منزل مزدحم بالغائبين - تمام التلاوي | القصيدة.كوم

شاعرٌ وطبيبٌ سوريٌّ (1977-) له تجربةٌ طويلةٌ ومهمّةٌ في الشعرية العربية. وخصوصا التفعيلة منها.


1911 | 0 | 0 | 0



(إلى هَنَاء... أمّي)

في منزلٍ مِن غرفتينِ ورَدهةٍ
ربّيتُ أحلامي لأعوامٍ طِوالٍ.
ربّما دخلَتْهُ إمرأةٌ لتُنجِبَ فيه حُلْماً عابراً أو تقتلَهْ
ولربّما كنّا نعذّبُهُ كثيراً في مسَاءاتِ الوعولِ..
فنكسرُ الأقداحَ فوقَ سكونهِ
أوْ نصفعُ الأبوابَ
أوْ حتّى نقوِّضُهُ بعصفِ لهاثِنا في الليلِ.

لكنّي اعتنيتُ بهِ كأنّهُ والدي،
لي فيهِ كرسيٌّ كحِضنِكِ آنَ يُدفِئُ عزلَتي،
ونوافذٌ مفتوحةٌ لتأمُّلِ الأيَّامِ وهْيَ تمُرُّ في بالِ الخريفْ.

مفتاحُهُ ما زالَ يصدأُ في حقيبتِها،
وها إنّي أواصلُ عادتي في الانتظار ومضْغِ ذاكرتي كلوْزٍ،
تاركاً خلفي سريراً فارغاً بعدَ التي كانتْ تبعثِرُ عمرَها
كرَزاً وسمّاقاً وجمْراً فوقَ شَرشَفِ ذكرياتي.

سوفَ أضحكُ حينَ أذكرُ
كيفَ كانَ التمْرُ ينضُجُ في عرُوقي
كلّما ارتعشَتْ على شَفَةِ القرنفُلِ زَفْرةٌ
أوْ كلّما ارتطمَتْ على كَتِفَيْ دمي ساقانِ مِن دفلى.
سأضحكُ.. كنتُ مأخوذاً بموجي،
لا أحطُّ بمرفأٍ إلاّ لأُبحرَ منْ جديدٍ،
كانَ لي بحّارَةٌ لا يسأمونَ منَ الأغاني
وهْي تخفِقُ في صواري القلبِ،

لكنّي سأبكي حينَ يُرجِعُني صريرُ البابِ يا أمّي
إلى القلَمِ الذي اقترفَتْ بهِ أنثايَ حزني
فجرَ أقفلَتِ المدينةُ خلفَها برِتاجِ أشعاري نهاري..


إنّما لي منزلٌ منْ غرفتينِ ورَدهةٍ،
ربّيتُ فيهِ صِغَارَ أحلامي لأعوامٍ كمَا ربّيتِنِي،
وحرستُ صمتَ جُنَينتي بشُجيرتَي وردٍ وليمونٍ وأيْكةِ آكِدِنْيا،
رافعاً قمرِي لجارتِنا التي تصطادُ أعشاشَ العصافيرِ الصغيرةِ
كلّما اهتزَّتْ غُصونُ الحبِّ في قلبي..

تركتُكِ.. كنتِ واقِفَةً على عتَباتِ دمعَكِ كالفَنَارِ،
وكنتِ عبَّأْتِ الحقيبةَ بالحنينِ وقلتِ:
لا تنظرْ إليَّ لأنّني سمراءُ يا ابْني،
إنّني السمراءُ، سوسنَةٌ العواصِمِ،
لوَّحتْني الشمسُ في زمَنٍ نطَرْتُ بهِ كرومَكَ،
لوَّحتْني شمسُ أيّامي، ولمْ أنطُرْ أنا كرْمي..

وقفتِ.. وكانَ صدرُكِ يومَها رَطْباً،
وكانتْ ذكرياتُكِ ربّما هيَ ذكرياتي نفسُها.
ولأنَّ عاداتي قد اختلفَتْ كثيراً،
صارَ يكفي أنْ أرى باباً لأدخلَ في البكاءْ
أوْ أنْ أُلامسَ حائطاً
حتى يصيرَ أرَقَّ منْ أثوابِ نومِكِ..



منزلي، ربّيْتُ فيهِ صِغارَ أحلامي كمَا ربَّيتِني،
ومنعتُها مِنْ أنْ تُغافلَني وتلعبَ مع صغارِ الحيِّ،
قلتُ: هناكَ ذئبٌ في المدينةِ،
قلتُ: ثمَّةَ ساحراتٌ،
قلتُ: قربَ البحرِ كوخُ البحرِ
يقْطُنُ فيهِ شيخٌ يأكلُ الأولادَ..

لمْ أكذِبْ كثيراً يومَ قلتُ،
فحالما اشتدَّتْ بيَ الأحلامُ
وانطلقَتْ على صهَواتِ خيلِ الوهمِ مسرِعةً،
سهرتُ أمامَ طاولتي لأنتظِرَ البريدَ....
فجاءني فجراً ثلاثُ رسائلٍ لثلاثةٍ:
ذئبٌ، وساحرةٌ، وشيخٌ..

منزلي هذا، أراهُ الآنَ مزدحماً بكلِّ الغائبين:
حبيبتي، أهلي، وأصحابي القدامى..
بينما ما زلتُ منذُ الأمْسِ
مُرتمِياً على ورَقي وذاكرتي أعانقهُم وحيداً.
تحتَ عَتْمِ الحِبرِ، أنصِتُ لانهماري جيّداً،
وأرى ارتعاشَ العُشبِ تحتَ السورِ عبرَ بُخارِ نافذتي،
أبلِّلُ باشتياقي معطفَ الكلماتِ
وهْيَ تمُرُّ مسرعةً على ورقِ الرّصيفِ الآنَ،
نافِثةً دخانَ مَشاهِدي حولي،
وعابرةً على الشرفاتِ برقاً تلوَ برقٍ تلوَ برقٍ..

قبلَ أنْ أبكي، رأيتُ اللهَ،
فانبَجسَتْ حياتي عبرَ شرخٍ في جدارِ قصيدتي،
وترقرَقَتْ عينايَ بامرأةٍ وراءَ البابِ.
كانَ البابُ مطْلِيّاً ببيتِ العنكبوتِ،
وكانَ في أعلاهُ عشُّ حمامةٍ.
طارتْ.. فلا دخلَتْ خُطا امرأتي إليَّ،
ولا خرجتُ أنا إليها..

زنزنَتْكِ وساوسي، وتدفّقَتْ حولي حياتي،
ثمَّ جفَّتْ في الحنينِ وفي السنينِ
وفي الكتابِ الجامِعيِّ وفي رغيفٍ يابسٍ في مطبخي،
وعلى هواتِفِ لَيلِكُمْ وعلى غيابي
–أنتِ أقربُ في الغيابِ إليَّ منْ حبْلِ الوريدِ-
وفي الرّسائلِ أوْ عليها، في قرنفُلِ صاحِبَاتي أوْ عليهِ،
وفي المَمَرِّ تدفَّقَتْ،
وعلى رؤوسِ أصابعي جفَّتْ حياتي مثلَ حِبرٍ..

هكذا زعمَ الرّواةُ،
وهكذا قَصَّ الشتاءُ على المدى أقصوصَتي،
حتّى تلبَّدَتِ السماءُ بصوتِ أمّي والصلاةِ..

نعِستُ يا أمّي،
فأينَ الآنَ كفُّكِ تنفضُ الحُمَّى قليلاً عنْ سريري،
والحبيبةَ عنْ جبيني؟.
ربّما ما زلتِ جالسةً على نهرِ المدينةِ تعصرينَ قميصَ صبرِكِ.
ربّما جفَّتْ يداكِ وأنتِ ترمينَ السنينَ كما الحصى فوقَ المياهِ.
نعَمْ، رأيتُكِ عندما الْتَفَّتْ عليَّ دوائرُ الغرباءِ،
ما كنتُ استلَلْتُ القلبَ منْ غِمدِ البراري بعدُ.
طولَ الليلِ كنتُ ركضتُ طولَ الليلِ
لمْ أسقطْ ولمْ أسقطْ ولمْ أسقطْ
إلى أنْ غاصَ نابُ الّليثِ في فخذِ الغزالْ..

حسَنٌ إذنْ.. سأقولُ هذا منزلي،
وأعيدُ ترتيبَ الأواني فوقَ رَفِّ الأُمنياتِ.
وسوفَ أكنسُ عن بلاطِ الروحِ
ما قدْ خلَّفَتْهُ عليهِ أحذيةُ النَّدامى،
ثُمّ أحلُمُ منْ جديدٍ،
ناسياً مائي القديمَ يجِفُّ فوقَ النارِ في إبريقِ وقتي،
سانِداً رأسي على كَتِفِ الأريكةِ،
عابثاً في فَرْوِ قِطّتِيَ الكسولةِ.

إنّ هذا منزلي،
ولطالما جدرانُهُ كانتْ لصوتي دفتراً في الليلِ،
أمّا في الصباحِ فمِعطفاً سترَتْ بِهِ امرأتي خطيئَتَها القويَّةَ
عندما زارَتْ حيَاتي..

إنَّ هذا منزلي،
ولطالما ناقشتُ فيهِ الأنبياءَ بمَا أضفْتُ على رسائِلِهِمْ،
وأقنعتُ الشياطينَ الكبارَ هنا بلا جدوى وساوسِهِمْ.
وكانَ الأنبياءُ على يميني يجلِسونْ
أمّا الشياطينُ الكبارُ على الشِّمالِ فواقفونَ.
وكنتُ أشعِلُ بالجِدالِ سجَائِري،
حتّى تنَحْنَحَتِ الحقيقةُ ذاتَ قِسطاسٍ بجلسَتِها لتحكُمَ..
أطفَأَتْ أعقابَ قولي في فنَاجينِ السؤالِ،
وأردفَتْ: أينَ الحقيقةُ؟. قلتُ: فيكِ..
فأطرَقَتْ حُزناً، وأغْضَتْ عنْ جوابي النارَ،
ثُمَّ اغرَوْرقَتْ بالمُستحيلْ..

ولأنَّ هذا منزلي، فلقدْ مدَدتُ بشُرفتي
–مُذْ جِئتُ- حبلاً معدنيّاً،
ثُمَّ علَّقْتُ المدينةَ مثلما علقْتُ قمصاني
وأزواجَ انكساراتي وحَمَّالاتِ أوجاعِ الحبيبة
ِ. وانتقيْتُ لكيْ أُطِلَّ عليكِ نافذةً وكرسيّاً وعصفوراً،
فشارَفَتِ البلادُ على المطرْ،
ورأيتُ ظُفراً يخْمشُ امرأتي،
فأجهشَتِ الشوارِعُ بالشتاءْ،
ورأيتُ سيَّافاً على بابِ الخليفةِ يُشهِرُ الموتى عليَّ،
فحشرجَتْ بالرّعدِ حنجرتي وأحرقَتِ البواشِقَ والشجرْ...

الآنَ يا أمّي، وما بينَ المدينةِ والمدينةِ،
ينصِبُ الغرباءُ جسرَ الريحِ كيما يرجعونْ،
وأنا أعاونُهُم، أُفكِّكُ منزلي هذا،
لنرفعَ مِنْ حجارَتِهِ لأجلِ الجِسرِ أعمدَةً،
ونجعلَ منْ عوَارضِهِ أفَارِيزاً،
ونصنعَ منْ حديدِ مقابضِ الأبوابِ
حدْوَاتٍ لأجلِ الخيلِ..
لمْ نكبَرْ كثيراً،
بعدَ زوبعتَيْنِ سوفَ تُقِلُّنَا العرباتُ نحوَ الأمّهاتِ،
وسوفَ نرجِعُ كلُّنَا، غرباءَ مُبْتَلِّينَ بالمنفى..
وقدْ خشُنتْ جلودُهمُ قليلاً ربّما،
أوْ ربّما اتَّسعَتْ منَاكبُهُمْ قليلاً،
ربّما عَرِيَتْ رؤوسُهُمُ قليلاً..
إنّما ازدادَتْ قساوَتُهُمْ كثيراً
بعدَما جفَّتْ على طرقَاتِهِمْ آبارُ أعينِهِمْ،
وجَفُّوا بعدما امتصَّتْ لحومَ صدورِهِمْ أُمُّ الذِّئابْ.



الآنَ يا أمّي أفكِّكُ منزلي حجَراً
حجَرْ
حجَراً
حجَرْ..

للأرضِ عادتُها،
ولي في الأرضِ عاداتُ الغجَرْ.
سترَيْنَنِي يوماً أمامَ البابِ مُنتصِباً كنَايٍ،
فاعرفيني إنْ لمَحْتِ أصابعي وتَراً وتَرْ
تهتَزُّ في قيثارةٍ صدئَتْ، وفُضِّي عن وعولي شبْكةَ الصيّادِ،
وانتَزِعي الطحالبَ عنْ ضفافِ العُمرِ،
هُزّيني كجذعِ النخْلِ تسَّاقَطْ على قدمَيكِ أغنيتي
وأنطقُ مرّةً أخرى بمهْدِ الحُلمِ،
ربّينِي كمَا ربّيْتُ أحلامي، ولا تضَعي الوِشاحَ،
ولا تطوفي بي بأسواقِ المدينةِ منْ جديدٍ،
بلْ ضعيني وردةً بإناءِ صدرِكِ،
والْمسِيني دائماً بيدَينِ سمْراوَينِ، يا سمراءُ،
يا مَنْ طالَما غرَّتْكِ غيْرَةُ والدي،
وخناجِرُ المَلِكاتِ وهيَ تُضيئُ في غُرفِ المُلوكْ..


هوَ منزلٌ منْ غُرفتَينِ ورَدهةٍ،
بابٍ، وخمسِ نوافذٍ وجُنَينَةٍ
فكَّكْتُهُ، وجلستُ مُستنِداً لزنْكِ خزانتي،
أصغي إلى مطرٍ قديمٍ.
ليْتَ هذا منزلي،
إذْ ليْسَ هذا منزلي.
فكَّكْتُهُ.. فكَّكْتُهُ..
وجلسْتُ في المطرِ القديمِ أُضيئُ أوراقي ببَرْقِ مدائحي..
سمراءُ،
يا أمَّ المنازلِ كلِّها،
كمْ منزلٍ في الأرضِ قدْ عَقَّ الفتى،
ومديحُهُ أبداً
/أبداً/ لأوَّلِ منزِلِ..









الآراء (0)   


الموقع مهدد بالإغلاق نظراً لعجز الدعم المادي عن تغطية تكاليف الموقع.

يمكنك دعمنا ولو بمبلغ بسيط لإبقاء الموقع حياً.




قصيدة الليل
( 4.7k | 0 | 1 )
شعرائيل
( 4.1k | 3 | 0 )
رأيت نهدك مرة في الحلم
( 3.3k | 0 | 0 )
أنا كاذبٌ مهما أقُلْ
( 3k | 0 | 0 )
أراك أراك ولو من بعيد
( 2.8k | 0 | 1 )
مرّي عليَّ
( 2.7k | 5 | 0 )
بعضُ عُيوبِها
( 2.6k | 5 | 0 )
الرباعيات الست كما وردت في معجم الورد
( 2.4k | 5 | 1 )
من آخر النسيان عادت
( 2.4k | 0 | 1 )
قصيدة القصائد
( 2.4k | 0 | 0 )
بكى صاحبي في دمشق
( 2.4k | 0 | 0 )
آخر حسرات الناصري
( 2.4k | 0 | 0 )
الغفران
( 2.3k | 0 | 1 )
غيابك شيخ كبير
( 2.3k | 0 | 1 )
عديني ثم لا تأتي
( 2.3k | 5 | 2 )
اعبري الجسر ثم اكسريه
( 2.2k | 0 | 1 )
أُبشِّركم أنَّ موتي قريبٌ
( 2.2k | 5 | 1 )
لم أستطع.. لم أستطع
( 2.1k | 0 | 0 )
الرواية الأكثر صحة لحادثتي الطوفان
( 2.1k | 0 | 1 )
اقتلوني
( 2k | 0 | 0 )
ويشير لامرأة بعيدة
( 2k | 5 | 0 )
نبوءة بخراب مصر
( 2k | 0 | 0 )
النبوءة
( 1.9k | 0 | 0 )
آدم
( 1.9k | 0 | 2 )
إذا جئت قطعن أحلامهن
( 1.9k | 0 | 0 )
خريف لأشجار كارولينا
( 1.9k | 0 | 0 )
كم كذبتَ علينا
( 1.8k | 0 | 0 )
القابضون على حفنة من ريح
( 1.8k | 0 | 0 )
بانتظار الوقت
( 1.7k | 0 | 1 )
الأرض دفتري الصغير
( 1.7k | 0 | 0 )
ثلاثة فصول لضمائر الغائب
( 1.7k | 0 | 0 )
الصعود
( 1.7k | 0 | 1 )
قصة في مشهدين
( 1.7k | 0 | 0 )
تنهدات فجرية
( 1.7k | 0 | 0 )
أتموا مراسيم دفني
( 1.6k | 0 | 0 )
التداعيات الجماعية لأصدقاء العزلة
( 1.5k | 0 | 0 )
جدار الدمع
( 1.5k | 0 | 0 )
لن أطيلَ التحدُّثَ عنكِ
( 1.4k | 0 | 0 )
شمال دمشق..على البحر
( 1.4k | 0 | 0 )