الموقف من الحب في الشعر العربي المعاصر - إحسان عباس | القصيدة.كوم

كتبت عام: 1978


159



الموقف من الحب في الشعر العربي المعاصر



أنا شاعرُ حُبٍّ جَوَّالٌ
تعرفُهُ كلُّ الشُرُفاتِ

(نزار)

عشرون عاماً .. يا كتابَ الهوى
ولم أزلْ في الصفحة الأولى

(نزار)

نحن نعيش في عصر فرويد: جملة قد تحمل معاني عديدة وقد تكون فارغة من المعنى، ولكنها تشير إلى انهيار الحواجز بين الحب والجنس، وتدفع إلى النظر المستأنف، في ما تحمله الألفاظ من المعاني في الظاهر، وعلى أساسها يمكن أن نلحظ ضياع مصطلحي "نسيب" و"غزل" أو نفسرهما تفسيرا جديدا، ذلك لأن الشعر الذي يعبر عن الحب، لم يعد ينقل عاطفة مفردة بسيطة، وانما ينقل غابة متشابكة الغصون من العواطف والمشاعر، وحين عبر المتنبي عن العلاقة بين الحب والموت - متجاوزا رؤيا نقاد عصره ومن بعدهم - في قوله:
مَتِّعينا بُحسنِ وجهكِ ما دام َ
فحُسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ
وصِلينا نَصِلْكِ في هذه الدنيا
فإن المقامَ فيها قليلُ

كان بذلك يفتح الباب الذي سيدخل منه الشاعر الحديث إلى تلك الغابة الكثيفة، ولهذا فإننا إذا استثنينا نزار قباني، وجانبا من شعر صلاح عبد الصبور، لم نجد الحب يتخذ شكل موضوع شعري مستقل، وإنما هو ذائب في التيار الشعري جملة.

وقد أكثر نزار الحديث عن الحب - معتبرا إياه عالما ذا أبعاد متميزة تكفل له الوجود المستقل - في شعره - حتى سماه بعضهم "شاعر الحب" وسماه آخرون "شاعر المرأة"، أو غير ذلك من تسميات، وكان بعضهم يرى أنه يرسم بهذه التسميات المعلم الذي يميز الاتجاه الشعري عند نزار، كما كان البعض الآخر يرى أن نزارا شغل بقصة الحب حتى ألهته عن القضايا الكبرى في العالم العربي. وكلا الأمرين لا يعنيان شيئا لهذا الفصل، الذي يمثل نظرة مستأنفة في شعر الحب عند نزار.

هل كان نزار شاعر حب؟ لا أظن أن من الخير الإسراع في الإجابة على هذا السؤال بإيجاب أو بالسلب، وعلينا أن ننظر ونطيل لحظات الانتظار، حتى نقع على نقطة "الكشف النفسي" التي ظل نزار يراوغ ويماطل في مواجهتها، ويتهرب من التحديق فيها، أعواما، ونقطة الكشف هذه تلتمع في قصيدته "الرسم بالكلمات" وهي في ديوان بهذا الاسم نفسه، وفيها يقول:

لم يبقَ نهدٌ .. أسودٌ أو أبيضٌ
إلا زرعتُ بأرضه راياتي ..

لم تبقَ زاويةٌ بجسمِ جميلة
إلاَّ ومرَّت فوقها عرباتي ..

فصَّلت من جلد النساء عباءةً
وبنيتُ أهراماً من الحلماتِ
.....
مأساةُ هارون الرشيد مريرةٌ
لو تدركينَ مرارة المأساةِ
.....
الجنسُ كانَ مُسكناً جرَّبتُهُ
لم يُنهِ أحزاني ولا أزماتي

والحبُّ .. أصبَحَ كلّهُ متشابهاً
كتشابُهِ الأوراقِ في الغاباتِ ..

أنا عاجزٌ عن عشق أيّة نملةً
أو غيمةٍ .. عن عشقِ أيّ حصاةِ

مارستُ ألفَ عبادةٍ وعبادةٍ
فوجدتُ أفضلَها عبادةَ ذاتي
.....
كلُّ الدوربِ أمامنا مسدودةٌ
وخلاصُنا .. في الرسم بالكلماتِ ..

وأحب أن أسارع إلى نفي ما قد يثور في فهم القارئ من إيراد هذه الأبيات ظانا أنني أتخذها اعترافا ذاتيا يومئ إلى حال من العجز، أو أعدها مؤشرا على مرحلة من مراحل العمر، فما لهذه الغاية أوردتها، وإنما أنا أرى فيها لحظة كشف، لحظة إضاءة، كان نزار يومئ إليها إيماء سريعا من قبل، وكنا نمر بتلك الإيماءات عابرين، ترى ماذا عنى بقوله - في دور مبكر - مخاطبا إحداهن: "فإذا كُنتِ واقِعاً لا أكونُ!" (ديوان طفولة نهد) ، وبقوله: "فحياتي كُلُّها ..شَوْقٌ إلى حرفٍ جديدِ" (ديوان قصائد) ، وبقوله: "أبحثُ في جوف الصَدَفاتِ .. عن حرفٍ كالقمر الأخضرْ" (ديوان حبيبتي)؟ أليس هذا دليلا على أن مشكلة الصراع بين المرأة وبين الرسم بالكلمات (أي الشعر) ليست جديدة، لأنها حين تصبح هي - أي المرأة - واقعا في حياته يمحي وجوده (أي وجود الشعر)، أيهما يختار؟ لقد كان واعيا بأنه أختار ما يريد منذ البداية، وأنه أتخذ الجنس مسكنا، وأصبح الحب كله متشابها. وعلى ضوء هذا الصراع الطويل بين الحرف والجنس نستطيع أن نتصور مقته للمرأة "المدمرة"، التي لا تستطيع أن توحي له بالشعر لأن غايتها هي أن تمتص نسغ الشعر في أعراقه؛ على ضوء هذا الفهم يستطيع القارئ أن يقرأ قصائده "مصلوبة النهدين" و"طائشة الضفائر" و"همجية الشفتين" وغيرها مما يجري هذا المجرى ليكشف أن خوف الشاعر من ضياع الحيوية الشعرية - لا من ضياع العفة والفضيلة - هو الذي يحدد للحب (ومن ثم الجنس) أبعاده وقيمه، فنزار إذن لم يتحدث عن الحب، بمعناه العاطفي الذي يظنه الكثيرون، إنما تحدث عنه بمعنى جديد حين جعله طرفا في قوتي صراع كبيرتين.

ويطيب لنزار أحيانا أن يقول للمرأة - في لحظة غضب - أنه خلقها، ولكن نزارا هنا إنما يردد معنى رومنطقيا مألوفا، ذلك لأنه لم يخلق امرأة أبدا، إذ أنه لا يستطيع ذلك إلا حين تكون المرأة (بكامل شخصيتها ومكوناتها الجمالية والثقافية) صورة قصيدة، وهي لم تكن كذلك، وإنما هي واحدة من كل متشابه وحسب، "كلنا في مجامر النار نسوة". غير أن أبسط شيء لديها قد يكون صورة قصيدة، ينتقل على يدي الشاعر ليصبح قصيدة جميلة. ومن درس شعر نزار دراسة متدرجة، وجد أن استغرابه الشعري بدأ أولا بتناول أشياء المرأة، والألوان التي تربط بينها وبين الطبيعة (مع تركيز خاص على النهد منذ البداية واستمر ذلك في شعره حتى النهاية) ثم أخذ التنبه يحرك نظراته نحو حالات المرأة وحركاتها (وهي تمشط شعرها، وهي تمر في المقهى، وهي تنزل من السيارة، وهي مضطجعة، وهي ترقص...) مع الإلحاح على مزيد من أشيائها (قلم الحمرة، المشط، الجورب، المانيكور، المايوه الأزرق، ثوب النوم الوردي، الصليب الذهبي، الكم، التنورة...) مما يصح معه أن نقول أنه كان "يبعثر" المرأة ولا يلمها في خلق سوي، كان يجزئ، ويركز نظره على المفردات، لأن كل عنصر مفرد منها، كان يحميه من المرأة مكتملة، إذ كان يجد فيه صورة قصيدة ثم يحوله - دون ريب - إلى قصيدة جميلة، كان يرى الجمال الطبيعي والمصنوع، ويفتنه، فيدخل في كونه (الفم، الشفة، الاسم، الغرفة، الظفر المصبوغ، كم الدانتيل) دخول الطفل الذي تفتنه الفراشة، ويعود جذلان لأنه استطاع أن يقبض "شعريا" على تلك الفراشة، وأقول "شعريا" لا لنفي المتعة الجسدية، بل لاؤكد جانب التعبير، والتصوير، فإن الدخول إلى هذه الجزئيات، لم يكن مما يعني الشاعر كثيرا قبل نزار، كما أن ابتكار الصور الملائمة لهذه المجالات الصغيرة، والجرأة في اللغة والصورة معا، هما أقوى ما يميز هذا المنزع الشعري الجمالي (ثوبا كزوبعة الفل، المساء شلال فيروز ثري، مئزر خضل ثر المواسم، يا كمها الثرثار يا مشتل، وكر الخيط في شهقة نادمة... الخ).

ثم انتقل الشاعر من المرحلتين السابقتين إلى مرحلة ثالثة هي الحديث عن مشكلات المرأة، فانتقل بذلك من أن يكون جماليا إلى أن يكون سيكولوجيا، ماذا تقول امرأة اكتشفت أن صاحبها يعاشر أخرى حين جاءت لزيارته (رسالة من امرأة حاقدة)، ماذا تقول حين تحمل، والرجل المسؤول عن ذلك يدير ظهره لها (حبلى)، كيف تعبر عن جوعها الجنسي لأن الرجل النائم بجانبها ممددا كالثور لم يبلغ بها قمة الاكتفاء (أوعية الصديد...)، ثم كيف تتحول عن ممارسة الجنس مع الرجل إلى ممارسته مع أنثى مثلها (القصيدة الشريرة) ... الخ، ثم تتحول المشكلات نفسها لتصبح تعبيرا عن أوضاع متبادلة بين المرأة والرجل، اتهامات متبادلة، ثم اكتشاف النهاية في برود العاطفتين، وفي فصم تلك العلاقة بالإقرار بالكذب والنفاق، وفي هذه المرحلة ينتقل الصراع إلى مستوى جديد، (عصري في أكثر سماته) فيصبح الحب فيه طرفا، والجنس طرفا آخر (وهو صراع في النهاية يؤدي إلى أن يصبح الحب كله متشابها). ومع أن الشاعر يصور ثورة المرأة - هنا - على تقلبات الرجل، فإنه أشد ميلا إلى تصوير مدى فتنتها بالرجل، وتعلقها به، وتذللها له، ودورانها في فلكه، وتلذذها بحركاته وأشيائه، حتى أن إحداهن لتقول وهو يشعل لها سيجارة (1):
رجلٌ يمنحني شُعلتَهُ
ما أطيبَ رائحةَ الرجلِ

ولما كانت المرأة تفعل أي شيء من أجل إرضاء الرجل، فإن لديها - على عكس ما لدى الشاعر - قدرة على المصالحة التوفيقية بين الحب والجنس، في أغلب المواقف. بهذا المعنى - وبمعنى آخر سيجيء تبيانه من بعد - يمكن أن يسمى نزار شاعر المرأة، لأنه ينصفها، لأنه - وهو يحاول أن ينصفها - يرى فيها محض امرأة، لا فنانة شاعرة، ذلك لأنها في أقصى حالات الشاعرية تتمنى الفناء- حبا وجنسا - في الرجل.

فإذا تركنا عالم المشكلات، وفيه أصابع ثقافية فرويدية واضحة، وعدنا إلى عالم الأشياء والحركات، وجدنا الشاعر الجمالي طفلا (وإن تزيا بثوب المراهق أحيانا) يلعب بتلك الأشياء كما يلعب الطفل بالدمى، ويصور الحركات في إعجاب طفل يرى نيزكا لأول مرة. وهذا الطفل في نزار يقترب من تلك الأشياء والحركات، وهو مصمم على أن لا يحترق، وإنما يريد أن يرجع وقد قبض على لحظة شعرية "إني أحارب بالحروف وبالرؤى"، هو يرى ويسمع ويلمس، ولكن انبهار الطفل عنده لا يتجلى على أتمه إلا حين تكون المرأة بعيدة، ما أشد لهفة الطفل حين يقرأ خطابا جاءه من حبيبته، أو حين يمني نفسه بأنه سيحضر عيد ميلادها (قبل أن يحضره)، إننا هنا لا نحس لهفة الرجل، بمقدار ما نحس لهفة الطفل، وقد ظل نزار يموه بالمزج بين اللهفتين، إلى أن صرح عن الحقيقة الخفية، ووضعنا في لحظات كشف أخرى في ديوانه "الرسم بالكلمات" فحدثنا أن الرجال كلهم أطفال:
لم تستطيعي - بعدُ - أن تتفهّمي
أنَّ الرجالَ جميعهم .. أطفالُ

وبهذه الصورة نفسها تراه المرأة التي تتحمل كل شيء من غضبه:
فأنتَ كالأطفالِ يا حبيبي
نحبُّهمْ .. مهما لنا أساؤوا ..

وفي لحظة كشف - تكاد تكون أسطورية - كتب نزار في هذه المرحلة خمس رسائل إلى أمه، (لماذا في هذه المرحلة دون ما قبلها من مراحل؟...) وفي إحداهما يحدثنا عمن عرف من النساء وعن العواطف وعن البلاد التي جابها:
ولم أعثرْ ..
على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقرْ
وتحملُ في حقيبتها إليَّ عرائسَ السُكّرْ
وتكسوني إذا أعرى
وتنشلني إذا أعثَرْ

هذه الطفولة الخبيئة - في معالم تلك الرجولة - تتكشف الآن، لتدلنا على سر المشكلة، أنها لحظة اضاءة، جعلت الأشياء والحركات - في عالم المرأة - تبدو وكأنها ليست سوى دمى، ومرة ثالثة يجيء الصراع بين الحب وعقدة أوديب (2)، وهو صراع قد حدد طبيعة الحب، أيضا، إذ رده رومنطقيا خالصا: الحب ليس رواية شرقية،
لكنّهُ الإبحارُ دونَ سفينةٍ
وشعورنا أنّ الوصولَ محالُ

ومن قبل بكثير قال أحد رسل الرومنطقية، يوسف غصوب، "لذاتنا في الشوق لا في الوصال" ولكن نزارا تجاوزه بكثير، حين افترض - منذ البداية - أن حقيقة الحب في أن يكون الوصال محالا.

هذه المرأة - الأم - ينبوع جمال وحب، ولكنها هي التي وضعت الشاعر في وضع التمزق النفسي، (وهو تمزق لا يظهر كثيرا على السطح لأن الغرق في اللحظات الجمالية الكثيرة يحجبه) فهو في مشاعره ينتمي إلى القديم، كل النساء لديه "سبايا"، وليس هو سوى شيخ بدوي يفصل لنفسه "عباءة" من جلودهن، وهو في ثقافته وفكره يريد للمرأة أن تتحرر، رغم أنه يراها بسبب وضعه الأول مقيدة بأغلال الحب والجنس، وقد رآها متحررة، وأعجب بتحررها، رأى "جانين" الفرنسية الوجودية:
تُريدُ أنْ تختارَ ما تَرَاهْ
تُريدُ أنْ تُمزِّقَ الحَيَاهْ ..

ربما لم تكن جانين جميلة، ولكنها كانت تعرف ما تريد (أو هكذا خيل للشاعر)، وكان في انطلاقها معنى جديد، تأمله الشاعر فإذا هو يحسدها عليه لأنه لا يملك هو نفسه أن يكون كذلك، مع كل توهمه أنه - وهو الرجل الشرقي - لا يعرف للانطلاق حدودا، صحيح أنه إذا قيس إلى المرأة الشرقية بدا وكأنه يتمتع بحرية مطلقة، ولكن هذا الشعور يتضاءل لديه إزاء جانين، وكانت قصيدة "وجودية" هي المدخل إلى "يوميّات امرأة لا مبالية"، وهذه اللامبالية ليست تلك الوجودية الفرنسية، ولكنها شرقية، وكل ما فيها من لامبالاة أنها أرسلت خواطرها حرة في مذكراتها (وأحيانا يتكلم نزار بالنيابة عنها ناسيا أنها موجودة) وعبرت عن توقها الممض إلى حرية الحب وحرية الجنس، وهي رغم ما تلجأ إليه من محاكمات عقلية وتاريخية تدخل أحيانا منطقة الهستريا، والمذكرات عادية تطرح مشكلة واحدة، وتقترح لها حلا واحدا، وأبرز ما فيها أنها تصور خوف المرأة من الزمن، خوفها من أن تصل إلى مرحلة يكف فيها الجسد عن الاعتزاز بثماره، وهي أحيانا توسع من الأفق الشعري للقصائد بطرح المفارقات القائمة خارج عالم المرأة (طيور تشرين... القط... الخ) ، وهي بمجموعها الكلي ثورة على الأب، صريحة "هجائية" في طابعها:
أبي صنفٌ من البشرِ ..
مزيجٌ من غباءِ التّرك ..
من عصبيّة التّترِ ..
أبي .. أثرٌ من الآثار ..
تابوتٌ من الحجرِ ..

ولكن في نهاية المطاف تبدو الثورة على الرجل والحاجة إلى الرجل انقساما شيزوفرينيا، (فصاما) قد لا يتأتى علاجه، مثل انقسام الرجل الشرقي بين قطبي التمسك العاطفي بالقيم القديمة والثورة العقلية عليها.

ولنا أن نسأل: هل خوف المرأة من الزمن (من الشيخوخة والموت) يقابله صراع مساو لدى نزار نفسه بين الحب والموت؟ والجواب على هذا السؤال بالإيجاب إذا تذكرنا ما قلناه من قبل، وهو أن طبيعة شعر نزار كانت تكفل للطفل أن لا يكبر، وأن يظل يتلهى بلعبه، مستسلما إلى عالم الواقع، مستريحا إلى الأجزاء الجميلة في عالم المرأة، ولكن تصوره للمشكلة من بعد أصبح أشد وضوحا وصراحة، ففي ديوانه "قصائد متوحشة" (1970) يتكرر لديه التعبير عن الهزيمة، وعن محاولة قراءة المستقبل بالنظر في الفنجان:
مقدُورُكَ أن تمشي أبداً
في الحُبِّ على حدِّ الخنجرْ
وتَظلَّ وحيداً كالأصدافْ
وتظلَّ حزيناً كالصفصافْ

وسيظل نزار يتحدث عن الحب، مستغلا طواعية اللغة الشعرية التي مرن قلمه عليها، وسيظل يغير المواقف فحينا يتحدث الشاعر المحب وحينا يتحدث المرأة المحبوبة، وسيظل الحب بمعنى رؤية الجمال وضروب الصراع في الحياة والمشاعر هو الملاذ الأخير، لأنه وحده رابطة حياة.

أما صلاح عبد الصبور فإنه حين أصبح شاعرا كان قد فقد القدرة على استعادة "فرحة الطفل" بالأشياء، تلك الخاصية التي تميز شعر نزار قباني، وإذا كان يشترك مع نزار في الوقوف عند المظاهر الحسية من عالم المرأة، مقلدا نشيد الإنشاد:
وجهُ حبيبي خيمةٌ من نورْ
شعر حبيبي حَقلُ حِنطة
خدّا حبيبي فلقتا رمانْ

فما ذلك إلا لقاء عارض لا يلبث أن يضمحل.

ذلك أن الطفل القروي الرقيق الحال، ظل حين وجد نفسه في المدينة خجولا يحس بشقة كبيرة تفصله عن المرأة:
وأنا لم أبرح القريةَ مذ كنتُ صبيّا
أُلقيتْ في رجلَي الأصفادُ مذ كنت صبيّا

ومنذ طفولته كان يحلم بعسف القدر "وبالموت حين يدرك الحياة"، فلما شب طالعه الموت الواقعي بقفدان الأب، والأخ، ومصطفى ابن القرية، وقريبه محمد نبيل، وبشنق "زهران"... الخ، فغشى الحزن وجه حياته، وألقى ظله على الوجود، وخاصة إذا جن الليل، وشعر بالوحدة، هنالك يكون الحزن ضريرا، طويلا كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، ويصبح كلما مر الزمن ألوانا وأشكالا:
لقد بلوتُ الحزنَ حين يزحمُ الهواءَ كالدخانْ
ثم بلوتُ الحزنَ حين يلتوي كأفعوانْ
ثم بلوتُ الحزن حينما يفيضُ جدولاً من اللهيبْ

فإذا تحدث صلاح عن الحب، لم يكن حديثه عنه أغنية رقيقة شفافة، وإنما هو تأمل حاد، متصل بحقيقة نظرته الفلسفية الشاملة إلى الموت والحياة. وذلك الحزن الذي يملك عليه رؤيته للأشياء ليس حزنا لحادثة أو فاجعة، فهو يزول بزوالها أو نسيانها، وإنما هو أيضا نابع من أعماق تلك الفلسفة، فهو حزن لا يعرف ولا تدرك أبعاده، حزن "لا تطفئه الخمر ولا المياه؟ ولا تطرده الصلاة" هو حزن إنساني لا فردي يتصل بتصور صلاح لوضع الإنسان في هذا الكون، ومن التبسيط أن يقال أن هذا الإنسان لا يمثل أية قيمة، وأن ليس لوجوده معنى، "ما الإنسان؟ إن عاش وإن مات"، الإنسان مخلوق شريف مناضل جميل حين لا يفقد الألفة مع أخوته أو حين لا يموت في قلبه "الإنسان"، ولكنه في النهاية هو الفارس القديم (لأنه يعيش في غير عصر الفروسية)، وهو في النهاية مهزوم، كما أنه هو الملاح الذي مات قبيل الموت "حين ودع الأحباب والأصحاب والزمان المكان":
عادت إلى قمقمها حياتُهُ، وانكمشتْ أعضاؤه، ومال
ومدّ جسمَهُ على خط الزوالْ

وهو سندباد الذي سئم التطواف، والحديث عن المغامرات والأهوال. ليس هذا وحسب، بل أنه لا يمثل حقيقة واحدة تسمى الإنسان، وإنما هو في كل مرحلة غيره في المرحلة الأخرى، ولهذا تتكثر "الأنا" عند الفرد، ويغدو "الأنا" القديم مطاردا للأنا الجديد، وإذا مشى "الأنا" الجديد بثقة فيما صار إليه أصبحت "الذوات" القديمة قتلى يجرجرها معه أينما اتجه، وكلما حاول أن يقدم خطوة، بهظه الحمل، فأصبحت مواقفه النفسية وقوفا عند محاكمة تلك المراحل، فإذا كان شاعرا مثل صلاح أصبح جانب كبير من شعره، ترجمة ذاتية، واستعادة للماضي، فإذا جاء المساء قام بجولة في تاريخه:
أتّحدُ بجسمي المتفتّت في أجزاء اليوم الميت
تستيقظ أيامي المدفونة في جسمي المتفتّت
أتشابك طفلاً وصبياً وحكيماً محزوناً
يتآلف ضحكي وبكائي مثل قرار وجواب
أجدلُ حبلا من زهوي وضياعي
لأعلِّقه في سقف الليل الأزرق
أتسلقه حتى أتمدد في وجه قباب المدن الصخرية
أتعانق و الدنيا في منتصف الليل

حتى إذا طلع الصباح تجمع "فأرا" في مخزن عاديات:
كي أتأمل بعيون مرتبكه
من تحت الأرفف أقدامَ المارة في الطرقات..

إذن فهذا الإنسان غريب ضائع، وفي النهاية شيء تافه، يعيش في عالم "يموج بالتخليط والقمامة"، "كون خلا من الوسامة"، وتتقاذف هذا الإنسان موجتان: الرعب والسآمة، لتسلماه إلى الهوة الأخيرة "الموت"، حتى لتشرفان به أحيانا على الانتحار. فالموت - رغم كل ما يقال في كراهيته - يظل هو الحقيقة الكبرى، صحيح أنه هو الطارق الغريب المجهول الذي يختار الأهل والأصحاب والأطفال، والأبرياء القرويين، دون أن يقدم مسوغا لفعله، ولكنه أيضا الحقيقة التي تختصر معنى الوجود الإنساني في لفظتين - هما لفظة واحدة - "قضى"، "قضت"، وهو الخيار الوحيد الذي قد يعانقه الإنسان لو قيض له أن يختار، بل هو الخيار النهائي، لأن الإنسان حين يصبح حرا، في اختياره، سيختار - في الحياة - أخطاء أكبر، وحياة أقسى وأمر، وإذن لقتل نفسه ندما (ثمنا للحرية)، ففقدان الحرية هو الحرية نفسها، ولا يستطيع هذا الإنسان أن يمتلك ناحية الحرية المطلقة إلا بالموت.

أين يقع الحب في إطار هذه الفلسفة؟:

الفارس القديم، دون كيشوت هذا العصر، يحس أن الحب لم يعد كما كان، الحب في هذا الزمان خاضع للتحول، فإذا أحب الفارس اليوم فمن يدري - في الغد - هل يكون في العيون وجدها أو يكون فيها حقدها، وفي القديم كان الحب "يخضع للترتيب والحسبان" كانوا يقولون، نظرة فابتسامة فسلام.. الخ، أما اليوم فإن العاشق العصري قد يلتقي بمحبوبته "من قبل أن يبتسما"، وقد يذوق العاشقان ما يذوقانه قبل أن يشتهياه، فالحب لحظة شبق، تضيع قبل أن تتحدد أبعادها أو يعرف الممارسان لها أحدهما الآخر، وهذا ما حدث للشاعر ذات يوم في فيينا، ومع ذلك فإنه أحب تلك اللحظة، ووجد فيها انفراج حزنه المقيم، وحمد الله (رغم نقمته على السماء) على ما قيض له من شعور - ولو عابر - بالحياة:
تباركَ اللهُ الذي قد أبدعكْ
وأحمدُ اللهَ الذي ذات مساءْ
على جفوني وضعكْ

وواضح أن الشاعر هنا، يتحدث عن الحب، وهو يعني الجنس، ولكنه حين تحدث عن الحب بمعناه المطلق فإنه يجد فيه قوة مكانية، وإن عجزت أن تتغلب على الموت، تستطيع أن تكون ملاذا منه، وفردوسا إلى أن تنتهي رحلة الإنسان إلى شاطئ المنون:
الحبُّ يا حبيبتي أغلى من العيونْ
صونيه في عينيكِ واحفظيهْ
الحبّ يا حبيبتي مليكُنا الحنونْ
كوني له مطيعةً سميعةْ

الحب كالشعر، كلاهما يولد بلا حسبان، وكلاهما قهار، هذا حين نتأملهما بمعزل عن الموت: أي حين نقبل على الحياة، رغم ما فيها من رعب وسأم، ولكنهما يحوران - على ضوء الحقيقة الكبرى - شيئين آخرين، حينئذ يخوننا الحب كما يخوننا الشعر، ونغدو ولا ملاذ، حين يلتقي إنسانان منهوكان عليلان، ويتوهج قلباهما، يولد شيء في الظلمة، فيتلاصقان ويتعانقان، ثم...
ثم خبا، لم ندرك شيئاً
وتهدل كفّانا، أغضت عينانا
ولأن الليل الموحش يولَدُ فيه الرعب
لن نجني .. حتى الحب

إن الحب قد يكون قوة تبدد الحزن، وتسقطه من نفس الشاعر كما تسقط الأوراق عن الشجرة، ولكن هذا شيء آني، حين يقترن كل ذلك بالتفكير في الموت، وفي الحياة التي يمتلك طرفاها الرعب والسأم، وهذا وإن كان وليد فلسفة وجودية عامة، فإنه وليد الإحساس بصدمة ذاتية أسقطت الشاعر فوق الزمن في مطلع الصبا، وفي الكلمات الآتية صورة تلك التجربة:
في ليلةِ صيفْ
وقّع أحدُ الشعراء البسطاءْ
أنغاماً ساذجةً خضراءْ
ليناجي قلبَ الإلفْ
لكن كفّا معشوقته قد مزقتا أوتارهْ
صارت أنغامُ الشاعرِ خرساءْ
فإذا نطقتْ، كانت سوداويةْ

بل لعل هذه الصدمة الذاتية هي المدخل إلى تلك الفلسفة، فيكون الحب هو الذي رسم للشاعر صورة الإنسان والكون، والموت والحياة.

أن شعر صلاح في تطوره يشير إلى أنه أخذ يستخدم العادي في التعبير عما هو غير عادي، أعني استخدام شؤون الحياة اليومية، للتحليل الدقيق، للأوضاع النفسية المعقدة، المركبة، ولعل هذا هو الذي مهد لنقلته إلى المسرح الشعري، وفي هذا الجو الجديد، جو المسرح، تعبير عن الحب يستحق وقفة أخرى، ولكني لا أجد ذلك ضروريا في هذا المقام، إذ أنه ليس في منهج هذه الدراسة اقتحام ميدان الشعر المسرحي.

وقد يطول بي القول لو أردت أن أعرض للحب عند البياتي، في مراحله ووجهاته المختلفة، ولهذا أقتصر هنا على وجهة واحدة، هي أكثر شيء بروزا في المراحل الأخيرة من شعره: ربما كان الحب في شعر البياتي قوة موحدة، تربط بين الشاعر والكون، وتصل ما بينه وبين الآخرين، وتخلق علاقة بين الواقع واللاواقع، ولكن مجاورته للكره، تجعل قوة التوحيد "أملا" لا حقيقة، ذلك لأنه محتاج للكره من أجل الثورة، ولهذا فإنه حين يحس نوازع النقمة والغضب على الفساد، والشرور ينكمش الحب إلى حد التلاشي:
من أين يأتي الحب يا حبيبتي، ونحن محكومون بالإعدام
محاصرون منذ ألفي عام
نحاول الخروج من دوائر الأصفار

وحين يفسح الغضب والنقمة الطريق للحزن الصوفي تتسع دائرة الرؤيا، ويصبح الحب قوة كونية خفية لا تبيد، ويمثل الحبيبان طرفي المعضلة اللذين لا يلتقيان: أعني الانتظار والبحث، أو البحث والانتظار، (أي أنه كان أحدهما منتظرا سار الآخر في البحث عنه، والعكس)، وتتعدد الرموز (عائشة - عشتاروت، أوفيليا، لارا ...الخ) لتشير إلى حقيقة واحدة لا تتعدد، هي المحبوب (أو الحب) الذي ضاع ولكنه لم يمت، بل هو يحل في كل مجال، ويتراءى في صور وأشكال، (فراشة، نجمة، شجرة ...الخ):
عائشةٌ تُبعث تحت سعف النخيل
فراشةً صغيرة
تطير في الظهيرة
ها هي ذي ترشق بالقرنفل الأحمر وجهَ الموتْ
تقول لي تعال!
خذني على ظهر جواد الليل والنهار
إلى سهوب النار
راعيةً لغنمِ القبيلة
خذني إلى مدينة الطفولة
فإنني أموتُ من كونيَ لا أموتْ

فهذا الخلود دون اتحاد بالمحب هو موت أيضا، ولهذا كان ذلك البحث الدائب الذي لا يعرف الإعياء طلبا للاتحاد، ليتم به انتصار الشاعر على الزمن والموت، وحين يدنو المحب من لحظة الوصول، ينزل بين الروحين (أو الجسدين) حجاب يحول دون ذلك الاتحاد:
أرسم صورتها فوق الثلج،
فيشتعل اللون الأخضر في عينيها والعسليُّ الداكن،
يدنو فمها الكرزيُّ الدافئُ من وجهي،
تلتحم الأيدي بعناق أبدي،
لكن يدًا تمتدُّ، فتمسح صورتها،
تاركة فوق اللون المقتول بصيصًا من نورٍ لنهارٍ ماتْ.

وهكذا يظل الإنسان "الشاعر" يكابد هذا الطواف في المنفى (الفردي والكوني)، مفتشا مسائلا، في توق محموم، وإن كان شيخ المعرة قد قال له - بنغمة مؤيسة:
إياكَ والسؤالْ
فلن يردَّ جبلُ "التوباد"
لسائلٍ جواب

هذا الاتحاد الذي جعله البياتي مستحيلا، كما جعله بديلا عن كل إخفاقات الحب في الواقع، هو نفسه مطلب حياتي، وجودي، فلسفي، لدى الشاعر الحديث، ولهذا فإنه يتأتى له، ويحاوله، عامدا أو مداورا، من زوايا مختلفة، وهو عند أدونيس - مثلا - يمكن أن يتم عن طريق الحب الجسدي -، كما تعبر عن ذلك قصيدته "تحولات العاشق" (3)، حيث يمكن أن يولد من هذا الاتحاد نفسه كل شيء: الطبيعة، والفصول، والأطفال، والمعجزة التي لا تتقيد بقوانين الطبيعة، بل "والحب الآخر في الحب":
طامحٌ جسدي كالأفق وأعضائي نخيل
تُثمرين فيَّ
أُقطف تحت صدركِ، أيبسُ وأنتِ ريحاني والماء
كلّ ثمرةٍ جرحٌ، وطريقٌ إليكِ
أعبركِ وأنت سُكنايَ أسكنكِ وأنت أمواجي
جسدكِ بحرٌ وكلّ موجةٍ شراعٌ
جسدكِ ربيعٌ وكلّ ثنيّةٍ حمامةٌ تهدل باسمي

فالحب الجسدي عند أدونيس - كما هو عند السرياليين - "يختصر كل عجائب الكون وكل قوى الوعي وكل اهتزازات الشعور"، وهو الذي يمكن المحب من مبارحة ذاته والخروج من الحب النرجسي: "أتبرأ من الأرض وأجيئه وحيدا عالقا بنفسي"، والمرأة في هذا الحب قادرة - كما هي عند إيلوار - على أن تصبح حقيقة متألهة، إلا أن أدونيس يضيف إلى ذلك حركة مضادة، إذ يجعل الرجل أيضا قادرا على الخلق: "كما خلقتكِ اشتهيتني، كما شئتك انسكبتِ فيّ".

وفي هذا الزواج الجسدي (حيث الزوجان: كل منهما لباس للآخر)، معاملة مع الموت من عدة وجوه، التزيّ بالموت، الانتقام من الموت، الاتحاد مع الموت، الانفصال في الموت عن الموت، وفي مثل هذه المواقف يصل المرء إلى نتيجة واحدة، وهي أن الحب والموت سيان، فإن لم يكونا كذلك فهما منطقتان - بالمتعة - متجاورتان:
هل يقدر الفاني أن يتعلم الحب؟
وماذا أسمّيك يا موت؟

بيني وبين نفسي مسافة
يرصدُني فيها الحبُّ يرصدني الموت
والجسد عمادتي

من أعماق الأشياء الفانية أعلن الحب
ليبير ليبيرا فالّوس...

وفي مثل هذا النوع من الغناء، قد يتلاشى الجسد، (بل لا بد له أن يتلاشى) ولكن شريعته باقية، وعندما يسأل الحب، هنا، ماذا تفعل أيها الحب، يجيب:
أعارض الأرض

أي يقف وحده حقيقة شاهرة - مع الموت - في الحكم على الوجود الماضي إلى الفناء.

وهذا الاتحاد عند محمود درويش هو سر شعره، إلا أنه اتحاد من نوع آخر، إنه وحدة الشاعر والأم والحبيبة والأرض في نطاق واحد، دون انفصال. وإذا لم يغد هذا الاتحاد في شعر محمود مفهوما بحدوده المميزة، ظن القارئ أنه قائم على التلاعب بلفظة "الحبيبة" والألغاز بها للتمويه. وقد يذكر محمود أسماء واقعية لحبيبات، ولكن هذا يجب ألا يصرفنا عن رؤية المعنى الكلي الذي يرمي إليه، سواء أكان تعبيره - حسب قوله -: باللغة الصافية أو اللغة الدامية أو اللغة النائمة أو اللغة الضائعة، فإن "المعبودة" واحدة لا تتغير، ابتداء من بطاقة التشريد حتى كل محاولة للعثور على الهوية، تلك الهوية التي لن تتحقق دون الوطن:
فتَّشتُ عنها العيون
فلم أجدها.
لم أجد في الشجر
خضرتها...
فتشت عنها السجون
فلم أجد إلا فتات القمر
فتَّشتُ جلدي..
لم أجد نبضها
ولم أجدها في هدير السكون
ولم أجدها في لغات البشر

وهذه الأرض المعبودة ذات عينين ساحرتين، هما حينا هجرة، وحينا منفى، وحينا عودة، وحين يمثلان العودة، يتجلى المستقبل في أكمل بشاراته:
- من يرقص الليلة في المهرجان
- أطفالنا الآتون
- من يذكر النسيان
- أطفالنا الآتون
- من يضفر الأحزان، إكليل ورد في جبين الزمان
- أطفالنا الآتون

عندئذ يموت المحبان - مسرورين - في ضوء موسيقى الأطفال الآتين، وهذا يعني أن فرحة الحب، موصولة، بفرحة المستقبل، وأن ليس ثمة حب مجرد يعيش، في المطلق، كما يعيش حب البياتي، أو كما يحاول أن يعيش حب أدونيس.

ولا بد أن يختلف تعبير المرأة عن الحب - ولو نظريا - عن تعبير الرجل، حتى حين يحاول أن يتقمص دور المرأة (كما يفعل نزار قباني). ولكن يجب أن نتذكر أنه في خلال الثلاثين سنة الماضية، قد تم تطوران كبيران - إلى جانب تطورات أخرى - وهما تطور وضع المرأة، وتطور فكرة الحب، ولهذا فإننا حين ندرس شعر المرأة، قد نتأرجح بين أدنى درجات السلم وأقصاها، فشعر نازك - مثلا - من هذه الناحية، قد يتلخص في كلمتين: تعال - لا تجئ، أو " لنلتق... لنفترق"... لأنه قائم على تصور الخوف من التغير (ومن الزمن) - كما بينت في فصل سابق -. وتمثل فدوى طوقان جميع هذه المرحلة، وتضيف إليها أشياء كثيرة تتصل بعالم الأنثى، حبن يكون المجال هو الحب، أو تجربة الحب، فهي مثل الرجل حين ترى أن الفن نوع من التخليد للمحبوب: "ربيعك باق بشعري فما ينتهي"، إلا أنها تختلف عن الرجل في تحليل عاطفة الغيرة - مثلا - (4)، وفي تحليل معاني العبودية، فالرجل قد يقول للمرأة: سيدتي، أميرتي، مليكتي، ولكنه في النهاية، لا يعني بدقة ما تحمله هذه الألفاظ من معان، أما المرأة فإن كل لفظة من هذا القبيل مقيدة لها مرهونة بإخلاصها، ولست أريد أن ألجأ إلى التعميمات فأقول: أن المرأة أشد إخلاصاً - في الحب - من الرجل، وأنها من ثم أكثر منه وفاء، ولكني قد أقول: أنها لا تتفلسف كثيرا حول الحب، كما يفعل الرجل، بل هي أكثر التصاقا بالواقعية - في الحب - منه، وإذا كانت فدوى هي المثال الذي أختاره لتأييد هذا الزعم، قلت: إننا نصادف لديها سؤالا خالدا هو: ما أنت؟ (بدلا من: من أنت؟) وبين "ما" و "من" يكمن كل الفرق في تحديد هوية الحب:
أسأل: ما أنت؟ سمعت الرياح
تقول لي في مثل همس القدر
إنك يا حبي نشيد الخلود
وإنني صداك عبر الوجود

وفي هذه المرحلة التاريخية تغدو "سرية" الحب أمرا ضروريا، لأنها جزء من طبيعة تلك المرحلة، ولأنها أكثر دلالة على الوفاء.

