بدر شاكر السياب – بموته وُلد لنا شاعر كبير - أنطوان غطاس كرم | القصيدة.كوم

كتبت عام: 1965


496



بدر شاكر السياب – بموته وُلد لنا شاعر كبير


بموت بدر شاكر السياب ولد للعرب شاعر كبير.

كأنما قضي في شرعة الملهمين أن يهب الموت ما حرمت الحياة، لتكتمل دورة العدالة في الناموس.

خرج السياب من متاهة التمزق، وضرب فيها ثمانية وثلاثين ربيعا، متمرداً، شريداً، مبدّد النداء، حائرا، مستعر التحرق في غربته وغربة الإنسان. ودخل راحة البقاء حيث اجتمع الشوق والهدف، والتقي النداء وصداه، واستقرت الرؤيا في صورتها، واتقدت شعلة الانتظار المتحرق في الرف الألوف من أهل زمانه. فيرده الموت هكذا إلى حقيقته العارية: حضوراً كلياً في الشعر العربي، ووجوداً إنسانياً في عصر.

وواقعه أن الرومنطيقية التي طبعت الأدب العربي الحديث – زهاء نصف قرن – بطابع الكآبة، واليأس، والاغتراب، والحلم الضائع، والفرار، والاستسلام، والآنيّة المنعزلة، والاعتصام بالأخيلة الواهمة، والدموع، والموت، والشعور السوداوي المريض، قد غارت منابعها، واستنفدت حرارتها، وانحلّت في سلبيتها النائحة، وانتهت بانتهاء العوامل الني ولّدتها، وآلت بعد شاعرها إلياس أبو شبكة إلى أفول.

ثم زاوجتها جمالية الرمزيين في أدب مترف يتوخى النقاء الخالص؛ وطفق يلتمس في قلب اللغة معجمه الأرستقراطي، ويغتذي في انطوائيته العاجية، يقطع الماس المضيء، ويصقل جواهر اللفظ المصفى، فأقفل على نفسه ناعماً بحلاوات الصيغ، وفاتته الأبعاد الفكرية، حتى إذا شاع الطراز، وانتشر المعجم الأنيق في الأقلام الناشئة، سقط النوع في قحط معاد مكرر، وخبا لمعان الجدّة فيه، وصارت الجواهر النادرة إلى زيف، وجوّفها الابتذال، ولم يتبقّ من الشكل غير خواء هو صنو الفناء.

الحق أن الظاهرتين الأدبيتين كلتيهما امتداد فني للواقع التاريخي وحتمية الأوضاع السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والمكونات الثقافية التي رسمت حدود الوجود في تلك الحقبة، ولونت صور الحياة، وجبلت حسّ الشعراء، وبثّت تلك النكهة في الذوق الفني. وهراء أن تفصل أطياف الرومنطيقيين وجواهر الرمزيين عن تلك الحتمية، فإنها، كيفما دارت الحال، مرهونة بموقف الأديب من الحياة، والتاريخ، والحضارة، بل قل ان العزلة الانطوائية بالذات هي انعكاس لموقف.

ثم كان أن تحول محور القضايا الإنسانية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فشعّت المفاهيم الحضارية الجديدة، وتعالى التنافس في الذود عن المُثل الأيديولوجية بين الشرق والغرب، وتاقت الأمم المهيضة إلى تحقيق وجودها وبناء تاريخها من داخل، فانتقل مركز الثقل من فردية الأنا إلى الأمة، فارتبط الفرد بالجمهور، واتصل المعنى القومي المحلي بالمعنى الإنساني الأشمل، وتبدل مدلول النظر إلى الوجود واتسعت مجاليه، وتعدل النظر إلى التاريخ، إذ لم يعد ماضيا مستنقعا مواتا مفروضا، وإنما هو فعل حاضر، تبنيه الإرادة الإنسانية، وبتنسيق طاقاتها يتقرر مصيره، وتُساق أحداثه.

عن هذا الموقف المصيري نحا الشعر العربي المعاصر منحاه الواقعي، واهتز من جذوره، وانفصل عن كل ما ليس استجابة لقضاياه في التراث العربي، واسترفد ما رأى نفسه فيه من تراث الغرب، أينما وقع: من الماركسية والوجودية، من الفوق واقعية ورفضها وخلقها من العالم الواقع عالما أسمى، ومن الأساطير رموزا فكرية، ومن مآسي الشعراء الإنسانيين في العالم.

