كتبت عام: 2022
252
جناية أدونيس على الشعر
لقد ترددت قليلا في اعتماد هذا العنوان كعتبة دلالية لموضوعه، تلافيا لما قد يترتب عنه من ظلال داكنة، من شأنها الذهاب بالقراءة إلى مسارات بعيدة عن قصدنا. فالشاعر أدونيس استطاع بامتياز، وعلى امتداد عدة عقود خلت، أن يحتل مركز الصدارة في المشهد الثقافي العربي، ليس فقط بوصفه شاعرا إشكاليا ومثيرا للجدل، بل أيضا بوصفه أحد أهم الأصوات النقدية، الناطقة بضمير الحداثة العربية. حيث المراد بالنقد هنا، مجموع ما راكمه الشاعر من خطابات جمالية فكرية وسياسية، مؤطرة بأسئلة التجاوز الشامل والجذري لكل ما دأب على اعتباره عوائق ثقافية وحضارية، تحول دون انطلاقة الذات العربية الإسلامية نحو انتظاراتها المستقبلية. وهو تراكم ذو امتياز استثنائي، أصبح الشاعر بموجبه سيد المشهد دونما أي منازع يذكر، لعل من أبرز تجلياته، مجموع هذه الجيوش الجرارة، المتناسلة عبر أمكنة وأزمنة لا تغيب الشمس عن ساحات سجالاتها، والمتوزعة على معسكرين، يستميت أحدهما للفوز بحظوة الوقوف تحت ظل الشاعر، فيما لا يتورع الآخر عن توظيف أشد الأسلحة فتكا وعدوانية، من أجل تبديد هالته المرافقة له أينما حل و ارتحل.
وذاك هو واقع المشهد الثقافي، حيث تتفاعل النخب من محيطه إلى خليجه، ولأزمنة طويلة، مع الأيقونة الأدونيسية، باعتبارها الإطار الطبيعي لتلاقح وتجاذب مختلف التوجهات، المتمحورة حول إشكالية الهوية، باعتبارها المجال الأكثر جاذبية للحراك الفكري والإبداعي.
ولأن الأمر يتعلق باشتغال حداثة أدونيسية موغلة في جموحها، فسيكون من الطبيعي أن تستمتع، وإلى أقصى حدود الانتشاء باللعب الفكري والجمالي على كل الحبال الممكنة والمحتملة، المتجانسة والمتنافرة، بصرف النظر عما يتربص بها مخاطر الانزلاقات، خاصة بالنسبة للكتابة الشعرية، التي لا تعتبر نفسها معنية مطلقا بضبط المسافة الفاصلة بين المتناقضات الأضداد، بقدر ما هي معنية بدمجهما معا في بوتقة مشتركة، بحثا عن ذلك المحتجب الواعد بإطلالته الدلالية، والذي يمكن أن يقود الرؤية إلى سدرة منتهاها.
ولعل أهم حيز يراهن عليه الشطط الأدونيسي في "منتهى" هذه "السدرة" المتوجة ببروق إدهاشه، هو ذلك الذي تتداخل فيه مزامير الاحتفاء، بصرخات الإدانة والتأليب، حيث يكون للشعر أن يمارس شغف اختطافه للهارب والمنفلت، من قاب سديم الخلط، إلى آخر ثمالة في قارورة القول .
لكن قبل ذلك، ينبغي التساؤل عن معنى علاقة عنوان المقالة، بهذه الاستطرادات التي قد تبدو مقحمة من وجهة نظر المعسكرين المتنابذين، ومفتقرة إلى تبريرها الموضوعي؟ حيث لن يكون الجواب الأكثر انسجاما مع السياق الذي نحن بصدده، منحازا بطبيعة الحال إلى هذا المعسكر أو ذاك، كما أنه فضلا عن ذلك، لن يتورط في تقييم المنجز الأدونيسي، الذي أنهكته الهبات من فرط ما جادت عليه به من عطايا، فلم يعد يحتمل أية إضافة جديدة مهما كانت يسيرة ومبتسرة. فالرجل حظي بما لا حصر له من الأطاريح في كافة الجامعات العربية، فضلا عن تتويجه بكم هائل من الجوائز، والأوسمة، والدروع، عن مؤسسات دولية وازنة من حيث تخصصها ومصداقيتها، في انتظار فوزه ب "مسك الختام" .......،إلى جانب ترجمة أعماله لأهم اللغات الحية والميتة. وهي المكتسبات ذاتها التي ستظل حتما موضوع طعن وتشكيك دائمين من الجهات المناوئة، والرافضة بشكل عام، لكل ما يمت إلى رياح التحديث والتغيير بصلة. وكلها عوامل تنأى بنا عن عبثية الخوض في التمجيد أو التبخيس، ما دامت الجرار الأدونيسية مهددة بالانكسار من فرط امتلائها بفائض الولاءات وأضدادها. وبالتالي، فإن العلاقة الوحيدة المتبقية بين العنوان وبين ما سقناه من بديهيات، هي التأكيد على تحول الرمز الأدونيسي تلقائيا إلى ثقب شعري أسود، والإمعان في تكريسه لهيمنة حضوره، من خلال ابتلاعه لكل ما يدور في فلكه، أو يصادفه داخل مداراته وخارجها من متلاشيات المجرات الشعرية أو النقدية .
وهي وضعية جد مأساوية، لا يد للثقب الأسود الأدونيسي فيها، باعتبار أن هذه المخلوقات المتناسلة - والتي لا تني تقذف بها أرحام الأزمنة والأمكنة الهجينة في وجوهنا - مصابة أصلا بيتم تاريخي مزمن، يتغلغل في دمها وفي ذهنيتها، كما في ذائقتها التعبيرية. إنها تبعا لذلك، تشكو من عاهة حاجتها الدائمة للرعاية الأبوية، بما هي رعاية "إمارة"، و"زعامة"، و"قيادة"، يستوي فيها كل من البعد الروحي والسياسي والإبداعي. فحيث يكون ثمة أمل في وجودها، تكون حتما ثمة حاجة قدرية للانضواء الإرادي تحت لواء وصاية ما. فهذه المخلوقات اللاشعرية الموسومة على سبيل المجاز ، بحطام المجرات وبقاياها، تبدو جد مقتنعة بجدوى تطوافها اللاهث حول الثقب الشعري، مستسلمة لغواية جاذبيته، علها تحظى بابتلاعه لها. أي أن تصبح بفعل ذوبانها فيه مضغة سائغة داخل جوف العدم. وهي مصابة بسعار اختلاقها لتماسات مستحيلة بين الأصل الحي و بين موات فروعها.
وهنا تحديدا، تكتمل شروط الطقس الأسطوري الملازم لسلطة الإله الكنعاني أدونيس، حيث تتراكم القرابين دون هوادة، على عتبة المذبح المقدس، بانتظار إراقة ما في جعبتها من لغط، تلح هي على توصيفه بالشعر.
في ظل هذا الواقع المأزوم، لن يكون ثمة حديث عن مستقبل الحداثة الشعرية في عالمنا العربي، إلا ضمن أفقها الأدونيسي، كما لو أن الأمر يعود إلى اتفاق مسبق، يتطوع الشعراء بموجبه زرافات ووحدانا، لمغادرة جمهوريتهم الشعرية، تبجيلا لسطوة "الإمارة"، ونكاية في القوانين المتقادمة للحكيم أفلاطون. وتلك لعمري هي خلاصة التأويل المسف لدلالة الحداثة، ولما يتفرع عنها من لغو هذه المخلوقات، كي تظل في نهاية المطاف، مجرد ظل للثوابت المتعالية المتجذرة في الدواخل، والتي تنعدم معها أية إمكانية موضوعية، للتفاعل داخل مشهد مؤثث بتعدديته واختلافه، ما دامت أيقونة الواحد الأحد، هي البؤرة السحرية، التي يشع منها ضوء الكتابة، ووحدها الجديرة بالرؤية، وبالتأمل والإجلال. أما خارجها، فليس ثمة سوى الظلال المتخبطة في أوهامها!!. و هي في جميع الأحوال، أوهام تراوح بين استحالتين، تتجسد أولاهما في تماهيها الكاريكاتوري مع ظل الأيقونة، بينما تتمثل الثانية في مغالطة القول بإجهازها على سلطة الأب. طبعا ليس من منطلق التفرد بهويتها الخاصة، بل فقط في أفق انتحالها العشوائي، لما يراكمه الرمز/الأب من ودائع، ما يعمق لدى الملاحظ إحساسا راعفا باليأس والغثيان.
ولعل أقسى التداعيات الممكن تسجيلها في هذا السياق، ذلك الغياب التام والمهول للإواليات الكفيلة ببلورة خطاب منفصل عن "سلطة الإمارة" حول مشهد الكتابة الشعرية بالعالم العربي، بفعل غياب تقاليد معرفية وحداثية - بالمفهوم الحقيقي للكلمة - من شأنها مواجهة هذا التسيب الكبير الذي يعاني المشهد ذاته من نوائبه.
أيضا وبموازاة ذلك، ينبغي الإقرار بجرح تلك الغربة المضاعفة التي حتما يعاني الشاعر أدونيس من قساوتها، جراء إحساسه المتفاقم بمعضلة تفريغ المشهد من شعرائه المحتملين، الذين يحول دون استئناسه نظريا وجماليا بحضورهم المغاير، على ضوء تباين الحدود التعبيرية والفنية الفاصلة بين مساراته ومساراتهم. وهو الإحساس ذاته الذي يفترض فيه أن يقود الشاعر، إلى طرح أسئلة فجائعية ومحبطة، حول جدوى منجزه الذي كرس له ما ينيف على سبعة عقود، من حياة عاشها ويعيشها مبجلا تارة بأكاليل الورود، وأخرى عانى منها مطاردا ب "حجارة من سجيل".
والغريب في الأمر، أن المثقف العربي الذي أمسى مهووسا بمساءلة "المابعديات" سواء منها المتعلقة بالحداثة، بالطوفان، أو الجحيم، لم تساوره أبدا فكرة التساؤل المعرفي والتاريخي عن إشكالية "ماذا بعد أدونيس؟"، بعد أن حوله حواريوه إلى سقف أخير يتعذر تجاوزه. وطرح هذا السؤال المؤرق قد يكون له نصيب في حماية الشاعر من عدوى هذا الاكتظاظ المجاني، الذي تساهم في تنشيطه ما لا تحصى ولا تعد من المنابر .علما بأنه مشرب / ملوث بنكهة انتهازية لا تغيب حقيقتها عن المواكبة اليقظة.
ومع ذلك، فإنه السؤال الذي سيظل في نظرنا محتفظا بملحاحيته، والمؤثر طبعا ضمن شروطه الموضوعية، في رفع الحجب عن حدائق شعرية لم تكن من قبل مرئية، أو ربما، في تعميق حالة الاقتناع بحتمية التواجد الدائم تحت حطام خرائب، لا بداية ولا نهاية لها.
التبليغ عن خطأ
هل أنت متأكد أنك تريد حذف هذه المقالة
بحالة حذفها فإنك ستخسر جميع الإحصائيات المتعلقة بها.
أضف شاعراً مذكوراً بالمقالة
أضف قصيدة مشار إليها بالمقالة