ورغم التطور الزمني، تظل المرأة أقدر من الرجل في التعبير عن احساساتها العميقة حين يطري جمالها رجل ما (5)، أو عن العيش في سجن الحب، أو في تقديس الأمور المشتركة بين المحبين (6):
من الرأي إذ نلتقي عنده يا حبيبي
من الفكرة الواحدة
من الشعلة العذبة الخالدة
ومن ألف حلم ندي جميل
وأشياء أخرى تقاسمتها
وإياك نسيانها مستحيل

ثم إن المرأة أقل عنفا من الرجل في الاتهامات المتصلة بالخيانة أو التنكر للحب، ولكنها من وجهة أخرى أشد من الرجل رأما للطفولة فيه.

وتميز فدوى - بقوة - بين الحب والود، فالأول متصل بارتعاشات مبهمة تبدأ في الطفولة:
تحبني؟ تاريخها عندي قديم
قبلك من سنين، من سنين
نشدتُها، بحثتُ عنها في طفولتي
نشدتها إذ كنت طفلة حزينة
مع الصغار
عطشى إلى محبة الكبار
وكنت أسمع النساء حول موقد الشتاء
يروين قصة الأمير اذ أحبّ بنت جاره الفقير
أحبّها؟ .. وترعش الحروف في
كيانيَ الصغير
إذن هناك حب؟
هناك من يحبُّ، من تُحَب!

وأما اللفظة الثانية، فإنها تلحق بالصداقة:
تحبني؟
لا، رُدَّها،
دع لي صديقي ودّك الكبير
أعبُّ من حنوّه في دربيَ الطويل

غير أن لفظة "الحب" نفسها، قد تلقي في النفس ظلالا متفاوتة، من المعاني، كما أنها - ككل شيء آخر في هذه الحياة - خاضعة لحكم الزمن:
يومٌ، وتعرى الكلمة الناعمة
من ظله، من سحرها الباني
يومٌ، ويبدو وجهها الثاني
عبر مسافات جليديّةْ
خلف متاهات ضبابيةْ

مثلما أن "ظاهرة الحب" نفسها قد أصابها التغير بفعل الزمن، فجفت، وأصبحت قاصرة على العلاقات الجسدية:
الحب عند الآخرين جف وانحصر
معناه في صدرٍ وساق

وتشارك سلمى الخضراء الجيوسي في كثير من مظاهر هذه المرحلة التاريخية، فهي أيضا حيية، لا تسعفها الجرأة على البوح:
خانت جرأة البوح الرحيمة
وبسالة الشكوى قوانا
فخلت أغانينا من الآهات واختنقت رؤانا

ولعل هذا الخجل هو الذي يجعلها تعتمد صيغة الجمع في الحديث عن نفسها:
وهواك ملء فؤادنا، هذي حنايانا رفيف من عباده.


وتعارض سلمى بين الجمال والحب، وخاصة في قصيدة "شودان" - وهو رمز للفتى الجميل - الذي حرك جماله دخائل الإعجاب، ولكنه لم يترك حبا:
سيمضي، لن يراه الليل سهداً في مآقينا
ولن يشرب من آهاتنا حسرةْ
ولا من دمعنا المغلوب في أعماقنا قطرةْ
ولن يمتصَّ من أوراد خدّينا التلاوينا

وتعود سلمى إلى رمز "شودان" حين تريد أن تصور التوحيد بين الجمال والموت، فيصبح الحب بذلك والموت متطابقين. وتضيف الشاعرة تجربة أخرى حين تستغل صور السفينة أو المركب، وما يتعلق بهما من شراع وقلع ومجداف (وهي صور تتردد عند فدوى أيضا) لتعبر بالسفينة الغارقة عن الموت المنقذ، من حياة تحول فيها الحب عن طبيعته السمحة:
تغوص سفينتي في البحر، تغرقُ لا أنجّيها
صقيع الليل، يا ويلي، يكدِّس ثلجه فيها

ذلك أن الحب قد استحال إلى برودة قاتلة. فكل شيء هامد، وكل شيء يشكو الصقيع:
صقيع الليل مد جذوره عندي،
وعشّش في شِغاف القلب
من ينجيك من بردي؟

وقد اجتمع تغير الحب مع ضياع الوطن والهوية، فإذا العالم كله ميت، والبرد "قد عشش في عرق الرحم".

وليس من المستغرب أن تتجاوز المرأة الشاعرة - في هذه المرحلة - كل ما يتصل بالحب الجسدي، فلا تقف عنده، وان كان بعض الشواعر لا يجدن حرجا في استخدام بعض الصور الجنسية. وسيظل الشعر- إذا قيس بالقصة الطويلة أو المسرحية - من أقل الألوان الأدبية تنويعا في موضوع الحب، بحكم جوهره وطبيعته.




الهوامش

(1) يستطيع القارئ أن يراجع عدة قصائد بهذا المعنى في ديوان " حبيبتي ".
(2) ينكر نزار مثل هذه العقدة في قصيدة له - في أحد دواوينه الأخيرة - وأنا هنا لا استعملها بمعناها المرضي، كما أن إنكاره لها يتطلب تأملا جديدا.
(3) انظرها في ديوانه "كتاب التحولات": 111 - 166.
(4) انظر ديوان وجدتها (بيروت: 1962) : 84.
(5) انظر ديوان وجدتها (بيروت: 1962) : 106 - 107.
(6) المصدر السابق: 43.


الآراء (0)