ أسئلةَ الروحِ مجيباً: إنَّ الوجدَ لذيذٌ، إنَّ الإنسانْ..
لو يسكنُ فعلاً فيهِ، يرى بلداً آخرَ أصفى من بلدٍ يسكنُهُ مثلَ غريبٍ منطفئٍ عندَ الشطآنْ..
يحسبُ أياماً ضيَّعها بحثاً عنهُ وبحثاً عن معناهُ وعن معنى الأوطانْ..
بحضورِ الأوطانِ وحظرِ الأوطانْ..
الإنسانُ مهانْ..
لولا أنَّ الشعرَ وبعضَ الليلِ وبعضَ الملحِ وبعضَ الرملِ وبعضَ الغيمِ وبعضَ نزيفِ العينينِ وبعضَ الهَيَمانْ..
لولا هذي الأطيافُ بداخلِ هذا القلبِ المقلوبِ إلى بركانْ..
لتحوَّلَ هذا العمرُ إلى مستوطنةٍ والعيشُ إلى حربٍ والبيتُ إلى سجنٍ والصحبُ إلى جنديٍّ أو سلطانٍ أو سجَّانْ..
***

إنْ قلتُ: (إنكَ)، قلَّ ذلكَ إنَّما
التوكيدُ أجمعُهُ إليكَ يؤولُ
أو قلتُ: (كنتَ)، بقاؤُكَ استثناؤهُ
لا الرمزُ يسعفُني ولا التأويلُ
أنا في ندى خدَّيكَ أزرعُ سُنبلي
قُبَلاً ويشفعُ لي هنا التقبيلُ
***



الآراء (0)   

دعمك البسيط يساعدنا على:

- إبقاء الموقع حيّاً
- إبقاء الموقع نظيفاً بلا إعلانات

يمكنك دعمنا بشراء كاسة قهوة لنا من هنا: