كيف نقرأ الشعر الحديث؟ - عبدالله أبو شميس | القصيدة.كوم

كتبت عام: 2014


855



كيف نقرأ الشعر الحديث؟



الجزء الأول

كثيرةٌ هي الأسئلة حين يتعلق الأمر بقراءة الشعر، وأبرزها: كيف نقرأ الشعر؟ كيف نفهم الشعر؟ كيف نتذوق الشعر؟

هذه الأسئلة لا تشغل نُقّاد الشعر والمتخصّصين فقط، ولكنها أيضاً تشغل أساتذة اللغة العربية وطلاّبهم في جميع المراحل التعليمية، وتشغل قُرّاء الشعر ومحبّيه بشكل عام.

وحين نصل إلى الشعر الحديث تتحول أداة السؤال فجأة من (كيف؟) إلى (لماذا؟): لماذا لا نفهم الشعر؟ لماذا لا نتذوق الشعر؟ لماذا نقرأ هذا الشعر؟! وربما تصل الأمور إلى سؤال احتجاجي مثل: هل هذا شعر أصلاً؟!

كل هذه الأسئلة مبرّرة ومنطقية ويجب على المختصين تقديم أجوبة شافية للسائلين، أو أنهم يغامرون بخسارة اهتمام الناس بالشعر، وهو ما حصل بالفعل. فأنت لا يمكنك أن تبيع الناس سلعة جديدة دون أن تكون قادراً على توضيح مزاياها وخصائصها.

وفي هذا السياق طلب مني المسؤولون في صفحة قصة وشعر – مشكورين على حسن ظنهم - أن أقدّم لمتابعي الصفحة الكرام محاولة للإجابة على الأسئلة السابقة، خصوصاً ما يتعلق بالشعر الحديث. وهذا ما سأحاوله في الاجزاء التالية، ولا أدّعي أنها أكثر من محاولة.


كيف نقرأ الشعر الحديث؟

يتوهم كثير من الناس أنّ قراءة الشعر تحتاج إلى مهارات خاصة، مثلاً: أن يكون القارئ متعمّقاً في النحو أو الصرف، أو يكون متخصصاً في العَروض وأوزان الشعر، أو يكون دارساً للبلاغة أو غيرها من العلوم.. وحين يتعلق الأمر بالشعر الحديث يعتقدون أنّ القارئ يجب أن يكون متخصصاً في الفكر أو الفلسفة أو علم النفس أو الأساطير أو غيرها ليستطيع قراءة هذا الشعر وفهمه وتذوقه!

هذه كلها أوهام وخرافات، كما سنرى.. فأيّ قارئ متوسط يقرأ القصة أو الرواية الحديثة لديه القدرة التامّة على قراءة الشعر الحديث.

هذا لا يعني أبداً أن الثقافة الواسعة أو التخصص العميق ليس لهما فائدة، ولكنهما ليسا شيئين ضروريّين لقراءة الشعر، أو بتعبير طلاب الجامعة هما ليسا مُتطلّبيْن سابقين لقراءة الشعر!

لكن لنعُد إلى سؤالنا الأول: كيف نقرأ الشعر؟

دعونا نتفق بداية على تحويل هذا السؤال الكبير إلى سؤال أصغر، هو: كيف نقرأ القصيدة؟ ودعونا حتى نكون عمليّين أكثر أن نجيب على كلّ أسئلتنا من خلال قصائد حقيقية. ولتكن البداية مع قصيدة (غرناطة) المشهورة للشاعر نزار قباني.

الخطوة الأولى طبعاً هي الحصول على نصّ صحيح من القصيدة، فللأسف تمتلئ صفحات الإنترنت بنصوص رديئة الطباعة ومليئة بالأخطاء اللغوية والنحوية والحذف وغيرها من الآفات الناتجة عن الإهمال والاستسهال. لا يمكننا أن نتقدم خطوة في أي مجال دون أن نعطيه حقّه من الاهتمام والعناية. لكن لحسن الحظ، يمكننا الحصول على نسخة بالرجوع إلى ديوان الشاعر، وهو متوفر غالباً في المكتبات أو بصيغة pdf في معظم الأحيان، أو إلى بعض مواقع المجاميع الشعرية الأدقّ نسبياً من غيرها. وبعد الحصول على نسخة سليمة يمكننا البدء بالقراءة.

أترككم مع نصّ القصيدة الذي حصلتُ عليه، ونكمل قراءتنا لهذه القصيدة في الجزء الثاني:


غرناطة

في مدخلِ "الحمراءِ" كان لقاؤُنا
ما أطيبَ اللقيا بلا ميعادِ

عينانِ سوداوانِ في حَجَرَيهما
تتوالدُ الأبعادُ من أبعادِ

هل أنت إسبانيةٌ؟ ساءلتها
قالت: وفي غرناطة ميلادي

غرناطة؟ وصَحَتْ قرونٌ سبعةٌ
في تينك العينين.. بعد رقادِ

وأُمَيَّةٌ راياتها مرفوعةٌ
وجيادُها موصولةٌ بجيادِ

ما أغربَ التاريخ كيف أعادني
لحفيدةٍ سمراءَ من أحفادي

وجهٌ دمشقيٌ رأيتُ خلاله
أجفانَ بلقيسٍ وجيدَ سعادِ

ورأيتُ منزلنا القديمَ وحجرةً
كانت بها أمي تمدُّ وسادي

والياسمينةَ رُصِّعَتْ بنجومها
والبركةَ الذهبيةَ الإنشادِ

ودمشقُ، أين تكون؟ قلتُ ترينها
في شَعرِكِ المنسابِ .. نهرَ سوادِ

في وجهِكِ العربيّ، في الثغرِ الذي
ما زال مختزناً شموسَ بلادي

في طيبِ "جنّات العريف" ومائها
في الفلّ، في الريحان، في الكبّادِ

سارت معي.. والشَّعرُ يلهثُ خلفها
كسنابلٍ تُرِكت بغيرِ حصادِ

يتألَّقُ القرطُ الطويلُ بجيدها
مثل الشموعِ بليلةِ الميلادِ..


الجزء الثاني

اسمحوا لي في البداية أن ألخّص أهمّ ما جاء في الجزء الأول من هذه السلسلة، حتى نستطيع أن نتابع معاً هذا الجزء الثاني.

زعمتُ بدايةً أنّ قراءة الشعر الحديث وفهمه وتذوّقه ليست حكراً على فئة معينة من المتخصصين أو المثقفين، وقلتُ إنّ أيّ قارئ متوسط الثقافة بإمكانه أن يقرأ هذا الشعر ويفهمه ويتذوقه تماماً. وعلى كل حال، ما زال هذا القول مجرّد ادّعاء يحتاج إلى إثبات ودليل.

واتفقنا في المقال الأوّل أن نحوّل سؤالنا الأساسيّ العامّ: كيف نقرأ الشعر؟ إلى سؤال أصغر هو: كيف نقرأ القصيدة؟ ، واتفقنا كذلك أن نكون عمليّين ونترك التنظير جانباً، ونبدأ بقراءة قصائد حقيقيّة. واتفقنا أنّ أوّل خطوة للقراءة الصّحيحة هي أن نحصل على نصّ دقيق من القصيدة، فلا ننسخ القصيدة من أيّ موقع إلكترونيّ دون التوثّق من مستوى هذا الموقع، ولكن نعود إلى ديوان الشاعر الورقيّ أو بصيغة pdf، أو إلى بعض المواقع الإلكترونية القليلة الموثوقة. وهذا ما فعلناه مع قصيدتنا الأولى قصيدة الشاعر نزار قباني (غرناطة).

وقبل الدّخول في قراءة هذه القصيدة أودّ أن أشير إلى ملاحظة وصلتني من أحد متابعي صفحة (قصة وشعر) الأفاضل، يقول: لقد اخترتَ قصيدة سهلة، ويا حبّذا لو تختار نماذج من الشعر الحديث المعقّد، وليس قصائد سهلة يستطيع كل الناس قراءتها!

أوافق القارئ الكريم على ملاحظته، وهي ملاحظة لم تكن غائبة عني حين اخترت قصيدة غرناطة، ولكني أودّ توضيح أمرين: الأول، أنّ أيّ محاولة لنقل المعرفة، أو توضيح فكرة معينة في الذهن، يجب أن تبدأ من السهل للصعب، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي تُبنى فيها الأفكار وتنمو. أما الأمر الثاني فهو أنّ الآليّة التي سوف أقترحها لقراءة الشعر الحديث لا تختلف أبداً تبعاً لدرجة صعوبة القصيدة أو تعقيدها، وهذا ما سوف ترونه لاحقاً بإذن الله.

نعود للقصيدة:

في البداية أريد أن نتفق على القاعدة الجوهرية التالية: القصيدة تُقرأ مرتين وليس مرّة واحدة.

في الحقيقة لقد جرّبت هذه القاعدة مع مئات القصائد الحديثة، ووجدت أنه لا توجد قصيدة يمكنك فهمها فهماً جيداً أو تذوّقها تذوّقاً سليماً أو الحكم عليها حكماً صائباً من قراءة واحدة فقط. هذه القاعدة لها تفسير منطقيّ من المفيد توضيحه هنا، وهو أنّ القصيدة - خصوصاً القصيدة الحديثة - لها بناء هندسيّ معيّن، وسرّ جمالها أو عدم جمالها يكمن في مدى إتقان هذا البناء.

أعرف أنّ بعض القرّاء ممن لا يحبّون الهندسة والرّياضيّات والعلوم سوف يخافون من كلمة (بناء هندسيّ)، وبعضهم سوف يقول: بعد أن أقنعتنا أنّنا لا نحتاج إلى التخصص في البلاغة والنحو والعروض والفلسفة وعلم النفس لنفهم الشعر، ها أنت تقول لنا إنه يجب أن نكون متخصصين في الهندسة! يا لها من خدعة!

لهؤلاء القرّاء أقول لنترك كلمة هندسيّ ولنتّفق فقط أنّ لكلّ قصيدة ( بناء) معيّناً، وأنّ إدراك جمالها يكمن في إدراك هذا البناء.

إذن، ما هو المقصود ببناء القصيدة؟

حتى نجيب على هذا السؤال المهمّ دعونا نعود لقصيدتنا قصيدة غرناطة لنزار قباني، ولنسأل أنفسنا بعد القراءة الأولى التي يُفترض أنّ الجميع قد قام بها: ماذا يوجد في هذه القصيدة؟ ماذا قال الشاعر فيها؟ ونحاول أن نتذكر ما نستطيع أن نتذكره.

سوف نجد أنّ ما يتذكّره القرّاء من القراءة الأولى كثير جداً، مثل ما يلي:

الشاعر كان في زيارة لقصر الحمراء في إسبانيا - الشاعر يصف امرأة جميلة شعرها كثيف مثل حقل قمح قبل الحصاد - الشاعر يتحدث عن بيته في دمشق وفيه ياسمين وبركة ماء جميلة - الشاعر يصف قصر الحمراء وفيه نقوش وزخرفات نابضة على الجدران والسقوف - الشاعر يتحسّر على مجد العرب في الأندلس ويستذكر خيول بني أميّة - "ما أطيبَ اللقيا بلا ميعادِ!" الله جملة رائعة - المرأة التي يتحدث الشاعر معها إسبانية وهي تشبه العربيّات في جمال عيونها وجيدها - المرأة الإسبانية تعتقد أنّ قصر الحمراء جزء من أمجادها لكن الشاعر يعتقد أنّه جزء من أمجاد أجداده العرب - عند الشاعر جرحان: واحد قديم وواحد جديد نازف - الشاعر يصف المرأة الإسبانية بأنّها حفيدته وأنها وارثته، وهذا غير مفهوم! - هناك جملة غير مفهومة وهي "ودمشقُ أين تكون؟" - الشاعر يتذكر طارق بن زياد القائد العظيم ختام رائع للقصيدة... إلخ

هذه مجموعة من الانطباعات والأفكار والجماليّات، وغيرها الكثير بالتأكيد، التي قد تكون بقيت في أذهان بعضكم، بعضها أو كلّها. وهذا في الحقيقة ما تقدّمه لنا القراءة الأولى، وهذه وظيفة القراءة الأولى. فما الذي نريده من القراءة الثانية؟

الذي نريده ببساطة هو محاولة ربط هذه الانطباعات والأفكار والجماليّات بعضها ببعض، ومحاولة إدراك البناء الذي يجمعها كلّها في إطاره. ما الذي جعل الشاعر يتحدث عن بيته في دمشق؟ ما الذي جعله يتحدث عن طارق بن زياد؟ من هي هذه الفتاة الموجودة في القصيدة وماذا تفعل في القصيدة؟ ما هذه الجمل الكثيرة التي تأتي مقتسبة بين "هلالين" ومن يقولها؟

الإجابة التي سوف تقودنا إليها القراءة الثانية للقصيدة، عندما نحاول ربط كل العناصر ببعضها، هي أنّ بناء هذه القصيدة هو بناء قصصيّ. وعندما يكون لدينا قصّة فإننا نتوقّع وجود عناصر القصة المشهورة: الشخصيّات والمكان والزمان والحوار الوصف. بكلّ سهولة سوف يجد قارئ القصيدة:

1- الشخصيّات: السائح (يبدو أنه هو الشاعر نفسه) والفتاة الإسبانيّة.
- السؤال هنا: ما دور هذه الشخصيّات؟
- الجواب: السائح آتٍ لزيارة قصر الحمراء في غرناطة. الفتاة الإسبانيّة: دليل سياحيّ.
- اعتراض: كيف عرفت أنّ الفتاة دليل سياحي؟!
- الجواب: يقول الشاعر: ومشيتُ مثل الطفل خلفَ دليلتي.
- حسناً هذا يبدو صحيحاً.
وسوف يضيف قارئ آخر: هناك والدة الشاعر التي تمدّ وساده، وهناك طارق بن زياد القائد العربي. وسوف يقول قارئ آخر هذه شخصيّات ثانويّة في القصيدة والمهم الشخصيّات الأساسية. وكل هذا كلام سليم.

2- المكان: قصر الحمراء.
هذا هو المكان الأساسيّ الذي تدور فيه القصيدة (ذات البناء القصصيّ)، دعونا نسمّيها (القصيدة / القصة) للتسهيل. وهناك أمكنة أخرى في القصيدة مثل الأندلس القديمة ومثل بيت الشاعر في مدينة دمشق.
- اعتراض: كيف عرفت أنّ بيت الشاعر في مدينة دمشق؟
- جواب: الشاعر سوريّ وهو شاعر معروف.
- اعتراض: سوريّ ممكن من حلب أو من أي مدينة سورية.
- جواب: عرفت من وصف الشاعر لبيته بأنّ فيه ياسميناً وبركة مثل البيوت الشاميّة.
- اعتراض: هذا غير مقنع.
- جواب: طيب ما رأيك بقول الشاعر "ودمشقُ أين تكون؟!".
- اعتراض: ماذا؟! هذا البيت دليل قاطع أنّ الشاعر ليس من دمشق. كيف يمكن لشاعر من دمشق أن يقول "ودمشقُ أين تكون؟!".
- جواب: لا يا عزيزي، هذه الجملة قالتها الفتاة الإسبانية وليس الشاعر.
- اعتراض: حقاً؟ وكيف هذا؟
- جواب: من الواضح أنّ الشاعر حين سألها "هل أنتِ إسبانية؟" سألته هي "وأنتَ من أين؟" فقال لها "من دمشق" فقالت له: "ودمشقُ أين تكون؟!" فهي لا تعرف دمشق!
- اعتراض: وهل هناك أحد في العالم لا يعرف دمشق؟!
- جواب: نعم طبعاً. هي فتاة إسبانية ويبدو أنّها صغيرة في العمر، واحتمال كبير أنها لم تسمع بهذه المدينة البعيدة.
- اعتراض: طيب لا مشكلة.

3- الزّمان: غير واضح بالضبط زمان القصيدة / القصة، لكنه بالتأكيد في العصر الحديث، حيث يوجد سياحة وأدلاّء سياحيون. يقول أحد المتخصّصين إنّ نزار قبّاني كان سفيراً لسوريا في إسبانيا وهي معلومة جميلة لكنها ليست ضرورية لنا (مثلها مثل معظم معلومات المتخصصين).
وهنالك زمان آخر في القصيدة هو زمن وجود العرب في الأندلس، وهناك زمن آخر في طفولة الشاعر في دمشق.
هذا يشبه ما نجده في القصص والروايات والأفلام والمسلسلات حين يبدأ أحد الأبطال في تذكّر أحداث في الماضي. وغالباً ما يتمّ هذا بسبب معيّن، فلماذا يتذكر الشاعر هنا الزمن الماضي؟
- الجواب: ما دفعه لتذكّر زمن العرب بالأندلس، هو وجوده في غرناطة، وكذلك كون الدليلة السياحيّة من غرناطة!
- اعتراض: وكيف عرفت؟
- جواب: هو يقول:
هل أنت إسبانيةٌ؟ ساءلتها
قالت: وفي غرناطة ميلادي
غرناطة؟ وصَحَتْ قرونٌ سبعةٌ
في تينك العينين.. بعد رقادِ

- اعتراض: طيّب، وما الذي جعله يتذكّر زمن طفولته في دمشق؟
- جواب: أنتَ قل لي.
- اعتراض: ربما لأنّ هذه الدليلة السياحيّة تشبه فتيات دمشق، ولهذا قال:
ما أغربَ التاريخ كيف أعادني
لحفيدةٍ سمراءَ من أحفادي
وجهٌ دمشقيٌ رأيتُ خلاله
أجفانَ بلقيسٍ وجيدَ سعادِ

- جواب: هذا صحيح تماماً، وأيضاً لأنها لم تعرف مدينته دمشق مما جعله يتخيّل مدينته التي تجهلها هذه الدليلة السياحيّة:
ودمشقُ، أين تكون؟ قلتُ ترينها
في شَعرِكِ المنسابِ .. نهرَ سوادِ
في وجهِكِ العربيّ، في الثغرِ الذي
ما زال مختزناً شموسَ بلادي

- اعتراض: تمام.

4- الحوار. وهو واضح في القصيدة بين السائح ودليلته السياحية.

5- الوصف. وهو أيضاً واضح في وصف المكان بزهوره، ووصف الفتاة، ووصف البيت الدمشقيّ، ووصف التاريخ التخيّليّ في:
وأُمَيَّةٌ راياتها مرفوعةٌ
وجيادُها موصولةٌ بجيادِ

____

- اعتراض: حسناً إذا كانت هذه القصيدة لها بناء قصة كما تزعم، هل يمكنك كتابتها على شكل قصة؟
- جواب: بالتأكيد، ولكن القصيدة سوف تظلّ أجمل طبعاً!
- اعتراض: نعم أعرف أنّ القصة لن تكون في نفس مستوى جمال القصيدة، لكن أريدك أن تعيد كتابتها كقصّة.
- جواب: حسناً ستكون القصة كالتالي:

(سائح عربيّ من سوريا في الخمسينات من العمر على مدخل قصر الحمراء في إسبانيا. يلمح الدليلة السياحيّة القادمة إليه وهي تبدو في أوائل العشرينيات وأوّل ما يلفته فيها عيناها السوداوان)

الدليلة السياحية: أهلاً بك، سيدي.
الشاعر(بالإسبانية): Hola. eres española? أهلاً بك. هل أنت إسبانية؟
- نعم إسبانية. ومولودة في غرناطة!

(كلمة غرناطة كلمة ساحرة تستدعي في ذهن السائح تاريخَ العرب القديم في الأندلس / إسبانيا)

- وأنتَ من أين سيدي؟
- أنا من مدينة دمشق.
- دمشق؟ آسفة، لكن أين توجد دمشق؟

(السائح ينظر إلى الدليلة السياحية ويفكر: أين توجد دمشق؟ توجد في شعرك الأسود، وفي وجهك العربيّ، وفي ضحكتك المليئة بشموس بلادي... لا ليس في هذا فقط. دمشق توجد أيضاً هنا في هذا المكان: توجد في جنّات العريف، توجد في زهور الفلّ والرّيحان والكبّاد.. الدليلة السياحيّة تتابع المشي، وتدخل قصر الحمراء والسائح يمشي وراءها ويتأمل جمال شعرها الطويل الذي يبدو وكأنه كيان منفرد يلهث وراء صاحبته، ويرى أقراطاً لامعة في أذنيها، تذكّره بشموع ليلة عيد الميلاد، وتذكره بطفولته أيضاً... السائح يشعر بأنّ التاريخ مجرّد رماد هامد ويمشي خلف الدليلة مطيعاً كطفل.. يمشي متأملاً الزخرفات على الجدران ويحس بها نابضة ناطقة..

- انظر هذه الزخرفات الرائعة! هذه تحفة صاغها أجدادنا العظام! هذه فخر أمجادنا!

(أجدادك! أمجادك! هذه أمجادنا نحن! وهؤلاء أجدادي أنا! لكن أتعرفين؟ لا بأس، أنت أيضاً حفيدتي ووارثتي في الوقت نفسه.. هذا جرح قديم ولا مشكلة فيه، لكن الجرح الجديد هو الجرح النازف في بلادي هو ما يؤلمني).

- ها قد انتهت جولتنا السياحيّة، سيّدي!
- شكراً لك، آنستي.

(الدليلة الصغيرة تودّع السائح بعناق سريع، وتتمنى له يوماً جميلاً... والسائح يشعر أنه عانق طارق بن زياد فاتح الأندلس العظيم)!
____

- اعتراض: هل هذا إذن هو قصدك ببناء القصيدة؟
- جواب: نعم بالضبط. هذا هو بناء القصيدة. هو ببساطة الشكل الذي يجمع كل عناصرها مع بعضها البعض، وهو في قصيدة غرناطة شكل القصة.
- اعتراض: كل شيء ممكن!
- جواب: هل أعجبتك هذه القراءة؟
- اعتراض: أعجبتني نعم، لكن لا أعرف إذا أقنعتني أو لا... لكن قل لي ماذا سوف تقرأ لي في المرة القادمة؟
- جواب: لن أقرأ لك شيئاً، سوف أعطيك القصيدة الجديدة، وأنت سوف تقرأها لي!
- اعتراض: كيف أقرأها؟!
- جواب: بالطريقة نفسها. قراءة أولى لوضع الملاحظات والانطباعات والتذكّرات والجماليّات، وقراءة ثانية لاكتشاف بناء القصيدة أو شكلها.
- اعتراض: لست واثقاً من قدرتي على ذلك، ولكن سأحاول.
- جواب: كلّنا نحاول. أهمّ شيء هو المحاولة، فحين نتوقف عن المحاولة لا يمكننا أن نتعلم أو نتقدم.
- اعتراض: طيّب، أعطني القصيدة وأعطني يومين أو ثلاثة.
- جواب: سوف أعطيك أسبوعاً كاملاً يا صديقي، وهذا هو اسم القصيدة وشاعرها. ولا تنس أن تحصل على نسخة سليمة من النص قبل قراءته.
- اعتراض: حسناً.
- جواب: قصيدة (في انتظار السيف) للشاعر أمل دنقل. وإلى اللقاء.
- اعتراض: إلى اللقاء.


الجزء الثالث:

اتفقنا في المرة الماضية أن تكون قصيدتنا الجديدة هي (في انتظار السيف) للشاعر أمل دنقل. وقد حصلت على نصّ سليم من القصيدة، وأحببتُ أن أشارككم هذا النصّ حتى تكون القراءة مشتركة بيننا.

واتفقنا أنّ القصيدة يجب أن تُقرأ مرّتين على الأقل: في المرة الأولى ندوّن الملاحظات والأفكار والجماليات والأسئلة الخاصة بنا حول القصيدة، وفي القراءة الثانية نحاول أن نكتشف البناء الكامل للقصيدة والشكل الذي يجمع كل هذه الملاحظات والأفكار والجماليات معاً.

أتمنى من الجميع أن نتشارك أفكارنا جميعاً حول القصيدة عن طريق كتابة التعليقات أدناه، وأرجو ألا يشعر أحد بالخجل من كتابة أي ملاحظة أو فكرة مهما كانت بسيطة في تعليقه. والأهم هو أن نثير الأسئلة حول القصيدة، ونكون صريحين تماماً، فكلما كانت الأسئلة أكثر صراحة وجرأة كانت الفائدة أكبر.

__________
في انتظار السيف - الشاعر أمل دنقل
__________

وردةٌ في عروة السرَّةِ:
ماذا تلدين الآن؟
طفلاً .. أم جريمةْ؟
أم تنوحين على بوّابة القدس القديمةْ؟
عادت الخيل من المشرق،
عاد (الحسن الأعصم) والموت المغيرْ
بالرداء الأرجوانيّ، وبالوجه اللصوصيّ،
وبالسيف الأجيرْ
فانظري تمثاله الواقف فى الميدانِ ..
(يهتّز مع الريحِ.!)
انظري من فرجة الشبّاك:
أيدي صِبْيةٍ مقطوعةٌ ..
مرفوعةٌ.. فوق السّنانْ
(.. مُرْدفاً زوجته الحبلى على ظهر الحصانْ)
انظري خيط الدم القاني على الأرض:
((هنا مرّ .. هنا))
فانفقأت تحت خطى الجُندِ ...
عيون الماءِ،
واستلقت على التربةِ .. قاماتُ السنابلْ.
ثم .. ها نحن جياع الأرض نصطفُّ ..
لكى يُلقي لنا عهد الأمانْ.
ينقش السكة باسم الملك الغالب،
يلقي خطبة الجمعة باسم الملك الغالب،
يرقى منبر المسجد ..
بالسيف الذى يبقرُ أحشاءَ الحواملْ.
***

تلدين الآن من يحبو ..
فلا تسنده الأيدي،
ومن يمشي .. فلا يرفع عينيه إلى الناس،
ومن يخطفه النخّاس:
قد يصبح مملوكاً يلوطون به في القصر،
يلقون به في ساحة الحرب ..
لقاءَ النصر،
هذا قدرُ المهزوم:
لا أرضَ .. ولا مال.
ولا بيتَ يردُّ الباب فيه ..
دون أن يطرقه جابٍ ..
وجنديّ رأى زوجته الحسناء في البيت المقابلْ
أنظري أُمَّتكِ الأولى العظيمةْ
أصبحت: شرذمةً من جثث القتلى،
وشحّاذين يستجدون عطف السيف
والمال الذي ينثره الغازي ..
فيهوي ما تبقى من رجال ..
وأرومةْ.
أنظري ..
لا تفزعي من جرعة الخزي،
انظري ..
حتى تقيئي ما بأحشائك ..
من دفء الأمومةْ.
***

تقفز الأسواق يومين ..
وتعتاد على ((النقد)) الجديدْ
تشتكي الأضلاع يومين ..
وتعتاد على السوط الجديدْ
يسكت المذياع يومين
ويعتاد على الصوت الجديدْ
وأنا منتظرٌ.. جنب فراشِكْ
جالسٌ أرقب في حمّى ارتعاشِكْ
صرخة الطفل الذى يفتح عينيه ..
على مرأى الجنود!


قصيدتنا الثانية كانت قصيدة (في انتظار السيف) للشاعر أمل دنقل. وكان المطلوب أن نقرأ هذه القصيدة بالطريقة البسيطة المقترحة: قراءة أولى لوضع الملاحظات والجماليات والأسئلة، تمهيداً للقراءة الثانية التي تسعى لاكتشاف شكل القصيدة أو بنائها من خلال نتائج القراءة الأولى. وبعد ذلك سيساعدنا اكتشاف بناء القصيدة على فهمهما واكتشاف الهدف الجماليّ من كل جزء من أجزائها، وبالتالي القدرة على الاستمتاع بها كاملة، وعلى نقدها أيضاً.

ومن حسن حظي أن تفاعل مع القصيدة عدد من الأصدقاء مشكورين جداً، فوضعوا نتائج قراءتهم الأولى للقصيدة، وهي قراءات ممتازة، لذلك سوف أقف عند ملاحظة الأصدقاء هنا، محاولاً مناقشتها وتوسيعها. وسأبدأ فوراً بقراءة الصديق فايز السعدي وملاحظاته، وقد حاولت وضعها في نقاط لتسهيل الاستفادة منها:

- القصيدة تتحدث عن لحظة ولادة الطفل في زمن الهزيمة.
- الأسواق والأضلاع (البشر) والمذياع تعتاد على المحتل الجديد.
- ما هدف استحضار الحسن الأعصم؟
- هناك مواضع غير واضحة مثل:
الرداء الأرجواني؟ (لماذا هذا اللون؟)
التمثال الذي يهتز مع الريح؟ (تمثال من؟ لماذا يهتز؟ أي ريح؟)

ثم ملاحظات الصديق نديم عبد الهادي، وهي كالتالي:
- القصيدة خطاب موجّه إلى امرأة على وشك ولادة طفل.
- ليس للمهزوم أن يتكاثر، والشاعر يلوم المرأة على جريمة الولادة.
- في القصيدة جمل جميلة سهلة على الحفظ وهذا مما يميزها.
- الحسن الأعصم قائد قرمطي (نسبة للقرامطة) احتل القدس وحاصر القاهرة زمن الفاطميين.
- الشعب الواقع بين القرامطة والفاطميين، ومصيره.

ومن الواضح أنّ هناك نقاطاً مشتركة في القراءة الأولى للصديقين فايز ونديم، فالقراءتان تتفقان على أنّ القصيدة تتحدث عن لحظة ولادة طفل، وعلى أنّ هذه اللحظة هي لحظة هزيمة. وبينما يثير الصديق فايز أسئلة حول النصّ يحاول نديم أن يجيب على هذه الأسئلة: يتساءل فايز عن الحسن الأعصم وشخصيته، ويجيب نديم عن طريق البحث عن هذه الشخصية في التراث بأنّ الحسن الأعصم هو أحد قادة القرامطة المشهورين وكان قد احتل القدس وحاصر القاهرة زمن الفاطميين. ويشير كلا الصديقين إلى موقف الشعب مما يحدث حوله، وهو الواقع بين الفاطميين والقرامطة وكلاهما على ما يظهر في النصّ مجرّد محتلّ جديد.