لا جرم أن هذا التحول في مركز الثقل هو التعليل الأبرز الذي يعلل به التحول النسبي والكلي الذي أصابه الشعر المعاصر، فإن الشعر بات موقفا مركبا من الحياة والحضارة والتاريخ، يرتهن فيه الشاعر الفرد بالأمة، والأمة بالإنسان، والإنسان بالتاريخ، والتاريخ بالقيم الحضارية الصاعدة. وينتقل الحس الفني والجمالي من الانحناء فوق الذات المنفردة، إلى معانقة هذه الذات وقد تجمّع فيها العالم بأسره، فهذا هو معدن الشعور، ومنجم الفكر، وسماوات التصور، وخلق الأداء البكر لحالة إنسانية بكر.

من هذا المنطلق يحدد مركز السياب في مواكبته الأمة والعالم والعصر، حتى يضحي برأسه موجة الشعر العربي المعاصر في مدّ انتقالها من شاطئ الرومنطيقية الحالمة ("أزهار ذابلة" و"أساطير") إلى أعلى معاني الالتزام ("أنشودة المطر"، "المعبد الغريق"، "منزل الأقنان"، "شناشيل ابنة الجلبي").

ولربما تعذر، في هذا الزمن المنفتح على ثقافة العالم، أن يرد الباحث عبقرية السياب إلى وحداتها التكوينية، ويستعيد بنيتها بالاستناد إلى ما انصب فيها، وانصهر فاستحال اختراعا. ذلك أن مدى المقابسة قد تفرّع وتكثّر حتى لا قبل لنا بحصره، إلا على اختيار؛ ولا كان التلقيح على مستوى في "الكم" واحد، ولا على وتيرة في "النوع" واحدة (1). ولذا يبيت الكلام على تكوين عبقريته ههنا محصوراً في الاتجاهات العامة دون تبيان السبب، والشاهد المفصل.

غير أنه يتضح، من خلال "أنشودة المطر"، أن هذه المقابسة الثقافية الإنسانية لم تكن عبئاً عليه؛ ذلك أنه قد اتخذها، على الدوام، سبيلاً إلى نفسه، فيتولد منها مخزون وجداني يردّ المقتبس عطاه، فإذا ما رحت تبحث عن تلك الحرارات المستعارة، وشئت أن تردّها إلى مظانتها، رأيت أن الشاعر قد كساها وجودا غير وجودها، وشعرت بأن جذورها ممتدة إلى تربة أدبية بذاتها، أو إلى معين فكري معين: ولكنك لا تتنكر لهذا الأخذ، لأن الفروع التي تنجلي لناظريك هي بنات خواطر السياب، نمت على أساس التداعي أو على أساس اكتشاف الذات، وجاء المبتكر لديه على مستوى المقتبس.

وتعليله أن السياب لم ينظم الشعر إلا بمقدار ما هو امتداد لمأساته الداخلية، والتمزق المعتمل فيه، فدرّب في مأساته كل فاجع أتاه، وحوّل إلى تجربته الوجدانية كل تجربة، وفي حمى نفسه صهرت كل حمى من سيزيف وبروميثيوس، إلى تموز والمسيح، ومن جميلة بوحيرد إلى المحو في هيروشيما.

يتضح لنا، صداقه في جيكور مسقط رأسه، كيف نمت فيه بنمو ثقافته: من عهده الغنائي الحالم البريء، إلى عهده الفكري المعقد، من زمان الطفولة البريئة والطبيعة العذراء، تستفيق فيه حنانَ أمومة، وظل نخيل، وصفاء ماء نمير، وانحناء فوق حب قديم من عهد الصبا، ونسمات خاطرات على حقول السنابل، وحكايات من حلاوات الخوارق؛ إلى أن تصبح جيكور الكوى التي يطل منها على قضايا أمته، وعلى العالم الذي حاد عن محوره، بل تصبح هي العالم ومختصر مأساته، واعتمال متناقضاته. منها يرى الطهر فتتضخم صورة البغاء، ويرى السكينة والسلام فيعظم ضجيج العالم، والحرمان والتخمة، والفوارق الطبقية، والمثال وضده، ودفء الدار والغربة المعذبة، والموت والبعث، والضعف المستكين والاستبداد المستشري.

فهناك أيضاً يشبع شعره وفيه مزيج من اللهجة الشعبية وحزن المواويل الفولكلورية، وفيه ما استجمع وحوّل من رموز عقلية وأساطير فلسفها العصر، ومرتفعات من الصيغ الكلاسيكية حتى كأن الأعاريض واللغة ملهاة من ملاهيه.

لشدّ ما أخذوا عليه أنه لم يستقر على عقيدة سياسية معينة: فإذا هو يساري، يثور مع الثائرين ويشرد عام 1953 مع من تشرد؛ وإذا هو، بعد حين، ينضم إلى أسرة "مجلة شعر" ليعانق مفهوماً قومياً آخر؛ حتى إذا انتهى إلى مجلة "الآداب" "تنفس الصعداء"، على حد تعبيره، ليلتقي نفسه لقاء ثالثا.

والواقع أن هذا الانتقال المثلث، على تفاوت ما بين ركائزه، وعلى تناقض اعتباراته، لا يعدو أن يكون غير وجوه مختلفة لحقيقة في نفسه: الموت في سبيل الحياة، والثورة والرفض من أجل البناء.

يقول ألبير كامو: "يئس الإنسان من بقائه، فأبغض الموت وإله الموت، وراح يلتمس الخلاص في خلود الجنس البشري. وما دام الثائر غير مستولٍ على العالم، وما دام الجنس البشري غير مستولٍ على الحُكم، فلا بد من الموت في سبيل الوصول ... إن في تدمير الإنسان أيضا إثباتا لوجود الإنسان".

ثم تستوقفك في "أنشودة المطر" خاصتان: طبيعة الصورة لديه، وطبيعة الأداء.

ذلك أن الصورة لم تعد خفقة مضيئة من المجاز منفردة، أو مفاجأة منعزلة، وإنما سيقت على ضروب من الرؤى حتى غدت طاقة من نيازك تنبعث معا، وتتفرق بعد انطلاق وفقا لنظام إرادي. ومقتضى هذا التراكم المنظم أن يبرأ القصص من سرده الأسطوري، وتنقشع الأحداث عالما من المجاز قائما بذاته. وكمثل ما نلمح في "الفن السابع"، تبعد الصور، ثم تتدانى شيئا بعد شيء، ثم تؤخذ جزءا فجزءا، أو هو التدرج المعاكس في قرب الأجزاء ثم فنائها في الغياب (راجع على سبيل المثال "المومس العمياء" و"حفار القبور"). وهي في هذا كله معادلة لنموها المتسق. ولربما كان هذا التعويل المستديم الدينامي على الرؤى سببا من أسباب الإيهام الإيحائي الذي يكتنف شعره. بل انه لا يحط بك عند منعطف السرد والحوار إلا لينتشلك مجدداً إلى عالمه الرائي، يكسر الهندسة الواقعية ليتبنى دنياه وفقاً لهندسة جديدة، بكيمياء هذه الصور.

ثم يرفد هذه الكيمياء الصورية بما يجاريها من الأداء، ولا يغادر "العمودية الاتباعية" إلا بعد حسه بأنه استفرغ طاقاتها، ولم تعد وافية بطاقاته، ولا معادلة لمجالات ندائه، فيستل منها التفاعيل على مقياس هذا النداء ومدار اللهفة الداخلية، ويقلب القوافي، ويداخل، ويضمن ما اشتهى ليستقيم مناخ الأسطورة – المأساة، ويستوي الفاجع في النغم الداخلي استواءه في إعصار نفسه وانكسارها، وانتفاضة رؤياه وعودتها إلى ركام السكينة.

بهذا يغني الطفولة، كما لم يغنها شاعر عربي، لأن الطفولة الأبدية فيه، ويمجد الانتظار في ارتقاب الحياة بنت الموت.




نشرت في مجلة "حوار" – العدد 15 - نيسان 1965




الهوامش

(1) ما ان يلتقي نفسه في ييتس، حتى يكتشف ما برح مكنونا فيها لدى إليوت ولا سيما رائعته "الأرض الخراب"؛ ثم تهزه إيديث سيتويل في غير جانب من حياته الشعورية والفكرية. ويمور في خاطره، على فوارق البعد والاقتراب: أراغون، إيلوار، برولون، سارتر، كامو، بابلو نيرودا، غارثيا لوركا. أو يعول على بعض رؤى دانتي، ورمز فاوست. بل ان النماذج الإنسانية في مسرح شكسبير تتحول على يراعته رموزا للحب حتى الموت (روميو وجولييت) أو للإجرام حتى الروع (مكبث). ويعود إلى التراث المسيحي في عهديه القديم والحديث، حتى يختل شخص المسيح مكان البطولة في المأساة الكبرى عذابا، وموتا، وبعثا. ويستنفد ما وقع له من أساطير بابل، والإغريق، والفينيقيين، من سربروس، إلى تموز وعشتار، إلى سيزيف وبروميثيوس والتاريخ العربي. وفي هذا الحشد ما يحدّ من شوق المغامرة العلمية. ناهيك بما التقى من موروث العرب الشعري العمودي، وما اجتذبه من الرفض والخروج المسرف عن أنماط الاتباعية.


الآراء (0)