شاعر وناقد ومفكر ومترجم سوري لبناني، قاد الثورة الحداثوية في النصف الثاني من القرن العشرين، مما ترك أثرا كبيرا على الشعر العربي يشبه تأثير إليوت على الشعر الإنجليزي. حائز على جائزة العويس الثقافية دورة 2002-2003 في مجال الإنجاز الثقافي والعلمي. (1930-)
834 |
0 |
0 |
1
0 تقييم
إحصائيات تقييم قصيدة "الصقر" لـ "أدونيس"
عدد التقييمات: |
معدل التقييم: 0
5 star
0
4 star
0
3 star
0
2 star
0
1 star
0
لتقييم وتفضيل ومشاركة جميع قصائد وترجمات الموقع، يتوجب تسجيل الدخول. عملية إنشاء حساب جديد أو تسجيل الدخول لا تستغرق من وقتك دقيقة واحدة، وتتيح لك العديد من المزايا
قيم قصيدة "الصقر" لـ "أدونيس"
الصقر 0
مشاركة القصيدة
إلقاء: أدونيس
"وأقبلت الخيل فصاحوا علينا من الشط: ارجعا لا بأس عليكما، فسبحت، وسبح الغلام أخي، فالتفتّ إليه لأقوّيَ من قلبه، فلم يسمعني واغترَّ بأمانهم وخشي الغرق، فاستعجل الانقلاب نحوهم، وقطعت أنا الفرات، ثم قدّموا الصبي أخي الذي صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه ومضوا برأسه، وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومضيت إلى وجهي: أحسب أني طائر وأنا ساعٍ على قدميّ".
- عبد الرحمن الداخل (صقر قريش)
1
"أيام الصقر"
هدأتْ فوق وجهيَ بين الفريسةِ والفارسِ الرّماحُ
جسدي يتدحرج والموتُ حُوذيّهُ والرياحُ
جُثَثٌ تتدلّى ومرثيّةٌ، -
وكأنّ النهارْ
حجرٌ يثقبُ الحياةْ
وكأنّ النهارْ
عرَباتٌ من الدمعِ،
غيّرْ رنينَكَ يا صوتُ،
أسمعُ صوتَ الفراتْ:
... والسماء على الجرُح ممدودةٌ، والضفافْ
تتهامسُ، تمتدُّ:
بيني وبين الضفافْ
لغةٌ، بيننا حوارْ
حضنتهُ الكراكيُّ، طافتْ به كالشراعْ
بيننا، -
(وافُراتاهُ، كنْ ليَ جسراً، وكن لي قناعْ)
وترسَّبتُ،
غيّرْ رنينَكَ يا صوتُ،
أسمعُ صوتَ الفراتْ:
- "قريش...
لؤلؤةٌ تشعٌّ من دمشقْ
يُخْبئها الصندلُ واللُّبانْ
أرقُّ ما رقَّ له لبنانْ
أجملُ ما حدّثَ عنه الشرقْ..."
... وأنا في فضاء الجنادبِ تحت الغيوم الجريحَهْ
حجرٌ ميّتُ الجناحْ
حجرٌ ميّتُ القوادمِ،
والموتُ يسرجُ أفراسَهُ،
والذبيحَهْ
بجعٌ يتخبّطُ،
غيِّرْ دويَّكَ يا صوتُ
أسمعُ صوتَ الفراتْ:
- "قُريش...
لم يبقَ من قُريش
غير الدمِ النافرِ مثل الرمحْ
لم يبقَ غيرُ الجرحْ"
افتحي يا براري مصاريعَ أبوابِكِ الصدئاتِ:
مَلِكٌ والفضاءُ خراجي ومملكتي خُطواتي
مَلِكٌ أتقدّمُ أبني فتوحي
فوقَ هذا الجليدِ المؤصّلِ، فوقَ الجموحِ
أعرفُ أن أجرحَ الرمل، أزرع في جرحهِ النخيلا
أعرف أن أبعث الفضاء القتيلا،
والطريقُ يدحرجُ أهوالَهُ ويضيقُ
والطريق مرايا
كتبٌ ومرايا
أتقرّى تجاويفَها
أتفرّسُ
ألمسُ فيها بقايا
فارسٍ عاشق الخطى
أقرأ الخطوةَ والعشب والنخيلَ، وأُفْقاً
نسجتهُ التنهّداتُ القصيره
حيث لا يهدأ الحريقُ
حيث لا تنتهي الخطوات الأميرَهْ.
في الشقوق تفيّأتُ
كنتُ أجسُّ الدقائقَ
أمخضُ ثديَ القِفارْ
سرتُ أمضى من السهم أمضى
عقرتُ الحصى والغبارْ
كانتِ الأرضُ أضيقَ من ظلِّ رُمحيَ – مُتُّ
سمعتُ العقاربَ كيف تصيءُ، هديتُ القطا في المجاهل –
مُتُّ، انحنيتُ على الأرض أكثر صبراً من الأرض – مُتُّ
انكببتُ على كاهل الريحِ
صلّيتُ
وشوشتُ حتى الحجارْ
وقرأتُ النجومَ، كتبتُ عناوينَها ومحوتُ
راسِماً شهوتي خريطَهْ
ودمي حبرُها وأعماقيَ البسيطَهْ.
ساهرٌ بين جذري وأغصانِهِ والمياه
نضبتْ،
والتوابعُ مملوءةُ الجباهْ
زَهَراً يابساً وقبوراً وديعَهْ،
صاعدٌ لبروجِ التحوّل حيث الفجيعَهْ
حيث يسّاقطُ الرمادُ
حيث يستيقظُ النشيجُ وينطفئُ السندبادُ.
لو أنني أعرفُ كالشاعر أن أغيّرَ الفصول
لو أنّني أعرفُ أن أكلِّمَ الأشياءْ،
سحرتُ قبر الفارسِ الطفل على الفراتْ
قبر أخي في شاطئ الفرات
(مات بلا غسلٍ ولا قبرٍ ولا صلاة)
وقلتُ للأشياء والفصولْ
تواصلي كهذه الأجواءْ
مُدّي ليَ الفُراتْ
خلّيه ماءً دافقاً أخضرَ كالزيتونْ
في دمي العاشقِ في تاريخيَ المسنونْ.
لو أنني أعرفُ كالشاعر أن أشاركَ النباتْ
أعراسَهُ،
قَنّعتُ هذا الشجرَ العاريَ بالأطفالْ،
لو أنني أعرفُ كالشاعرِ أن أُدَجِّنَ الغرابَهْ
سوّيتُ كلَّ حجرٍ سحابَهْ
تمطرُ فوق الشامِ والفُراتْ،
لو أنني أعرفُ كالشاعر أن أغيّرَ الآجالْ
لو أنني أعرفُ أن أكونْ
نَبوءةً تُنذِرُ أو علامَهْ،
لصحتُ يا غمامَهْ
تكاثفي وأمطري
باسميَ فوق الشامٍ والفُراتْ
باللهِ يا غمامَهْ...
ألسماءُ انفَتَحتْ،
صارَ الترابْ
كتباً، واللهُ في كلِّ كتابْ
ساهرٌ
لم يبقَ في وجهيَ صخرٌ نائمٌ، لم يبقَ في عيني سرابْ، -
علامةٌ تأتي من الفُراتْ:
أنا هوَ الساكنُ في طوقِكِ يا حمامَهْ
في سربِكَ الراحلِ يا خطّافْ
أنا هوَ الواضعُ كالعرّافْ
رؤياه والعلامَهْ
في الأفق في لُغاتِهِ الكثيرهْ
أنا هُوَ الفراتُ والجزيرهْ.
علامةٌ...
مهلكَ يا حنيني...
ألصقرُ في باديةِ العروق في مدائن السريرهْ
ألصقرُ كالهالةِ مرسومٌ على بوّابةِ الجزيرهْ
والصقرُ تطريزٌ على عباءةِ الصحراءْ
والصقرُ في الحنين في الحيرة بين الحُلمِ والبُكاءْ
والصقرُ في متاهِهِ، في يأسه الخلّاقْ
يبني على الذُروةِ في نهايةِ الأعماقْ
أندلسَ الأعماقْ
أندلسَ الطالعِ من دمشقْ
يحمل للغرب حصادَ الشرقْ
يرفعُ كالعاشقِ في تفجُّرٍ مَريدْ
في وَلَهِ الصبوةِ والإشراقْ
أندلسَ الأعماقْ
يرفعُها للكونِ – هذا الهيكل الجديدْ
كلُّ فضاءٍ باسمِهِ كتاب
وكلُّ ريحٍ باسمهِ نشيدْ.
(ربيع 1962)
***
***
2
"تحولات الصقر"
(كادت الفاقة أن تكون كفراً)
- حديث شريف
(عجبت ممن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه)
- أبو ذر الغفاري
1- فصل الربيع
هدأتْ صيحةُ البراري:
الغيومُ تسير على النخل.
تجنح في آخر النخلِ ورديّةَ الصواري؛
هدأتْ صيحةُ الرّجوعْ:
أسألها – دمشقُ لا تُجيبْ
لا تُنقذُ الغريبْ
"- هل مرَّ؟ إن يمرّْ
ماتَ بلا صوتٍ هنا أو سِرّْ."
ساكنٌ حيث تغفو تُطيلُ الزفيرْ
في حقول البكاءْ
في السرير الذي فرشتْهُ الدموعْ
في الممرِّ الصغيرْ
بين أجفانها والسماءْ.
... هدأتْ صيحةُ الرجوعْ:
ليس في عينيَّ شيءٌ من حياتي
غير أشباحٍ حزينَهْ
غير أنَّ الشجرَ الباكي على أرض المدينَهْ
عاشقٌ يسكن قلبي ويغنّي أغنياتي؛ -
يا مرايا الضياعِ الطويلْ
غيِّري صورةَ القمرْ
لم يعدْ وجهها هناكْ
أمسِ كنّا على القمرْ
فرأيناهُ عارياً
ورأيناهُ في الثيابْ
وصُعِقنا من النظرْ
كان وجهاً من الترابْ
غيِّري صورةَ القمرْ
لم يعدْ وجهُها هناكْ
يا مرايا الضياعِ الطويلْ ...
هدأتْ صيحةُ الرجوعْ:
أمضي ويمضي معيَ الفُراتْ
تتبعني الأشجارُ كالراياتْ
تتبعُني عينانِ من مجامرِ السنينْ
أرقصُ في خواصرِ التنّينْ
مع نجمةٍ سوداءْ.
هدأتْ صيحة الرجوعْ
غير أن الصواري
وطنٌ للدموعْ:
"... ولو اْنها عقلت، إذن لَبَكَتْ
ماءَ الفراتِ ومنبتَ النخلِ" (2)
هدأت صيحة الرجوعْ:
حائرٌ حائرٌ، ولي لغةٌ تهدر مخنوقةً ولي أبراجُ
حائرٌ أصلبُ النهارَ ويغوينيَ رعبٌ في صُلبهِ وهياجُ
حائرٌ تأخذُ الشواطئُ ميراثي وتحمي صباحيَ الأمواجُ،
... "غَنِيتُ عن روضٍ وقصرٍ شاهقِ
بالقفر، والإيطان في السُرادقِ
فقل لمن نامَ على النمارقِ
إنّ العُلى شُدَّتْ بهَمٍّ طارقِ
فاركبْ إليها شبحَ المضايقِ
أو لا، فأنتَ أرذلُ الخلائقِ" (3)
هدأتْ صيحةُ الرجوعْ:
طاغٍ، أدحرجُ تاريخي وأذبحهُ
على يديَّ، وأحييهِ،
ولي زمنٌ أقودُه،ُ وصباحاتٌ أُعذّبها
أُعطي لها الليل، أعطيها السرابَ، ولي
ظلٌّ ملأتُ به أرضي
يطولُ، يرى، يخضرُّ، يحرقُ ماضيه ويحترقُ
مثلي
ونحيا معاً نمشي معاً وعلى
شفاهِنا لغةٌ خضراءُ واحدةٌ
لكن أمامَ الضحى والموتِ نفترقُ.
هدأتْ صيحةُ الرجوعْ:
أحلمُ يا دمشق
بالرعب في ظلال قاسيونْ
بالزمن الماضي بلا عيونْ
بالجسد اليابسِ، بالمقابر الخرساءْ
تصيحُ: يا دمشقْ
موتي هنا واحترقي وعودي
تصيح: لا، مُوتي ولا تعودي
أيتها الطريدةُ المليئةُ الفخذين يا دمشقْ.
يا امرأةً منذورةً لكل من يجيءْ
للحظِّ، أو للعابر الجريءْ
ترقدُ في حُمّى وفي ارتخاءْ
تحت ذراع الشَرقْ،
رسمتُ عينيكِ على كتابي
حملتُ ميراثكِ في شبابي
في الغُوطةِ الخضراء في سفوحِ قاسيونْ
يا امرأةً للوحلِ والخطيئهْ
أيتها الغوايةُ المضيئهْ
يا بلداً كان اسمهُ دمشقْ...
أمسِ، أنا والشعرُ والنهارْ
جئنا إلى الغُوطةِ واقتحمنا
بوّابةَ الرجاءْ
نستصرخُ الأشجارْ
نستصرخُ الحقولَ والمياه
ننسج منها رايةً وجيشاً
نغزو به سماءَكِ السوداءْ
ولم نزلْ ننسج يا دمشقْ
ورحتُ في رُعبٍ وفي ابتهالْ
أسقط كالزلزالْ
على روابي جلّقِ الجميلَهْ
أحضنُها أضربها أغنّي – هاها هَلا هلالْ
وقلتُ: لا، فلتَبقَ في حنيني
وفي دمي دمشق
وقلتُ: لا، فلتحترقْ دمشق
واستيقظتْ أعماقيَ القتيلهْ
مذعورة تصيحُ: وادمشْقْ...
يا امرأة الرفضِ بلا يقينْ
يا امرأةَ القَبولْ
يا امرأةَ الضوضاءِ والذهولْ
يا امرأةً مليئةَ العروق بالغابات والوحولْ
أيتها العاريةُ الضائعة الفخذينِ يا دمشقْ،
تُصغين للموتى وللقبور والتكايا
تُصغين في خُشوعْ
وتعشقينَ الجُثَثَ الصفراءَ والضحايا
وتأكلينَ الطينَ والدموعْ
أيتها المنهومةُ القاضمةُ القشور يا دمشق...
يا حُبُّ، لا...
عفوكِ يا دمشقْ
لولاكِ، لم أهبطْ إلى الأغوارْ
لم أهدم الأسوارْ،
لم أعرفِ النارَ التي تنادي
تضجُّ في تاريخنا، تضيءْ
سفينة الكونِ الذي يجيءْ؛
عفوكِ يا دمشقْ
أيتها الخاطئةُ القدّيسة الخطايا...
***
2- فصل الصعود إلى أبراج الموت
مَرَّ عليَّ اللهبُ الطالع بعد الرجمْ
والتحمتْ في خَطويَ الجسورْ
أعرف أن أجريَ مثل الماءْ
في رئةِ الصحراءْ
أعرف بعد الآن أن أغيّرَ العصورْ
أن أمزجَ العصورَ بالعصورْ
أعرف أن أعيدَها
قصيدةً أو ثورةً أو حلمْ...
أسرعي يا سحابَهْ
أيّ أغنيّةٍ تُنشدينْ؟
أسرعي أسرعي يا سحابَهْ
ما الذي تحملينْ
أيّ جبّانةٍ أو ربابَهْ؟
ألمح نهراً يسافرُ، يكبو وينهض في رأسيَ البعيدِ
عاشقاً يتقصّى رُؤايا
جالباً آخذاً بريدي
حفرتهُ المسافةُ بيني وبين خُطايا...
ما الذي تحملينْ
أيّ أغنيةٍ تنشدين؟
أسرعي أسرعي يا سحابَهْ...
جسدي ضائعٌ، صار قبريَ كالخيط في كُفّةِ العباءَهْ
في الدُجى،
والشِّباك التي تتصيّدُ أشباحَهُ، ووهم الإضاءهْ.
أسمعُ صوتاً يجرّ على الرمل أيّامه الثقيلَهْ
أسمعُ أحلامَهُ القتيلَهْ
كلّ حلمٍ قبيلهْ
والخيامُ حناجرُ مشدودةٌ والحبالُ صلاةُ:
- "علّقينا هنالك، بالنخل بالعشب
حيث الحياةُ
واربطينا إلى الماءِ...
- "لا ماءَ، لا عاصمٌ، والنبيّونَ ماتوا".
أسمعُ تحت المناديل بين الرُكامْ
في الضحى، في انكسارِ السماء على الأرض،
في درجات الظلامْ
وهي تعلو وتسقطُ، بين المدينة والشمس،
بين الصدى والأنينْ
أسمعُ مثل الحنينْ
مثل نبضِ الليونةِ في صخرةٍ لا تلينْ
مثلَ دفقِ الينابيعِ مثل الكلامْ:
- "نحن يا جائعُ كنا مُتخمينْ
لم يكن موكبنا يمشي وراءَكْ
لم يكفّنكَ ولا صلّى عليكْ
نحن يا جائعُ لم نسمعْ نداءكْ...
نحن صرنا جائعينْ
فتقبّلْنا لديكْ،
أمس، عدنا متعبينْ
فارتمينا وتوسّدنا السنينْ
وحلمنا،
ورأينا
أننا في الحلم صلّينا عليكْ..."
ألمحُ نفسي هنالكَ في آخر الرصيفِ
(جسدي حفرةٌ خاويهْ)
أعرف نفسي هنالك في شهورةٍ ضاريهْ
في جبينٍ تعوّج فوق الرغيفِ،
أعرف نفسي هنالكَ في طفلةٍ قتيلَهْ
في السُعال المدوّر والرئة المستطيلَهْ
حاملاً صخرة المدينهْ
مائلاً كالقناطرِ في قُبّةِ المدينهْ
غامراً أنّةَ المدينهْ:
"أسمعُ صمتَ الدهرْ
يحملُ أكفانَ الرؤى ويغسل الجفونْ
يزرعُ أشجاراً بلا غصونْ
حول ضفاف العُمر".
وهنا، بين الشقوقْ
فارسٌ يُسرجُ عينيه على ضوء العروقْ
يحضن الأرض ويستسلمُ للأرض ويغفو
مثلما تستسلمُ النخلةُ للأرض وتغفو
في عباءاتِ الفضاءْ
مطراً يأتي وواحاتِ رجاءْ.
أعرفُ – صارتْ يداكْ
خيمةً تتموّجُ كالغيم شفّافة السماءْ
أعرفُ – صار الفضاءْ
ورقاً أخضراً يتطايرُ في بيتكَ الغريبْ
فأنا من هناكْ
أيها الجائعُ الغريبْ
مات صوتي هناكْ
عاش صوتي هناكْ
كان صوتي نبيّاً رميتُ على شمسه ردائي
كان شمساً من الدمع مجروحةً ورائي...
تائهٌ؟ كيف؟
هاتِ صدركَ، يا تائهُ، واستمهل المدى والمسافَهْ
فرشت طفلتي لك الحلمَ والنخلَ وغزلانَهُ
وعنقَ الزرافهْ
وروى حلمُها لجوعكَ، وقتَ النوم،
أسطورة الجفون القصيرَهْ
حيثُ تغفو ولا تنامُ
وتُستَنفَرُ في صدركَ الرياحُ الأسيرهْ...
للروابي نارٌ، وللنخل أوتارٌ
وفي الليل صهوةُ المعراجِ
حيث تصّاعدُ الخُطى
ويصيرُ الحلم لوناً في سُلّمِ الأبراجِ
ويطول البحرُ القصيرُ
وتهوي الروحُ في جاذبيّةِ الأمواجِ.
علامةٌ:
"أعلو مع الهواءْ".
علامةٌ:
"لي فَرَسٌ.. وها هو الإسراء".
علامةٌ من أول الزمانِ:
"من ساحرٍ يأتي بلا دخان
من حجرٍ يصيرُ ياسمينَهْ
يحبل صمتُ الأرض بالأغاني
وتولَدُ المدينه".
كان أنْ نوَّرَ النخيلُ وأثمر في صرخاتي
حيث لاقاني الخضر، صلّى صلاتي
حيث تجتاحني كلماتي،
كان أن صارتِ الجِرارْ
لغةَ الماء والعيونْ
كان أن أصبحَ الجنونْ
فَرَساً للنهارْ؛ -
كلّ شيءٍ يُسافر بين السنابلِ
يحملُ أسرارَهُ، يستديرْ
خشناً، طيباً كالرغيفْ،
كلّ شيءٍ يسافر بين السنابل
يهجر تاريخَهُ الأليفْ
كلّ شيءٍ يصيرْ
نورساً يتموّجُ حول المياه العميقَهْ
في مدى بحري الصغيرْ –
بحر أحلاميَ الصديقَهْ.
من يريدُ طريقاً من البرق،
من يشتهي السماءْ
وهي حُبلى بأحلامِهِ، والطريقُ
فَرَسٌ حولها يدورُ:
من هنا تبدأ الطريقُ
من هنا يبدأ العبورُ
من يريد طريقاً من البرق، من منكمُ الرفيقُ؟
حان ميعادُنا،
من يلمُّ البُقولْ
من يهزّ الغصونَ الخفيّهْ
في سهول الرؤى ويجرُّ الخيولْ
من بُحيراتها القصيّه
نَهَراً موحشَ الرحيل أنيساً إلى الرحيلْ؟
من يُقيم على البلْح داراً ويلبسُ كوفيّة النخيلْ؟
زمنٌ ينتهي، وخيولٌ من الفجر محلولةُ الشكيمهْ
ترسمُ الصورةَ القديمه
لأحبّائيَ الحيارى
في الضفاف الحزينة في آخر الصحارى،
آه يا شكليَ القديمْ
(كيف يأتي، يعود الغريبُ إلى شكله القديمْ؟)
وبأيِّ اللغاتْ
سأحيّي الفراتْ -
ألسريرَ الذي هزَّني وسقانيَ من مائه الكريمْ؟
سأشقُ عروقي
نَهَراً يحمل الفضاءْ
سأدورُ مع الكوكب المغرّبِ أو جمرة الشروقِ
لابساً قامةَ الهواءْ
وأعود إلى نصفيَ المقيمْ
في الضفاف الحزينة في آخر الصحارى
أعطني أن أغنّيَ أحبابيَ الحيارى
أغطني أن ألفَّ حياتي
وَرَقاً،
أن أسيرا
في جذور الرمادْ
أعطني أن أكاشفَ هذي العصافيرَ هذا الجمادْ
أعطني أن أكون الحصى والحريرا.
في زمن الليلكِ والسنونو والنورس العاشق والأعيادْ
جئتُ إلى بغدادْ
على بساطٍ جامحٍ وديعْ
كانت حقول العشب والنباتْ
كانت رمال الماء والصحراءْ
والسفنُ الزنجيّة العينين في الفراتْ
حنجرةً خضراءْ
نستقبلُ الآتي بلا تخومْ
في موكب الأمطار والغيومْ
من جهة الأرض، من الربيعْ...
أقرعُ أجراسَ الدم الخفيّ
تحت رداء الأرضْ
أصعدُ في المشاعل المقيمهْ
تحت جليد الرفضْ
أجري مع الفراتْ
في زمنٍ سحريّ
من منبع الطفولةِ القديمةِ الشيخوخةِ القديمهْ.
كلُّ دم الفراتْ
في جسدي يجري وفي حنيني
وها أنا أزنّرُ السهولْ
أسهرُ في الأكواخ والحقولْ
أشدّ بالصيف يدَ الشتاءْ
أسيلُ أحلاماً على الترابْ
لا سَفَرٌ فيها ولا غيابْ
أسيلُ طوفاناً من البقاءْ
أطردُ عن شواطئي
بحّارةَ الرحيلْ
أهبط في أغواريَ الزرقاء في أُرومةِ القرابَهْ
أبحثُ عن بديلْ -
أبحثُ عن بوابة الغرابَهْ.
جئتُ إلى بغدادْ
في سَعَفِ النخل وماء النهر
في رئة العصفورْ
(ثمّةَ سجّانٌ من الدماءْ
تحرسه التيجانْ
يحرسُ أقفاصاً من الرؤوسْ
من جُزُر الأحلام والبكاءْ؛
حيّيتُها، ملأتُ أغنياتي
باللهب الأرضيِّ بالفؤوسْ
ورحتُ مسحوراً، بغير سحرٍ،
أخترقُ السَّجانْ
أقتحمُ المدافنَ الطويلهْ
أدخلُ في الأقفاص في أبعادها النحيله
أشعل غاباتٍ بلا نهايهْ...)
جئتُ إلى بغداد
في سَعَفِ النخل وماء النهرْ
في رئة العصفورْ
كان أبو تمّامْ
مشتعلاً كالجمرْ
خلف شتاء الليل والأحلامْ
يكتب أغنيّه
بالقصب المكسورْ
بنجمة الميلادْ
عن رحلة الصيف الشتائيهْ
سوداء سحريّه
تحيَةَ الآتي إلى بغدادْ.
لم يكن في الشوارع، في الماء بين القبورْ
غيرُ صمت القيامَهْ
ورأيتُ النواسيَّ يهذي ويحضن قارورةَ الكيمياءْ
مؤذناً بالعبورْ:
"كلُّ رمحٍ حمامهْ
كلّ أرضٍ سماءْ"
وسمعتُ النواسيّ مستطرداً كلامَهْ
حارقاً غابةَ السكينهْ:
"ذاتَ يومٍ،
تصيرُ القصائدُ بوّابةَ المدينَهْ
نحو أرض الغرابَهْ
وتصيرُ الغرابَهْ
وطنَ الأنبياءْ
ذاتَ يومٍ،
تسيرُ النجومُ على الأرض مثلَ النساءْ".
جئتُ إلى بغدادْ
أخطو على بساطٍ
بين خيوط الماء والأشجار
أسيرُ في أغواريَ البعيدَه
ألبسُ وجهَ النارْ
أستنطقُ الأرضَ الفراتيّهْ
حكى ليَ الفراتْ
ما قرأ العشبُ وما رَواهْ
عن سفرِ الأنهار والرعاةْ
حكى ليَ الفراتْ
عن كلّ ما رآهْ...
أسمع في الأحجارْ
أغنيّة الفصولْ
أسمع ما تقولْ
تلك السحابات الرماديّهْ...
وركضنا إلى العشبِ، نُصغي إليهْ
ساحراً، باسطاً يديهْ
طالعاً من شقوق التراب نقيَّ الكلامْ
وعرفنا من العشب أنّ الطبيعهْ
ستقيمُ السلامْ
بين أطفالنا والفجيعهْ
ستكون شرايينُهم كالجذورْ
وتشقُّ الصقيعْ
وتصيرُ جبالاً من الضوء ورديّة الجُسورْ
تصل الموتَ بالربيعْ
وتقومُ البذورْ
وتقومُ الصلاةْ
في رواقٍ على النيل يسمعُ تسبيحةَ الفراتْ...
ألزمنُ اخضرَّ، نما، وطالْ
أورقَ في الجدران والحصونْ
ألزمن الأنهارُ والتلالْ
والزمنُ العيونْ:
قاماتُ أشجارٍ ربيعيّهْ
في غابةِ الروحِ الفراتيّهْ...
ألزمنُ السيفُ هديرُ الموتْ
نهرٌ من الأضاحي
نهرٌ من الأثداءِ والجرارْ
يغسلُ وجهَ الموتْ
والكفنَ العاشقَ والأحزانْ
يغسلُ بالموتِ وعطرِ الموتْ
فاتحةَ القول: رنينَ الصوتْ
في لغة الإنسانْ.
ألزمنُ استيقظَ والنهارْ
يصرخ بالأغصان والجذورْ
يصرخُ: جاءَ الشِعرْ
جاءت سماواتٌ ترابيّهْ
من غير هذا الدهرْ
خضراء إنسيّهْ:
ألأفْقُ زنّارٌ من البخور
والأرضُ جنّيّهْ.
***
4- فصل الأشجار
(مرثيات الصقر وشواهد قبره)
شجرة
زرع الجائعونْ
غابةً للرجاءْ
صار فيها البكاءْ
شجراً، والغصونْ
وطناً للنساء الحُبالى
وطناً للحصادْ؛
كلُّ غصنٍ جَنينْ
راقدٌ في سرير الفضاءْ
أخضراً ساحرَ الأنينْ
فرَّ من غابةِ الرمادْ
من بروجِ الفجيعهْ
حاملاً آهةَ الجائعينْ
شاكياً للطبيعهْ.
شجرة
كلّ يوم،
يموت وراء المقاصير طفلٌ، يموتُ
زارعاً وجههُ في الزوايا
شبحاً تتراكضُ قُدّامهُ البيوتُ؛
كلّ يومٍ،
يجيءُ من القبر طيفٌ حزينْ
عائداً من بلاد المرارة من آخر الأقاصي
ويزورُ المدينةَ – ساحاتِها والتكايا
ذائباً كالرصاصِ.
كلّ يومٍ،
تجيءُ من الفقر جنّية الجائعينْ
وعلى وجهها علامَه -
زهرةٌ أو حمامَهْ.
شجرة
يجهل أن يزيّنَ السيوف بالأشلاءْ
يجهل كيف تُبرقُ الأنيابْ.
يأتون في نهرٍ من الرؤوس والدماءْ
ويصعدون الحائطَ القصيرْ
وَهْوَ وراءَ البابْ
(يحلمُ أن يظلَّ كالأطفال خلف البابْ)
يقرأ فصلَ الجائع الأخيرْ.
شجرة
سقطتْ نجمتانْ
فوق رأسِ الغريبِ المسافرِ، مرّت سحابَهْ
فهوى، يأخذ التحيّهْ
نخلةً تتقصّفُ والدمعُ ينقشُ أوراقَها الذهبيّهْ:
نخلةٌ علّمتها الكآبَهْ
أنها تُرجمانْ
أنها دفترٌ عربيُّ الكتابَهْ
علّمتهُ الكآبَهْ
في سياج الحدود الخفيّهْ
أنهُ أولُ المكانْ
والرياحُ البقيّهْ.
شجرة
قلتُ لكَ: استيقظْ، رأيتُ الماءْ
طفلاً يسوقُ الريحَ والحِجارْ
وقلتُ: تحت الماء والثمارْ
تحت غشاء القمحْ
وسوسةٌ تحلمُ أن تكونْ
أنشودةً للجرحْ
في ملكوتِ الجوع والبكاءْ...
لم أحملِ الرمحَ ولم أُجَوِّف
رأساً،
وفي الصيفِ، وفي الشتاءْ
أرحلُ كالعصفورْ
في نَهَرِ الجوع... إلى مصبّهِ المسحورْ؛
مملكتي تلبسُ وجهَ الماءْ:
أملكُ في الغيابْ
أملك في الدهشة والعذابْ
في الصحو أو في النوءْ
لا فرقَ إن دَنَوتُ أو نأيتْ -
مملكتي في الضوءْ
والأرضُ بابُ البيتْ.
شجرة
كان ينادي، يجمعُ الهواءْ
يحملُ من كلّ فضاءٍ عِرْقْ
ينسج للغرب رداءَ الشرقْ؛
(ينزلُ عيسى حانياً عليه
أخضرَ كالجُمانْ
ينزلُ في المنارةِ البيضاءْ
في الجانبِ الأيمنِ من دمشق
ويقتلُ الشيطانْ
في الجانبِ الأيمنِ من دمشق).
وكان، والسوادُ في طريقهِ يُضيءُ،
يُغيّرُ الأسماءْ
يعشقُ مَن ماتَ ومن يجيءْ
ويهجرُ الأحياءْ.
شجرة
خَفَّ، لاقانيَ الصباحُ
حملتني الرياحُ
بعد أن راح قبري وودّعتهُ ورجعتُ.
كلٌّ شيءٍ يعودْ:
في الزهور قُضاةٌ وفي الماء يجتمعُ الوافدونْ
(كان بين الشهودْ
شجرٌ يتناسلُ فيه الأجنّة والميّتونْ
كان بين الحضور الفجيعهْ).
وسمعتُ الغصونْ
وهي تتلو قوانينَها، فخشعتُ
ولبستُ الطبيعهْ.
شجرة
عند جيرونَ بابٌ من الوردِ يغتسلُ العابرونْ
بشذاهُ
عندها خيمةٌ للجراحِ
عندها غابةٌ للصباحِ
كلُّ أغصانها جسورٌ تقتفيها العيونْ
نحو عبّارة الرياح
لصباحٍ سواهُ...
والليالي بيوتٌ من الحلم يرتادُها المتعبونْ
يجرحون مزاميرهم، يقرأونْ
كُتُبَ الماء والغبارْ
يجعلونَ الدموعَ الأمينَهْ
خَرَزاً وأكاليلَ غارْ
وعقوداً، وجرحاً من الوَرد يغتسلُ العابرونْ
في ينابيعهِ الحزينه.
شجرة
غُطِّيَ بالريحانْ.
بالجزَعِ الشفّاف، بالسريره
بالصمتِ،
والتمزّقِ المضيءْ؛
وقيلَ: بعدَ القبر، شقَّ القبرَ، ألقى موتَهُ وطارْ
يبحثُ عن أمومةٍ
في وطن الإنسانْ؛
وقيلَ: كانت زوجةٌ فقيرهْ
هنا وراء التلة الصغيره
حُبلى،
وبين الليل والنهارْ
في الصمتِ،
في التمزّقِ المضيءْ،
تنتظرُ الطفلَ الذي يجيءْ.
***
***
(أيلول 1963 - أيلول 1964)
الآراء (0)
نحن نمقت الإعلانات، ولا نريد إدراجها في موقعنا، ولكن إدارة هذا الموقع تتطلب وقتاً وجهداً، ولا شيء أفضل لإحياء الجهد من القهوة. إن كنت تحب استخدام هذا الموقع، فما رأيك أن تشتري لنا كاسة قهوة على حسابك من هنا :)