وثمة ملاحظة مهمة من الصديق نديم، تتجاوز القراءة الأولى، قراءة وضع الملاحظات، إلى القراءة الثانية قراءة اكتشاف البناء، حين يقول إن القصيدة "خطاب موجه لامرأة حامل على وشك الوضع"، أي على وشك الولادة. وسوف أحاول استثمار هذه الملاحظة وتوسيعها كالتالي:

إذا افترضنا أنّ بناء القصيدة أو شكلها هو شكل الخطاب، فنحن نعرف أنّ كلّ خطاب لا بدّ أن يحتوي بعض العناصر الأساسية هي: المخاطِب، والمَخاطَب، ومناسبة الخطاب، ومحتوى الخطاب. فلنحاول أن نجد الأجوبة على هذه الأسئلة من نصّ القصيدة:

1- المخاطِب:
وهذا هو أهمّ عناصر الخطاب. وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ الشاعر هو الذي يخاطب المرأة، ولكنّ هذا ليس صحيحاً، فالمخاطِب هنا هو زوج المرأة.
- اعتراض: زوج المرأة؟!
- جواب: أجل.
- اعتراض: وكيف عرفت.
- جواب: من عدّة جمل في القصيدة مثل:
(.. مُرْدفاً زوجته الحبلى على ظهر الحصانْ)
وهنا يضع الشاعر هذه الجملة بين قوسين كما يفعل كُتّاب المسرحية حين يريدون توضيح حالة المتكلم.
- اعتراض: هل هناك جمل أخرى؟
- جواب: نعم. انظر إلى خاتمة القصيدة التي تقول:
وأنا منتظرٌ.. جنب فراشِكْ
جالسٌ أرقب في حمّى ارتعاشِكْ
صرخة الطفل الذى يفتح عينيه ..
على مرأى الجنود!

فأيّ رجل سوف يجلس بجوار امرأة على وشك الولادة في زمن الحرب إلا زوجها؟
- اعتراض: حسناً، هذا مقنع.
- جواب: شكراً لك.

2- المخاطَب، ومن الواضح هنا أنّ المخاطَبة هي الامرأة الحامل.

3- مناسبة الخطاب، وقد أشار الصديقان فايز ونديم إلى المناسبة وهي الهزيمة، ويمكن أن نقول إنّ المناسبة هي دخول الجنود الجدد إلى المدينة.

4- محتوى الخطاب، وهو ما سيتوضح لنا تدريجياً.

لكن يجب علينا أن نفكر في طبيعة هذا الخطاب الموجود هنا: هل هو رسالة خطية؟ بالطبع لا. الخطاب هنا هو خطاب شفويّ يوجّهه الرجل إلى زوجته، وعندما نقول إن الخطاب خطاب شفويّ فهذا يعني أنّه يشبه مشهداً في مسرحية أو فيلم، وهكذا ندخل إلى عالم الإخراج والتصوير. فلنحاول أن ننظر كيف يصوّر مُخرج القصيدة هذا المشهد السينمائي. ولننظر كيف تبدأ كاميرا الشاعر حركتها:
وردةٌ في عروة السرَّةِ


السّرّة: هي مكان خروج الطفل. والكاميرا تبدأ من ذلك المكان، الذي يبدو في لحظة الولادة وكأنه وردة.

لكن الكاميرا لا تتركنا طويلاً عند هذه الوردة بل يدخل الصوت مباشرة إلى المشهد:

ماذا تلدين الآن؟
طفلاً .. أم جريمةْ؟
أم تنوحين على بوّابة القدس القديمةْ؟


ثم تنتقل الكاميرا إلى مكان آخر.. إلى مشهد الجنود الداخلين إلى المدينة على خيولهم المُغيرة، وبلباسهم الأرجواني، لباس اللصوص، وسيوفهم الأجيرة المسلولة:

عادت الخيل من المشرق،
عاد (الحسن الأعصم) والموت المغيرْ
بالرداء الأرجوانيّ، وبالوجه اللصوصيّ،
وبالسيف الأجيرْ


ثم يعود الصوت مرة أخرى، صوت الزوج مخاطباً زوجته:

فانظري تمثاله الواقف فى الميدانِ ..
(يهتّز مع الريحِ.!)
انظري من فرجة الشبّاك:
أيدي صِبْيةٍ مقطوعةٌ ..
مرفوعةٌ.. فوق السّنانْ


- اعتراض: أيّ تمثال هذا الذي يهتزّ؟
- جواب: هل يمكنك أن تتخيل معي..
- اعتراض: لا أدري، لكني أتخيل صورة تمثال صدّام حسين لحظة اهتزازه ثم سقوطه. هل يمكن أن يكون التمثال هنا أيضاً هو تمثال الزعيم السابق قبل دخول الحسن الأعصم وجنوده إلى المدينة.
- جواب: لمَ لا؟ هذا يبدو مناسباً جداً.
- اعتراض: لكن الصور القادمة وحشية جداً: أيدي الأطفال المقطوعة مرفوعة فوق الرماح.
- جواب: نعم صور وحشية. وبعدها صور أكثر وحشية أيضاً.
- اعتراض: نعم، هذا واضح. لكن قل لي من أي زاوية تلتقط الكاميرا هذا المشهد المرعب وهذه الصور الوحشية؟
- جواب: أعتقد أنها كاميرا متحركة تلتقط الصورة عن ظهر الحصان.
- اعتراض: أيّ حصان.
- جواب: الحصان الذي يركبه الرجل والمرأة خلفه. (.. مُرْدفاً زوجته الحبلى على ظهر الحصانْ)
- اعتراض: كنت أظنّ أن الرجل وزوجته في مستشفى، أو ربما عند الفراش في البيت.
- جواب: هذا صحيح في بعض أجزاء المشهد، ربما في آخر القصيدة بعد يومين، أما هنا فكما ترى المشهد متحرك، والكاميرا تنتقل من مكان لآخر.

يواصِل صوت الرّجل - بالتزامن مع عدسة الكاميرا - التقاط المشاهد الفاجعة لهذه المدينة المهزومة: أيدي الأطفال المقطوعة، خيط الدم الأحمر على الأرض، وآثار مرور أقدام الجنود المدمّرة على السنابل وعلى عيون الماء.

وبعد أن ترصد الكاميرا آثار الجنود على الطبيعة بمائها وحقولها، تعود لترصد جموع الشعب بعد سقوط مدينتهم بيد الفاتح الجديد:

ثم .. ها نحن جياع الأرض نصطفُّ ..
لكى يُلقي لنا عهد الأمانْ.
ينقش السكة باسم الملك الغالب،
يلقي خطبة الجمعة باسم الملك الغالب،
يرقى منبر المسجد ..
بالسيف الذى يبقرُ أحشاءَ الحواملْ.


وهكذا يبدأ العهد الجديد، بإلقاء عهد الأمان للشعب، وباكتساب الشرعية الاقتصادية والدينية، وإن كانت شرعية دموية.

وبعد أن عرضت لنا الكاميرا هذه المشاهد، يدخل الرجل في حديث داخليّ مع النفس، (وهو ما يُسميه المتخصصون المونولوج الداخلي)، فيتخيل الرجل طفله القادم وكيف ستكون حياته القادمة.. فيتخيله طفلاً ذليلاً كسيراً، ثم رجلاً قد يصبح خادماً عبداً في قصر أو جندياً أشبه بالعبد، أو زوجاً عاجزاً عن منح الأمان لزوجته، وهذا هو قدر المهزوم:

تلدين الآن من يحبو ..
فلا تسنده الأيدي،
ومن يمشي .. فلا يرفع عينيه إلى الناس،
ومن يخطفه النخّاس:
قد يصبح مملوكاً يلوطون به في القصر،
يلقون به في ساحة الحرب ..
لقاءَ النصر،
هذا قدرُ المهزوم:
لا أرضَ .. ولا مال.
ولا بيتَ يردُّ الباب فيه ..
دون أن يطرقه جابٍ ..
وجنديّ رأى زوجته الحسناء في البيت المقابلْ


وبعد حديث النفس الطويل يصحو الرجل من أحلام يقظته المفزعة، ويعود موجّهاً الحديث لزوجته، فيطالبها بتذكّر الماضي العظيم لأمّتهما، ويصبّ غضبه على الحال الذليل الذي وصلت إليه هذه الأمّة والخزي الذي تعيشه:

أنظري أُمَّتكِ الأولى العظيمةْ
أصبحت: شرذمةً من جثث القتلى،
وشحّاذين يستجدون عطف السيف
والمال الذي ينثره الغازي ..
فيهوي ما تبقى من رجال ..
وأرومةْ.
أنظري ..
لا تفزعي من جرعة الخزي،
انظري ..
حتى تقيئي ما بأحشائك ..
من دفء الأمومةْ.


إنّ هذا هو ما يتمناه الرجل فعلاً، ألا يبصر ابنه النور أبداً، ولا يأتي لمصيره الأسود..

لكن الكاميرا تعود بنا لترصد أحوال المدينة بعد يومين من دخول الجنود للمدينة، حيث تعود الحياة إلى طبيعتها، ويستعيد سكان المدينة نشاطهم السابق:

تقفز الأسواق يومين ..
وتعتاد على (النقد) الجديدْ
تشتكي الأضلاع يومين ..
وتعتاد على السوط الجديدْ
يسكت المذياع يومين
ويعتاد على الصوت الجديدْ


أما الرجل صاحبنا فترصده الكاميرا جالساً قرب فراش زوجته التي حانت ولادتها الحقيقية، يستمع إلى صرخة مولوده الجديد:

وأنا منتظرٌ.. جنب فراشِكْ
جالسٌ أرقب في حمّى ارتعاشِكْ
صرخة الطفل الذى يفتح عينيه ..
على مرأى الجنود!

_________

تبدو لنا القصيدة إذن أشبه ما تكون بمسرحية قصيرة، أو مشاهد قصيرة من فيلم بطله الإنسان البسيط في زمن الحروب والدمار والفوضى..

* ملاحظة: عندما يتحدث المتخصصون عن هذه القصيدة سوف يقفون عند شخصية الحسن الأعصم، ويتحدثون عن الرمز الشعريّ وكيفية توظيفه في القصيدة. وسوف يشير بعضهم إلى التناصّ مع الكتاب المقدس في (هنا مرّ .. هنا).. وسوف يتحدثون عن تفاصيل أخرى كثيرة، هي مفيدة بكل تأكيد ولكنها ليست ضرورية لفهم القصيدة والاستمتاع بها كما رأينا.
_________

مع نهاية هذا الجزء الثالث من سلسلتنا، أظنّ أن الفكرة قد باتت أكثر وضوحاً: قراءة أولى لوضع الملاحظات والأسئلة، وقراءة ثانية لاكتشاف البناء والشكل، ثم عودة للقصيدة لاكتشافها في ضوء شكلها الجديد.




(نشرت للمرة الأولى على شكل سلسلة مقالات في صفحة قصة وشعر على فيسبوك في سنة 2014)




الآراء (0)