نيجينسكي - جيورجيوس سيفريس | اﻟﻘﺼﻴﺪﺓ.ﻛﻮﻡ

شاعر يوناني حاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1963 (1900-1971)


679 | 0 |




تراءى آنَ كنتُ أحدّقُ في الفحمِ المشتعلِ في موقدي. أمسكَ في يدهِ علبةً كبيرةً من ثقابٍ أحمرَ. أراني إيّاها كما يسحبُ المشعوذونَ بيضةً من أنفِ شخصٍ في الكرسي المجاورِ. قدحَ عودًا، أشعلَ النارَ في العلبةِ، غابَ خلفَ نارٍ كبيرةٍ، ثم تراءى ثانيةً أمامي.

أذكرُ ابتسامتهُ الأرجوانيّةَ وعينيهِ الكامدتينِ. ظلَّ أرغنٌ صغيرٌ في الشارعِ يعزفُ النغمةَ ذاتها.

لا أعرفُ كيفَ أصفُ ثيابهُ. خلّاني أتذكّرُ سروةً أرجوانيّةً على الدوامِ. ثمّ راحت ذراعاهُ تنفصلانِ عن جسدهِ الممدودِ، شيئًا فشيئًا، كأنّها الصليبُ.

من أينَ جاءتِ الطيورُ الكثيرةُ؟ تستطيعُ القولَ إنّه قد خبّأها تحتَ جناحيهِ. طارتْ خرقاءَ كأنها ضائعةٌ، عنيفةً، خبطت جدرانَ الغرفةِ الضيّقةِ وألواحَ النوافذِ ثم هوتْ على الأرضِ كأنها مطعونةٌ. شعرتُ قربَ قدميَّ بكومةٍ دافئةٍ من ريشٍ ناعمٍ ونبضٍ متعاظمٍ، نظرتُ إليهِ على الرغمِ من أنّ دفئًا غريبًا قد باغتَ جسدي كأنَّ تيّارًا قد سرى فيهِ.

وحينَ فرغَ من رفعِ ذراعيهِ، حينَ اجتمعتْ كفّاهُ، فَزَّ فجأةً،كأنَّ زنبركَ ساعةٍ قد نطَّ أمامي. خبطَ السقفَ مدوّيًا مع صوتِ أحدِ الصّنوجِ، مدَّ ذراعهُ اليمنى، قبضَ على سلكِ المصباحِ، تحرّكَ قليلًا، ثم استراحَ وراحَ يُشبه بجسدهِ شكلَ ثمانيةٍ على العتمةِ. دوّخني هذا المشهدُ فغطّيتُ وجهي بكلتا يديّ.

أبقيتُ العتمةَ في جفنيَّ وأنا أسمعُ الأرغنَ الصغيرَ يعزفُ النغمةَ ذاتها ثمّ كفَّ فجأةً. وعلى حينِ غرّةٍ ضربتني ريحٌ صَرصرٌ، فشعرتُ بخَدرٍ يسري في قدميّ، وسمعتُ كذلكَ صوتَ مزمارٍ، خافتًا وناعمًا، ثمّ لعقًا متماثلًا وقويًّا. فتحتُ عينيَّ، فرأيتهُ ثانيةً يدعسُ بأطرافِ أصابعِ قدميهِ مساحةً بلوريّةً في منتصفِ الغرفةِ وفي فمهِ مزمارٌ أخضرُ غريبٌ كانت أصابعهُ تجري عليهِ كما لو كانت سبعةَ آلافٍ.

ثم استعادتِ الطيورُ حياتَها الآنَ على نحوٍ عنيفٍ، طارت عاليًا، ثمّ اختلطت، فشكّلتْ صفًّا متراصًّا تستطيعُ ضمّهُ، ثمّ خرجتْ في الليلِ، عبر النافذةِ التي لا أعرفُ كيفَ حدثَ أن كانت مفتوحةً. وحينَ انتهتِ الرفرفةُ الأخيرةُ، إلّا رائحةَ القَنصِ الخانقةَ، قرّرتُ أن أحدّقَ في وجههِ.

لم يكُن ثمّةَ وجهٌ فوقَ الجسدِ الأرجوانيِّ، تستطيع القولَ إنّهُ بلا رأسٍ، قناعٌ ذهبيٌّ منحوتٌ، كتلكَ الموجودةِ في القبورِ المايسينيّةِ، بلحيةٍ مشذّبةٍ تصلُ إلى صدرهِ.

حاولتُ النهوضَ. حتى أنّني لم أقُم بالحركةِ الأولى، حينَ صوتٌ جائحٌ، كحشدِ طبولٍ دوّت أصواتُها في جنازةٍ، سمّرني في مكاني. لقد كانَ قناعًا. ثم تراءى وجهُه ثانيةً، مثلما رأيتُه أوّلَ مرّةٍ، العينانِ، الابتسامةُ وشيءٌ شاهدتهُ لأولِ مرّةٍ، الجلدُ الأبيضُ الذي يتدلّى من ضفيرتينِ سوداوينِ يحرسهُ عندَ الأذنينِ.

حاول أن يقفزَ، لكنّهُ افتقرَ إلى خفّتهِ الأصليّةِ. وأظنُّ أيضًا بأنّهُ قد تعثّرَ بكتابٍ سقطَ هناكَ مصادفةً فجثا على ركبةٍ. أستطيعُ الآنَ أن أتقرّاهُ على مهَلٍ، رأيتُ مسامَّ جسدهِ ترشحُ حبّاتِ عرقٍ صافيةً. شيءٌ كاللّهاثِ ألمَّ بِي. حاولتُ تفسيرَ لِمَ بدتْ عيناهُ غريبةً جدًّا عنّي. أغمضهما. حاولَ النهوضَ، لا بُدّ أن ذلكَ كانَ في غايةِ الصعوبةِ لأنّهُ جاهدَ كي يستجمعَ قواهُ، بلا فائدةٍ.

وإنّما جثا على ركبتيهِ معًا. رأيتُ جلدهُ الأبيضَ شاحبًا على نحوٍ مفزعٍ، كعاجٍ أصفرَ، شاحبًا كانَ الشعرُ الأسودُ.

وعلى الرغمِ من أنّني كنتُ أمامَ تبريحٍ، فقدِ انتابني شعورٌ بأنّني كنتُ أفضلَ، بأنّني قد فزتُ بشيءٍ ما.

حتّى أنّني لم أزفر أنفاسي عميقا حينَ رأيتُه مستلقيًا على الأرضِ غارقًا في الهيكلِ الأخضرِ المُوشّى في سجّادتي.





(ﺟﻤﻴﻊ ﺗﺮﺟﻤﺎﺕ تحسين الخطيب)
اﻟﺘﻌﻠﻴﻘﺎﺕ (0)   






دعمك البسيط يساعدنا على:

- إبقاء الموقع حيّاً
- إبقاء الموقع نظيفاً بلا إعلانات

يمكنك دعمنا بشراء كاسة قهوة لنا من هنا: