الموقف من التراث في الشعر العربي المعاصر - إحسان عباس | القصيدة.كوم

كتبت عام: 1978


374



الموقف من التراث في الشعر العربي المعاصر


في موقف الشاعر من التراث تتضح معالم الثورة، ومن ثم الحداثة - بأكثر مما تتضح في موقفه من الزمن أو من المدينة، وإن كان المفهوم المطلق للحداثة يفترض أن تربط المواقف الثلاثة معا، متكاملة. وقد كانت الثورة التي قام بها الشاعر المعاصر - على الشكل الشعري، أول الأمر - خطوة تمهيدية، لم تغير كثيرا من طبيعة الشعر، وإن غيرت في بعض موضوعاته ومجالاته، ووسعت من حدوده لتقبل تيارات معاصرة مختلفة، فلما أخذ الشاعر يتساءل عن مدى ارتباطه بالتراث - ومن ثم بالماضي وبالتاريخ - أصبح على أبواب ثورة جديدة تشكك في مدى أهمية ما حققته الثورة على الشكل.

ونظرا لأهمية هذا الموقف وحساسيته البالغة لا بد من أن يعالج في هدوء وأناة، وفي سبيل ذلك لا بد من أن تقرر أوليات ضرورية، فمن الواضح - وذلك أمر متصل بالبدهيات - أن الذين يدعون إلى الثورة على التراث يدركون مدى حضور الماضي في الحضارة الحديثة - عمدا لا عفوا - في صورة معالم أثرية كبرى ومدونات كتابية ومتاحف وبحث عن الآثار ومناهج جامعية لدراسة تاريخ كل شيء: (تاريخ الفلسفة، تاريخ العلوم، تاريخ الأدب، تاريخ الاقتصاد...) وغير ذلك من صور تجعل الماضي حيا في الحاضر، ليقل من شاء: هذه "رومنطقية"، ولكنها رومنطقية إنسانية، ليست وقفا على الأمة العربية، تنبع من رغبة الإنسان المستقرة في أعماقه في أن يعيش زمنين (مرة أخرى مشكلة الزمن) إذا استطاع، بدلا من زمن واحد، بل إن المرء ليحس أحيانا، وهو يقارن - من هذه الناحية - حضور الماضي في الحاضر، أن الأمة العربية من أقل الأمم احتفالا بحضور هذا الماضي، لأنها تشمله - في الغالب - بإهمال وقلة مبالاة. ومن الواضح كذلك - وهذا أيضا من بديهيات الحركة التاريخية - أن الإنسان المعاصر، في ظل النوازع القومية المتعددة، قد انتقل من واقع التاريخ إلى تبني "الأسطورة التاريخية" واستخدامها حافزا في تقوية "التكاتف الاجتماعي" في الأمة الواحدة، وان ذلك كان يمتد من مبدأ الإيمان بإرادة القوة، إلى الخروج من حال الضعف والتفكك والتخلف، إلى التغطية على معالم التخلف والتفكك والضعف (واستعارة صبغة خارجية رقيقة ملساء) لاستشعار قوة وهمية، وأن الثورة على التراث إنما تمثل نفورا من هذه الأسطورة التاريخية، أو ثورة على استغلال المشاعر القومية عن طريق هذا التزوير الصارخ وهذا حق لها لا ينكر، ولكن الثورة - في اندفاعها - قد تقع في أخطاء مماثلة، فهي بدلا من أن تقتصر على شجب الأسطورة التاريخية تشمل بندها المندفع التاريخ نفسه، وهي في هذا الاندفاع أيضا تخلق لنفسها أسطورة تاريخية مكافئة. فهي قد تلجأ - وأمثلتي هنا مستمدة من التاريخ الإسلامي العربي - إلى عد كل حركة معارضة للنظام القائم ثورة إصلاحية، وبذلك تستوي في ميزانها الجديد: ثورة الزنج وثورة الحزمية - مثلا -، فبينما كانت الأولى انتفاضة ضد العبودية والسخرة، كانت الثانية حركة عنصرية دينية - في آن -، ومنذ بندلي الجوزي استغل هذا المفهوم الفضفاض لتفسير حركة التاريخ، وبذلك توفر لدينا أسطورة تاريخية جديدة، وحين لم يميز الشاعر الحديث بين الأسطورتين حكم على التاريخ بأسطورتيه الاثنتين، فاختار إحداهما لأنها أقرب إلى واقعه الاجتماعي (1)، أو أنكرهما معا في بعض الأحايين، ولجأ إلى الأسطورة المطلقة اللاتاريخية (أورفيوس، أدونيس، أوزوريس، فينيق، عشتار ..إلخ).

ومن الواضح أيضا - وهذا من البدهيات الممهورة بالسذاجة - أن للماضي حضورا حتميا لا تستطيع أية ثورة أن تنفيه - لأنه أرسخ من "الأهرام" وأكثر سموقا واستعصاء على الهدم - وأبرز شاهد على ذلك هو اللغة وغير خاف أن الشاعر الحديث لا يريد أن ينكر اللغة، وإلا لم يكن شاعرا عربيا - بكل ما يحمله هذا الوصف من مميزات لغوية - ولكنه إنما يعني التحول بها، إلى مستوى يحقق ذاتيته، ويطبع على تاريخ اللغة ختمه، ويفرده بدور يبدو فيه وجوده شاهقا في تيار الزمن (مرة أخرى مشكلة الزمن) ، وأنا - مع احترامي للمحافظين - لا أجد في هذا أية تنكر للتراث؟ كما تمثله اللغة - إذ اللغة في مستواها الأولي أداة للتفاهم - هذا حق - ولكنها في مستواها الآخر، أو في مستوياتها الأخرى، محض رموز، ابتداء من المستوى الجبري وانتهاء بالمستوى الشعري، ومن حق الشاعر أن يختار الشكل التعبيري الذي يظنه صالحا، مفهوما كان أو غير مفهوم - لأن عملية الفهم لا تدخل في نطاق المستوى المختار، وإنما تدخل في نطاق الطبقة التي تتلقى ما يقال، وهي قادرة على أن تقبل أو ترفض، إذ بمثل ما حق للشاعر مطلق الحرية في التعبير، فإنه لا بد من أن يحق للطبقة المتلقية حق الرفض أو القبول. ولكن يبقى شيء يدركه الشاعر - دون ريب - ولا أظن أحدا ينكره، وهو أن الشاعر لا يخلق اللغة - مهما يحاول التحول بها، وإفراغها من دلالاتها الثابتة، وأن هذه اللغة على اتساع نطاقها وتوسيع الشاعر لهذا النطاق تظل "صدارة ضيقة"، تخضع الشاعر دون أن يدري في حيز التركيب المألوف، والمسافات اللفظية المحددة، ولا بأس من أن أورد - في هذا الصدد - رأي الناقد الفرنسي دونالد بارتDonald Barthes وهو من أكثر النقاد تعاطفا مع الشعر الحديث، يتحدث بارت - بما يذكر برأي لأدونيس في بعض مقالاته: -

"إن الفرق بين الشعر الكلاسيكي والحديث: أن الشعر الكلاسيكي يبدأ بالفكرة الجاهزة ثم يحاول أن يعبر عنها أو بترجمتها، وأن الشعر الحديث - على النقيض من ذلك، إنما تكون العلاقات فيه امتدادا للفظة، حتى لكأن اللفظة "عمل" ليس له ماض مباشر، ويقول أيضا: "إن اللغة ليست أبدا بريئة، فالكلمات ذات ذاكرة ثانية تظل تلح على مثولها من خلال المعاني الجديدة، والكتابة بدقة هي هذه المصالحة بين الحرية والتذكر، إنها الحرية التي تتذكر، وليست حرة إلا في لحظة الاختيار..." (2).

ولو أننا قرأنا شعر أشد الثائرين على "لغة القبيلة" أعني أدونيس، لوجدنا أن ذلك الشعر يسقط أحيانا في ذلك الحيز نفسه، فيتحدث في استرسال ووضوح ومنطقية عقلانية في مثل قوله:

يا أيها الممثِّل المستورُ يا صوفيَّنا الكبير
ها نحنُ ذاهبونْ
ويعلمُ الله متى نجيءْ
نعرفُ أنّ الليلَ سوف يبقى
نعرفُ أنّ الشمسَ سوف تبقى
لكننا نجهلُ ما يكونْ
من أمر قاسيونْ

بل هو يكاد يسمح لبعض الصور التراثية بأن تتسلل إلى داخله حين يقول:
"يا يدَ الموت أطيلي حبْلَ دربي"
وحين يتحدث عن قاسيون: "وقاسَيون حارسٌ كالدّهر لا ينامْ" يذكر بصورة الجبل عند ابن خفاجة الأندلسي، وحين يقول "ألزمنُ استيقظَ والنهارْ / يصرخ بالأغصان والجذورْ" فمن السهل أن ترد الصورتان إلى علاقتهما القديمة، أعني يقظة الزمن وصراخ النهار (ليل يصبح بجانبيه نهار) ، بل إن بعض صوره الجديدة يتصل بطبيعة الألغاز والأحاجي القديمة: "ثدي النملة يفرز حليبه ويغسل الإسكندر"، بل أنه أحيانا يستعير - كما يفعل أي شاعر - لغة غيره، فيردد عبارة سان جون بيرس ومن قبله بودلير، حين يقول "الليل يتخثَّر" (3) وليس قوله: "وفوق جثثِ العصافير تدبُّ طفولةُ النهار" (4) إلا ترجمة تكاد تكون حرفية لقول سان جون بيرس أيضا: "على هياكل العصافير القزمة ترحل طفولة النهار" (5) ، ومن الممكن إضافة تعبيرات أخرى، وكل ما أعنيه هنا: أن أشد الشعراء أصالة وتفردا، يحور إلى موروث، ويقع في ما يسميه بارت "التذكر"، وأن الانفراد المطلق أمر يعز على أي إنسان، إلا إذا شاء إلا يقيم أية علاقات بين الألفاظ.

ولكن أدونيس يخلق شيئا جديدا دون ريب، في الجزئيات والكليات من شعره، حين يحدث علاقات ودلالات وصورا تحمل وسمه وذاتيته، غير أن هذه هي مهمة الشاعر الحق منذ هوميرس وليس فيها من الجدة إلا ذلك المقدار من إعادة التفسير لطبيعة العلاقة بين الشعر والتراث، إذ من الواضح كذلك أن الشعر كان من أبطأ النشاطات الإنسانية وقوفا ضد التراث، أو تنكرا له، بل كان تراثيا إلى حد بعيد، لا في الأدب العربي وحده بل في آداب الأمم الأخرى، فثورة الشعر على اللغة - من حيث هي مؤسسة تراثية - ليست في الحقيقة ثورة على التقليد، إذ التقليد في كل عصر يدين نفسه بنفسه، ولا يستحق ثورة إلا عندما يصبح قاعدة، في أشد عصور الشعر جفافا ومحلا، وإنما هي ثورة على المادة، كما يقول سان جون بيرس - ثورة على الجانب غير الحتمي من اللغة، أعني أنها دعوة لخلق عالم شعري مواز لهذا العالم، من خلال إنشاء علاقات تعبيرية وتصويرية جديدة، وهي على ما فيها من طموح بالغ، مرهونة بالنجاح أو بالإخفاق، وبينما تجد لها أنصارا كثيرين، تجد أيضا من ينكرونها، يقول أحد النقاد المحدثين: "يغدو الأدب أكثر حياة وتتدفق الدماء في عروقه كلما اقترب من الكلام" وحين تضيع التقاليد التراثية من الشعر يصبح متقطعا غير استمراري، كأنه معجم ينثر الأسماء دون علاقات، أو انفجارا من كلمات غير متوقعة تتطاير هنا وهناك، ويقف بشراسة ضد المهمة الاجتماعية للغة، بعبارة أخرى: إن الشاعر الحديث الذي يؤمن بالثورة على التراث، لا يريد أن يقف عند حدود التطور الطبيعي للغة، بل يريد أن يطورها - عامدا - من خلال منظوره الخاص، رافضا كل قيمة تفرض عليه من الخارج، ومن ثم ارتبط الشعر بقانون التطور والتحول، حتى غدا الشاعر في مسابقة مع الزمن، ومسابقة مع شعره نفسه وأصبح التطور لا يعني انتقال سمات مذهب شعري - في حقبة ما - إلى سمات مذهب آخر - في حقبة أخرى، بل أصبح حركة متسارعة بعدد الأفراد الذين يقولون الشعر، وبذلك قضي على فكرة "الخلود" الكلاسيكية، وأصبح التميز - في الدائرة الشعرية - مرحليا. وصحب هذا كله إيمان بإن كل قيمة ثابتة - أيا كان منبتها ومهما تكن مدة ثباتها - فهي تشير إلى الركود أو التخلف والجمود، سواء أكانت تلك القيم تتصل بالدين أو بنمط حياة أو طريقة تفكير، وكان هذا الوجه من النظر يصيب أكثر ما يصيب مؤسسة قائمة على ثوابت ضرورية مثل الدين - وخاصة الدين الإسلامي في صورته السنية - من حيث أنه صورة كبيرة من صور التراث، والحق أن الإنسان الحديث حين يعتقد أنه يعيش في كون قد غابت عنه الألوهية، فإنه لا بد أن يعيد النظرة في كثير من القيم التي كانت تتصل بالنواحي الغيبية، ولكن الإسلام ليس قاصرا على هذا الجانب، وإنما هو أيضا نظام حياة وأسلوب تنظيم، ربما أن التنظيم يعني ثبات قيم معينة، فإن الثورة على التراث كانت تتناول هذا الجانب منه أيضا. ومن الواضح أن العالم الذي قد يتخلى عن الدين لا يطرح بدائل، وأن المفكر الذي يطرح بديلا لما يريد تقويضه نوعان: نوع ثائر من خلال هذا الدين، والبديل الفكري الذي يطرحه يفترض مستوى موحدا من الثقافة ليكون قابلا للفهم والاستيعاب، ونوع ثائر على هذا الدين من إطار دين آخر، وغايته مدخولة لأن ثورته تبدو استمرارا للحركة التبشيرية، أما الشاعر الذي يعتمد على الحدس، فلا يستطيع أن يطرح بديلا سوى الشعر، وما دام هذا البديل الحدسي غير مرتبط بالتجربة العلمية، فإنه لا يصلح أن يكون كذلك، فمجرد الدعوة إلى الهدم المطلق - دون تحديد وتعديل - أو الرفض المطلق - دون مبنى فكري متكامل - بعد حركة نهلستية تنشب المجتمع في الفوضى.

بعد هذه المقدمات يمكن أن نسأل: كيف موقف الشعر العربي المعاصر من التراث - على أرض الواقع -؟ تقتضي الإجابة على هذا السؤال أن نميز بين نوعين من المواقف: الموقف الفكري والموقف الشعري (أي المعبر عنه شعرا) وبين نوعين من التراث، التراث الشعري بخاصة والتراث الحضاري بعامة.

أما في الموقف الفكري فقد شارك بعض الشعراء سائر المفكرين الذين تناولوا هذه القضية في تحديد موقفهم منها (6)، فذهب صلاح عبد الصبور إلى أن من العسير على الشاعر أن يتجرد كليا من التراث، وهو يرى أن الشاعر العظيم هو الذي يستطيع أن يتجاوز التراث مضيفا إليه شيئا جديدا. وتحدث أدونيس في مواضع كثيرة من كتابه "زمن الشعر" عن التراث، وخلاصة رأيه: "يجب أن نميز في التراث بين مستويين: الغور والسطح. السطح هنا يمثل الأفكار والمواقف والأشكال، أما الغور فيمثل التفجر، التطلع، التغير، الثورة، لذلك ليست مسألة الغور أن نتجاوزه، بل أن ننصهر فيه... الشاعر الجديد - إذن - منغرس في تراثه، أي في الغور، لكنه في الوقت ذاته منفصل عنه. إنه متأصل لكنه ممدود في جميع الآفاق" (7) وكما فعل أبو تمام في القديم حين اتهم بأنه خرج عن عمود الشعر (أي عن التراث الشعري) فجمع ديوان الحماسة ليثبت ما يعجبه في الشعر القديم، كذلك فعل كل من صلاح عبد الصبور وأدونيس، حين اعتمد كل منهما ذوقه الذاتي في صنع مختارات - صالحة للبقاء - من الشعر العربي القديم أيضا.

وأما في الموقف الشعري (أي في التعبير عن الموقف من التراث شعرا) فإن الشعراء يتفاوتون بشدة، فهناك من يؤمنون بالتراث ويعتزون به مثل توفيق زياد الذي إن كسر الردى ظهره سنده "بصوانة من صخر حطين"، وهناك الذين يتوقعون إلى التغيير الحضاري، ولكنهم لا يدينون الماضي، وإنما يدينون "تعهر" الماضي بين يدي السادة في الحاضر، ومن هؤلاء الشعراء محمود درويش في قوله:

نعرفُ القصة من أوَّلها
وصلاح الدين في سوق الشعارات،
وخالدْ
بيع في النادي المسائّي
بخلخال امرأهْ!

فمحمود يميل إلى محاكمة الحاضر، وفضح أساليبه، وهو في هذا يختلف عن سميح القاسم الذي تتعرض علاقته بالماضي إلى الاهتزازات المتتالية. فبينما تجده حينا يهتز بالتراث وبالماضي:

دم أسلافي القدامى لم يزل يقطرُ مني
وصهيل الخيل ما زال، وتقريع السيوفْ
وأنا أحملُ شمساً في يميني وأطوف
في مغاليقِ الدجى.. جرحاً يغني!!

ويستمد القوة من كل أنواع التراث:

ما دامت مخطوطة أشعار
وحكايا عنترة العبسي ..
وحروب الدعوة في أرض الرومان وفي أرض الفرسِ

أُعلنها .. حرباً شعواء
باسم الأحرار الشرفاء

وبينما هو ينعى التخلف الحاضر في مقابل "خضرة الماضي الرحيمة" ويقبل "كل نصب المجد بين مقابر الأجداد" ويعدد أمجاد الماضي بزهو واعتداد:

عمّرتُ في شيرازَ قصراً
وابتنيتُ بأصبهان
ردهات معرفةٍ،
وعدتُ الى الحجاز بطيليسانْ
وعلى دمشق رفعتُ رايات النهار، مع الأذان
وجعلت حاضرة الكنانهْ
في تاج مولانا المعزِّ، جعلتُها أغلى جُمانه....
....
وبنيتُ جامعةً، ومكتبةً، ونسّقتُ الحدائق
وهتفت:
يا أحفاد طارق.
كونوا المنائر .. واغسلوا أجفان أوروبا البهيمه.

أقول: بينما هو كذلك إذا به يحس أنه قد خدع بالأسطورة التاريخية التي زورها، ويعلن عن سأم الأطفال من تكرار سماع هذه الأسطورة:

أطفالنا ملوا البطولات المكررة القديمه
سئموا سروجاً كالحاتٍ،
صار فارسُها الغبار!
عافوا سيوفاً لاكها الزنجار، والذكرى السقيمه!

إن وقفة الوداع بين سميح والماضي، بينه وبين الأب الذي صنع ذلك الماضي، مشحونة بالأسى، ولا تبدو - لشدة الترفق والحنو – حاسمة:

فلا تغضب، ولا تعتب
إذا أغلقت أبوابي بوجه الأمس
..........
وان قبلت نصب الرمس
لآخر مرة في العمر... نصب الرمس

ومن ثم يجعل وجهته نحو الغد: نحو العلم وراية الحرية، لأن أنقاض التاريخ لا تستطيع أن تسد مسدها، وهكذا تم الانفصال، لقد طالت بسميح رؤية الحاضر على ضوء الماضي، ومحاولة المقارنة واستخراج العبرة الملائمة، وكانت تنتابه ثورة جارفة أحيانا على ذلك الماضي - وخاصة في الأزمات - فيصرخ:

يا أبي المهزومَ .. يا أمي الذليله!
إنني أقذفُ للشيطان، ما أورثتماني،
من تعاليم القبيله!

ولكنه ظل يؤمن بأنه إلى "تاريخ عظيم" علقت بنعله بعض الوحول، ولهذا كانت معاناته شديدة حين قرر الانفصال، وأعلن - في النهاية - عن "مقتل التاريخ" إلا أنه - فيما يبدو - لا يزال يحس بأن الصلة لا يمكن أن تنقطع، لأن التوجه إلى الغد لا يعني رفض الماضي.

وأما أدونيس فإنه يطيل الوقوف عند الجوانب السلبية في تاريخنا، حتى لتبدو لهجته رفضا كليا لا علاقة كبيرة بينه وبين ذلك الصوت الذي يتجه نحو الاعتدال، والذي اقتبسته فيما تقدم، ومن أمثلة ذلك قوله في قصيدته المنثورة "مرثية الأيام الحاضرة":

في أيّةِ جداولَ بحريّةٍ نغسلُ تاريخَنا المضمّخَ بمسكِ العوانسِ والأراملِ العائداتِ من الحجِّ الملوَّثِ بعَرَقِ الدروايشِ
حيث تنخطفُ السراويلُ وتحظى بربيعها جرادةُ الروح

ولا ريب في أن نظرة أدونيس إلى الماضي متصلة بمبدأي الرفض والتحول المتلازمين، وفي إطار نظرته الكلية إلى الزمن يمكن أن تفهم حقيقة موقفه من التراث، ولعلني أعود إلى الحديث عن موقفه من التاريخ - عامة - فيما يلي.

وعند الحديث عن علاقة الشاعر المعاصر بالتراث الشعري نرى تفاوتا واضحا كذلك حقا أن اللجوء إلى الشكل الشعري الجديد كان يمثل محاولة للتحرر من الشكل القديم، وقد استطاع هذا الشكل أن يمنح الشاعر حرية في الحركة والاختيار، والتخفيف من رتابة الوزن والقافية، وخلق صور ورموز، والتغلغل إلى ضروب الصراع في الحضارة الحديثة، ولكن ما يزال بعض الشعراء الذين اختاروا هذا الشكل يميلون إلى استعمال الشكل القديم، وما تزال للقافية سيطرة هامة، بل أن الشاعر أحيانا يركب من أجلها نهايات قلقة في سطور قصيدته، كما أن الرتابة عادت تستولي على جانب كبير من هذا الشعر لقلة الأبحر الشعرية التي تصلح للتنويع في التفعيلات. وبينما يحاول بعض الشعراء إيجاد لغة شعرية جديدة - كل بمفرده - نجد أن بعضا آخر منهم ما يزال يستعين بالصور المعروفة المألوفة، والموضوعات المألوفة. فالهجائية القديمة - مثلا - ما تزال كذلك في حدتها وعنفها وتعميمها وإن أصبحت تدور حول السياسي المنحرف والشاعر المتملق، كل هذا يحدث اختيارا، عدا ذلك الجانب اللغوي الحتمي الذي أشرت إليه فيما سبق، ولهذا يمكن القول - على وجه اليقين لا إرضاء لمحبي التراث - أن هذا الشعر لم يستطع أن يتجاوز التراث الشعري القديم إلا قليلا. ولعل هذا أن يكون وضعا طبيعيا، فإن تصور الشاعر لجمهوره - مسبقا - هو الذي يحدد مدى تراثيته أو مدى تجاوزه للتراث، وبين هؤلاء الشعراء من يؤمن أن الشعر فعالية إنسانية لا بد من أن تؤدي دورها في إيقاظ المجتمع، وفي هذا الصدد تصبح مخاطبة المجتمع - أو الجمهور - وصلا لهذا الشعر بالتراث، حتى يستطيع ذلك المجتمع - أو الجمهور - التراثي في نزعته قادرا على تذوقه والتأثر به.

وأما عن موقف الشاعر الحديث من التراث الحضاري بعامة، فإن الحديث عنه يستلزم أن نوسع من مدلول التراث ومجاله، إذ هو لم يعد تراثا عربيا إسلاميا، وحسب، وإنما غدا تراثا إنسانيا - من بعض الجوانب - والشاعر الحديث يتعامل مع هذا التراث من زوايا مختلفة، نستطيع أن نعد منها أربعا (8)، على أن نتذكر أنها ليست متساوية في الأهمية، وأن الشاعر قد يستعملها جميعا، وقد يقتصر على بعضها، وهذه الزوايا هي:

1- التراث الشعبي
2- الأقنعة
3- المرايا
4- التراث الأسطوري


1- التراث الشعبي:

يمكن أن يضم هذا التراث الناحية الأسطورية، وأن يؤدي دور الرمز، ولكني أفرده بالنظر، اعتمادا على الطريقة التي تم بها - في الواقع - استخدامه في الشعر الحديث. وللتراث الشعبي ميزة هامة، لأنه تراث قريب حي، وحين يلجأ إليه الشاعر لا يحس أنه مثقل بما في الماضي الطويل من خلافات ومشكلات، وقد وضح هذا بقوة في الأعمال المسرحية، فلو فرضنا أن مسرحيا كتب روايته الشعرية عن زهران (أو الفتى مهران) أو عن جميلة بوحيرد أو عن طانيوس شاهين، أو عن أمثال هؤلاء (مثل عبد الكريم الخطابي أو عمر المختار أو عز الدين القسام) لكان بذلك يختار "بطلا" ممثلا لظرف تاريخي لا يدور حوله خلاف كبير، بينما إذا اختار الحلاج أو الحجاج أو محمودا الغزنوي أو الغزالي فإنه لا بد أن يبذل جهدا مضاعفا، لتخطي الحقائق التاريخية الراسخة في النفوس - على اختلاف في هذه الحقائق - لدى مشاهدي مسرحيته.

وتكمن الجاذبية في التراث الشعبي في أنه يمثل جسرا ممتدا بين الشاعر والناس من حوله، فهو بذلك يؤدي دور المسرحية - إلى حد ما - في إيقاظ الشعور القومي وإبقائه حيا، ولهذا لا غرابة أن نجد الإقبال على هذا اللون التراثي كبيرا عند بعض شعراء الأرض المحتلة، وخاصة عند توفيق زياد وسميح القاسم، حيث يتسع صدر الشعر للفظة الدارجة، والمثل الشعبي، والعادات الشعبية، والأغاني، فهناك إحساس بأن الاتكاء على هذا التراث، لا يكفل التجاوب الأوسع مع ذلك الشعر وحسب، بل يقدم أيضا شهادة على الاعتزاز بالموروث المشترك، ويكشف عن خوف دخيل من ضياع رابطة تعد مقدسة، حين تتعرض أقلية ما للانصهار في إبقائه واستدامة تأثيره: حينا بجعله ركيزة هامة في الشعر، وحينا بجمعه وتفسيره، وحينا ثالثا بترجمته إلى اللغة الفصحى.

وتمثل الأغنية الشعبية منعطفا هاما في قصيدة سميح، بل هي أحيانا تحتل دور الخرجة في الموشح، أعني أنها تعتمد أولا، ثم تبنى القصيدة على وفقها، وأوضح مثل على ذلك قصيدته: "مغني الربابة على سطح من الطين" فإن الأغنية هي المحور، وما يجيء قبلها أو بعدها إنما هو أشبه بالفاتحة وبالتعليق على المتن:

على سطحٍ من الطينِ
تئنُّ ربابةُ المأساة، في كفين من حجرِ
فتسقط أدمعُ القمرِ
ويصعد صوتُ محزونِ
ينادي الاخوةَ الغيّاب، في دنيا بلا خبرِ
يناديهم، مع اللحن الفلسطيني:

"طلع العِشِبْ عَسْطوحكو .. ويبس العشب
يللي عحدّ الأرض مَرمِيّين
يا ريت تيجو تطلطلوا عالتين
وتْجبِّروا المشحّره .. قلام العنبْ
يا ريت تيجو، ترشقو لِبْيُوت
وتْصلّحوا لِبْواب والسدّه
وتنشلوا حفنة ميّ للورده
(9)
.........
غناؤكَ يا غريبَ الأهلِ!
طالَ، وطالت الأيام!
وأورقت الربابةُ في يديكَ
وشاخت الأنغام
فهل ستظل طولَ العمر محروماً تناديني
مع اللحن الفلسطيني؟
وهل ستظل طول العمر،
تشحذ عودةً هرمتْ
على سطحٍ من الطين؟!

ولا يخفى أن استخدام التراث الشعبي، يصبغ الشعر بلون محلي إقليمي خالص، يصعب أن يتخطى حدود الإقليم الواحد، وهو يرسم بذلك مستوى آخر - أعمق دلالة على الإقليمية - من الطابع الإقليمي العفوي الذي يميز الشعر المصري عن العراقي عن اللبناني عن التونسي ..إلخ، فهذا الطابع يكاد يكون أمرا لا مفر منه، وأنا لا أرى في الطابعين ما يستنكر، أو يستهجن، أعني الطابع المعتمد والعفوي، إذ أن هذا مدخل ضروري لربط حبل التواصل والتفاهم بين ألوان التراث الشعبي في الأقطار العربية، في الوقت الذي يعبر فيه هذا التراث عن المعالم التي تميز شخصية كل قطر على حدة.

ولعل الشعر السوداني - في هذا المجال - أكثر من سائر الشعر الحديث، اتصالا بهذا التراث، ومن ثم، تفردا في اللون الإقليمي، وخاصة في شعر محمد مهدي المجذوب (في ديوانه الشرافة (10) والهجرة) وفي شعر صلاح أحمد إبراهيم، وإذا كان هذا الشعر يبدو غريبا حين يتجاوز حدود إقليمه، فليس هذا هو ذنب الشعر، وإنما هو جريرة الكسل العقلي، عند من يريدون أن يتناولوا الأمور من أسهل الطرق. تأمل قصيدة صلاح "فكر معي ملوال" (11) – وملوال رمز لابن السودان الجنوبي، حيث يحاول صلاح أن يقلع من نفس هذا الجنوبي الخوف من أخيه ابن السودان الشمالي، إنها من أصدق الشعر الحديث وأبلغه، وأشده التحاما بالواقع، وأكثره استفادة من الإيقاع الممتد في النفس الشعري، ومع ذلك فإن الحجاب بينها وبين القارئ أنها حافلة بالتراث الإقليمي السوداني، وهو تراث - في هذا المقام - ضروري، لأنه يجب أن يمثل الرابطة بين الأخوين في الشمال والجنوب، وأكتفي بإيراد فاتحتها:

ملوال ها أنا ألحس سِنّة القلم
ألعق ذرة من التراب
أضرب فخذي بيدي.. أقسم بالقبور.. بالكتاب

لأن هذه الفاتحة التي تتحدث عن "لحس سنة القلم" ولعق التراب، وضرب الفخذ، والحلف بالقبور وبالقرآن، إنما تمثل تراثا شعبيا سودانيا، يتعلق بألوان القسم، فهذا اللون من التراث الشعبي يكاد أكثره أن يكون غير مفهوم إذا قرأه غير السوداني، ولكنه في مطلع القصيدة تكأة لاستدرار الثقة فيما سيجيء بعد، من الزاويتين الاجتماعية والشعرية، ومع ذلك فإن القصيدة بكاملها، لن تكون مفهومة إذا لم يفهم التراث السوداني، على نحو دقيق، وليس من حق القارئ أو الدارس أن يشيح بنظره عنها بدعوى جهله لذلك التراث.


2- الأقنعة:

يمثل القناع شخصية تاريخية - في الغالب - (يختبئ الشاعر وراءها) ليعبر عن موقف يريده، أو ليحاكم نقائض العصر الحديث من خلالها، ويشترك الشعر مع المسرحية الشعرية (الحلاج وليلى والمجنون لصلاح عبد الصبور مثلا) في استخدام هذه الوسيلة، كما تشترك في ذلك القصة القصيرة (قصص زكريا ثامر: الجريمة، المتهم... وإلخ)، ولعل البياتي أكثر الشعراء لجوءاً إلى هذه الوسيلة عن وعي عامد، ولهذا نجده يقول في كيفية استخدامه للقناع: "حاولت أن أقدم البطل النموذجي في عصرنا هذا وفي كل العصور (في موقفه النهائي) وأن أستبطن مشاعر هذه الشخصيات النموذجية في أعمق حالات وجودها، وأن أعبر عن النهائي واللانهائي، وعن المحنة الاجتماعية والتخطي لما هو كائن إلى ما سيكون" (12). والقناع عند البياتي يشمل الأشخاص (الحلاج. المعري. الخيام. طرفة. أبو فراس. هملت. ناظم حكمت) ويشمل المدن (بابل. دمشق. نيسابور. مدريد. غرناطة..) وقد كثر استعمال القناع في الشعر الحديث فمن أقنعة أدونيس: مهيار الدمشقي (شخصية متخيلة) وصقر قريش، ومن أقنعة محمد عفيفي مطر: عمر بن الخطاب، وهكذا نجد الشعراء المعاصرين يتفننون في اتخاذ القناع، للتعبير عن ذواتهم. فعمر بن الخطاب يعبر عن الموقف من الجوع والإثم، وصقر قريش يعبر عن التحول التاريخي، ومهيار يعبر عن التحول متخطيا التاريخ، والخيام يعبر عن الحيرة المستبدة تجاه الوجود، وهكذا.

ويمثل القناع خلق أسطورة تاريخية - لا تاريخا حقيقيا - فهو من هذه الناحية تعبير عن التضايق من التاريخ الحقيقي، بخلق بديل له (الأسطورة)، أو هو محاولة لخلق موقف درامي، بعيدا عن التحدث بضمير المتكلم، ولكن رقة الحاجز بين الأصل والقناع، تضع هذه الدرامية في أبسط حالاتها، كما أن حضور الأصل باستمرار، من وراء الستار – يقلل التنوع في الأقنعة - على اختلاف أسمائها، فالحلاج عند البياتي في النهاية، حين يقول:

ستكبر الغابةُ، يا معانقي
وعاشقي
ستكبر الأشجارْ
سنلتقي بعد غدٍ في هيكل الأنوار
فالزيت في المصباح لن يجفَّ، والموعدُ لن يفوت
والجرح لن يبرأ، والبذرة لن تموت

لا يفترق كثيرا عن الخيام الذي يرى أن الإنسان قد ولد من جديد، كالشجرة الطالعة من الرماد والثلج، والصيحة يرسلها وليد، وإنما الفرق في الدورات التي يمر فيها كل قناع من هذه الأقنعة، بل أن هذه الدورات نفسها، قد تثير لدى القارئ سؤالا تصعب الإجابة عليه: لماذا كانت هذه الدورات على هذا النحو، وبهذا العدد؟ وهذا يعني دراسة كل قناع -على حدة - واستخراج الإجابة على مثل هذا السؤال، من كل قصيدة. ولو أننا اتخذنا أبا العلاء المعري نموذجا لهذه الأقنعة - وليس من الضروري أن يكون خير نموذج - لوجدنا أن القصيدة "محنة أبي العلاء" تصدر بهذه الحكمة لغاليليو "ولكن الأرض تدور" - وهي ترمز إلى أن الأرض في دورانها، تمر أحيانا بما مرت به من قبل، وأن المعري والبياتي يشهدان تجربة مماثلة، وهي حقيقة، ولكن الشاعر - في نهاية المطاف - مستعد أن يتخلى عنها، مؤقتا، ليعود ويقررها مرة أخرى، لأنه بتمسكه بها يعلن انتصاره النهائي. وتتألف القصيدة من عشر دورات: في الدورة الأولى كل شيء مغلق مطموس، يبيح للمرء الأعمى أن يتساءل "لمن تضيء هذه الكواكب؟" إذ العمى ليس هو ذهاب البصر وحسب، بل هو الضرب في هذا التيه المسمى الكون، فهذا بلا أمس وذا بلا وجه وثالث بلا مدينة ورابع بلا قناع وخامس بلا شراع، وفارس النحاس في ساحة المدينة تضربه الرياح (وهو نحاس لأنه لا يحس أوجاع الآخرين) وإليه يرمز الشاعر بلفظة الأب، لأنه "القدر"، والمعري، ناقم على هذا الفارس لأنه حرمه الضياء، ولكنه رغم نقمته سيطل عليه في غد مقبلا يديه، من خلال ثلاث كوى: "لزوم بيتي وعماي واشتعال الروح في الجسد"، ومن الواضح أن هذه الثورة مشوبة بالتردد بين النكران والولاء، ولكنها ليست موجهة إلى الأرض، إذ أن دور الأرض سيجيء في الدورات التالية.

وفي الدورة الثانية صراع بين الشاعر ورب من أرباب الأرض - هو الأمير - فالشاعر في البلاط متخم مصاب بالحمى والضجر قد تحجر في نفسه الفن، لأنه يكره الملق، ولكنه كان إذا خلا إلى نفسه، يحاول أن يمد يده التي تحجرت وأن يعزف على قيثارته.

وفي الثالثة يقص الشاعر على الأمير قصة حلم رآه: "رأيت في الأحلامْ / تاجكَ منه يصنع الحداد / نعل حصاني، ويحز رأسك الجلاد...." ويغضب الأمير، وتنقلب آنية الطعام والشراب ويسكت القيثارة وينطفئ القنديل ويسدل الستار.

ويحكي الشاعر في ديوانه "سقط الزند" - في الدورة الرابعة - قصة ذلك الأمير الذي كان يضم مجلسه كل الصعاليك الأدعياء الداعرين المتشاعرين، فإذا أخذوا في الإنشاد، نام "مفلطحا متخما"، وكانت له نزوات عاتية، فإذا شبهه أحدهم بالقمر غضب بشدة وصفع الشاعر لأن القمر يغيب بينما الأمير دائم الحضور، وتحس في هذا المقطع أن البياتي قد نسي أنه جعل المعري قناعه، فأخذ يتحدث من خلال ذلك القناع، كالممثل الذي ينسى دوره في المسرحية، ويأخذ في مخاطبة الجمهور:

كان زماناً داعراً، يا سيدي، كان بلا ضفافْ
الشعراء غرقوا فيه وما كانوا سوى خراف
وكنتَ أنت بينهم عرّاف
وكنت في مأدبة اللئام
شاهدَ عصرٍ سادَهُ الظلامْ

وفي هذا الموقف انتقض القناع، ولم يعد يؤدي المهمة التي وضع من أجلها.

ويستعيد البياتي في الدورة الخامسة ذكرى غربة المعري في بغداد وحنينه إلى المعرة، وحسرته على ما أصاب الأهل والأحباب من تفرق (وهو في الواقع إنما يعكس حنينه إلى بغداد نفسها)، وينقله في الدورة السادسة إلى المعرة، ويستعير في هذا الدورة مصطلحات المعري حيث الليل فيها "عروس من الزنج عليها قلائد من جمان" ويستذكر تسميته الدنيا بأم دفر - ليصف بها المعرة - وكأن المعري هنا (أو البياتي) قد صدم من التغير الذي ألم بوطنه، حيث استيقظت الضفادع المقطوعة اللسان، وأخذت تزعجه بنقيقها، ولكنه مستبشر رغم هذا التغير لأن الفقراء صلبوا في السوق السلطان المخلوع وكفروا بالجوع، ولكنه رغم هذا الاستبشار يعتاده التشاؤم، فيقول:
آهٍ غداً من عرقٍ نازلٍ
ومهجةٍ مولعةٍ بارتقاء

لأنه يتذكر الموت، إلا أنه يواجهه بصلابة، ويطلب إلى الحافر أن يعمق الحفرة، تاركا "البقاء" وراءه لحفار القبور - إن كان في مقدوره أن يبقى.

ويطمئن المعري لعدالة الموت، لأنه يسوي بين الجميع، ولكنه يريد الحياة نفسها أن تكون عادلة، إذ لا عدالة حين يموت مصطفى على الرصيف في الظهيرة، ويموت الشاه فوق صدر الدمية، الأميرة، والناس يبكون على الأمير، بينما يقبع مصطفى في حفرته المهجورة، وعيونه فارغة وأنفه مكسور:

- الموت عدلٌ – حسناً، فليُضرَبِ الشاهُ على قفاهْ
حتى يموتَ، ولتكن عادلةً يا سيدي، الحياهْ

وفي الدورة التاسعة يعود المنظر إلى عد تفاهات الحياة البيروقراطية، الصحف الصفراء، الضفادع التي تسمي نفسها رجال، ناشرو الزيف في كل مكان، الانتهازيون الذين يبنون قلاعهم من عرق الجياع ودم الكادحين، ثم يتملقون للكادحين بالوعود ويفرشون لهم الأرض بالورود.

هؤلاء هم السادة المتصرفون يريدون أن يقال لهم أن الأرض لا تدور، وأن قانون التغير قد تعطل إلى الأبد، يريدون أن يسمعوا تزييف الحقائق، ستقول لهم ذلك لأنهم سادة ونحن طنافس يطأونها في قصورهم، ولكن هنالك وجه آخر: هنالك ما قاله الشاعر (المعري) للسلطان ذات يوم فهل تحبون أن تسمعوه؟ لا تريدون؟ إذن فلتسكتوا الشاعر ولتحطموا القيثار، ولكن لتعلموا أن:

الأرضُ، رغم حقدكم، تدور
والنورُ غطى نصفها المهجور

ونحن نلحظ في هذا القناع أن هناك أشياء نألفها من المعري حقا، وأنه - مثل البياتي - كان شاهد عصر يحيط به الظلام، ولكن المعري والبياتي كليهما أجبر على تمثيل دور لم يمثلاه، وهو انتسابهما إلى بلاط أمير، ونقدهما للأمير ولبلاطه، ولمن يرتادون بلاطه، كما أننا لا نستطيع أن نفسر لماذا عاد المعري يفكر في الموت بعد أن تخلص الجياع من السلطان (رمز الاستبداد وخنق الحرية): صحيح أن التفكير في الموت ملائم لطبيعة المعري وشعره، ولكن وروده بعد أن تحقق شيء من التفاؤل إنما يدل على انتكاسة سوداوية وإذا كان السلطان قد صلب في السوق، فلماذا يعود حيا ليقارن بمصطفى - عند فقدان العدالة في الحياة؟ - ومرة أخرى لماذا يضطر الشاعر إلى المجاملة ليقول أن الأرض لا تدور، ثم ليثور على هذه المجاملة معلنا أنها تدور؟ أقول: إن هناك جوا يليق بالمعري، كما أن هناك جوا آخر لا يليق به، وثمة تجاوزات فنية - حين يراد لهذه القصيدة أن تدرس في نطاق تكاملي - ولكن حضور البياتي أشد وضوحا من حضور المعري، ونقد الحاضر، أعنف من نقد الماضي، ولعله من أجل الغاية الأخيرة وجد القناع، ففي الدورة التاسعة مثلا نجد أن البياتي وهو يعد التفاهات والتافهين قد نسي المعري جملة، وهذا - مع وقفته لمخاطبة الشاعر الذي اتخذه قناعا - يكشف عن رقة القشرة الدرامية التي حاول أن يتخذها لنفسه، دون نجاح كبير، وذلك هو العيب الكبير الذي قد يصيب القناع.


3- المرايا:

هذا الأسلوب من النظر إلى الماضي يكاد يكون قاصرا على أدونيس، فإني لم أجد أحداً غيره يستعمله، إلا أن يكون ذلك قد شذ عني، والمرآة من الوجهة النظرية أشد واقعية من القناع، وأشد حيادية، لأنها لا تعكس إلا الأبعاد المتعينة على شكل صورة أمينة للأصل، ولكنها في الحقيقة تستطيع أن تكون بعيدة عن الموضوعية، لأنها في النهاية صورة ذاتية، ومن المفروض أن تكون كذلك، إذ لو كانت مكتملة الموضوعية لكانت أقرب إلى الواقعية الطبيعية، التي تحاول رسم الأمور هي دون تحريف، أو لكانت أشبه بالتصوير الفوتوغرافي.

والمرآة أوسع مجالا من القناع لآنها تصلح أن ترفع للماضي، كما تصلح أن ترفع في وجه الحاضر، وأن تعكس الأشياء مثلما تعكس الأشخاص، بينما لا يصلح القناع إلا للماضي، ولاستحضار شخصيات أصبحت في تضاعيف التاريخ نموذجية، ولو أن شاعرا اتخذ غسان كنفاني قناعا لما حسبناه يفعل شيئا ذا بال، لأن غسان كنفاني شاهد على العصر مثل الشاعر الذي اتخذه قناعا. ولو أن شاعرا اتخذ قناعه من الأشياء، أي لو أنه مثلا اتخذ أبا الهول قناعا، لتحول القناع إلى رمز أسطوري وخرج من هذه الدائرة، التي أتحدث عنها. وأما شاعر المرآة، فإنه يستطيع أن يرفع مرآته أمام أبي الهول، وأن يعكس الصورة التي يريدها، من الزاوية التي يريدها.

وعلى هذا تتنوع المرايا عند أدونيس، فهناك منها:
1- مرايا الشخصيات التاريخية: زيد بن علي، زرياب، الحجاج، معاوية، وضاح اليمن، أبو العلاء.
2- مرايا شخصيات غير محددة بزمان أو مكان: الطاغية، السياف، رجل يروي، الفقير والسلطان، الممثل المستور، فارس الرفض، شاهد مقتل الحسين.
3- مرايا شخصيات رمزية: عائشة.
4- مرايا شخصيات معاصرة: خالدة.
5- مرايا المجسدات، رأس الحسين، جسد العاشق.
6- مرايا زمانية: الحاضر، الوقت، الزمان المكسور، الحلم، التاريخ، القرن العشرون، جثة الخريف، (العين) والزمن.
7- مرايا مكانية: مسجد الحسين، بيروت، الطريق، الأرض.
8- مرايا الأشياء: الكرسي، الغيوم، الزلاجة السوداء.
9- مرايا مجردات: السؤال، الطواف، النوم.
10- مرايا أسطورية: أورفيوس.

إن هذا التنوع يشير إلى أن الشاعر يحاول أن لا تلفت من مرآته الصور الكونية - التي تهمه -، في الماضي والحاضر، في الزمان والمكان، إذا هو استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكن لما كان الحديث هنا عن التراث، فإن أكثر ما يهمنا من مرايا هو ما وقع في القسم الأول، وبعض القسم السادس (التاريخ).

ويكاد يكون من الواضح أن أدونيس - في الشخصيات التاريخية التي اختارها، وفي الوقوف عند رأس الحسين (القسم الخامس) ومسجد الحسين (القسم السابع) - معنيّ بشدة بالتاريخ الأموي، وأن من يرمزون إلى هذا التاريخ إنما هم خلفاء (معاوية) وولاة (الحجاج) وشعراء (وضاح اليمن) وشهداء (زيد والحسين) وفي هذه المرايا يستحيل معاوية إلى:
شَعرةٌ تقرأ الرياح وتبني
ملكَها في تفجّر البركانِ

ويستحيل الحجاج إلى ذلك المخلوق الأسطوري الذي ولد دون "أست" مثقوبة، فثقبوا وراءه، وذبحوا فأرا ودهنوا بدمه الحجاج،.. فالتذ بالدماء، ولم يعد يقبل سواها ويصبح وضاح اليمن رمز "الفنان" الذي نام - أي لقي حتفه - في سبيل الحب (كلّ حبّ يموتُ في صندوق)، أما الشهداء من أمثال الحسين وزيد، فهم اللذين تحركت الأشياء لتنصفهم من جور التاريخ، وفظاظة الإنسان، فالأشجار في مقتل الحسين تمشي حدباء في سكر وفي أناة كي تشهد الصلاة.

أنها مرآة كبيرة ترفع لتلتقط صورة التاريخ الأموي كما يراه أدونيس - وليس للناقد أن يأخذه بما لم يقل، كما أن للشاعر الحرية المطلقة في أن يختار ويهمل، حسب نظرته الكلية للتاريخ أو للأشياء، ولكن في هذا الاختيار وذلك الإهمال، ما يدل على أن المرآة لا يمكن أن تكون غير متحيزة، كما لا يمكن أن تعكس حقيقة التاريخ بالمعنى الدقيق. وهي في الوقت نفسه انتقائية لا شمولية.

أما صورة التاريخ نفسه، فإن الشاعر ليس لديه تحديد حاسم لها، بل أنه يكاد يقر أن التاريخ لا تمكن رؤيته في مرآة، فهو يعتمد في وصفه على السماع، "وقال آخرون، وقيل"، ولهذا تتعدد الصور والآراء والتاريخ في رأي بعضهم قد يكون:

- بقية الرطوبة الأولى التي جفت، وصار ما تبقى منها إلى ملوحة أو إلى مرارة.
- أو هو خلاصة الزرنيخ بعد مزجه بالرماد أو التراب والحجارة.
- أو هو حجر يرشح منه الماء.
- أو هو حجر فيه ماء تمتصه الشمس وتحيله بخارا ثم يعود حجرا.
- أو هو دوامة: يغرف من ماء النهر ليعود ويصبه فيه.
- أو هو أمواج تشتد حين تدخل الشمس في السنبلة أو برج الحوت أو القوس.
- أو هو مجال لمحار والقصب واللؤلؤ والعنبر المدور الأزرق.
- أو هو كرسي من الزجاج فيه مركب ملتصق بالشمس أو سرطان، أو طائر منبسط في جسد الإنسان يصدح أو يطير يعيش في القبور.
- وهو غول جبار يقضي على الموجود ويملأ العمار والخراب.

وفي هذه الاحتمالات - يحاول الشاعر أن يقول أن صورة التاريخ تتعدد بتعدد زوايا النظر، وأنه ليست هناك حقيقة محددة اسمها "التاريخ". على أن العامل المشترك في أكثر هذه الصور هو الماء، لأن الماء ضروري لتحديد التيار الزمني، فأما تصور التاريخ على شكل كرسي فيه مركب ملتصق بالشمس، فهو يرمز إلى حركة الفلك، وأما تصوره على شكل "غول" فذلك يعني التباسه بالزمن الميتافيزيقي، الذي ينفصل في صورة قوة خارجية تهدد الوجود الإنساني. ويبدو التطابق بين التاريخ والزمن واضحا في أكثر تلك الصور، ففي قوله: حجر فيه ماء تمتصه الشمس وتحيله بخارا ثم يعود حجرا أو دوامة تغرف من ماء النهر لتعود وتصبه فيه، ربط بين فكرتي الدورات في كل من الزمن والتاريخ.

ومن المفيد أن يقارن المرء صورة التاريخ (الزمن الماضي) وانعكاساته في المرآة، بصورة الزمن الحاضر أو مرآة القرن العشرين، فإنه يجد أن رموز الماضي من المتحولات في الأغلب، أما صور القرن العشرين فإنها من الثوابت: تابوت... كتاب... وحش... صخرة، كما أنها جميعا مرتبطة بالقدرة على التحطيم، ومع أن التابوت يلبس وجه الطفل، والوحش يتقدم حاملا زهرة، فإن في ذلك مبالغة في الدلالة على الوجه الخادع الذي يلبسه الزمن الحاضر (أو الحضارة الحديثة والتاريخ الحديث).


4- التراث الأسطوري:

تحتل الأسطورة مقاما هاما في كثير من العلوم الإنسانية الحديثة، ويرى بعض علماء الأنثروبولوجيا (مالينوفسكي مثلا) أن لفظة أسطورة لا تنطبق إلا على ما نبع عند البدائيين من "حكايات" لإرضاء حاجات دينية عميقة، أي أنها تعبير ديني اجتماعي، وكل ما عدا ذلك مثل القصص التي تروى عن أرباب اليونان وما شابه ذلك فإنما هي لون من الحكايات الشعبية لا الأساطير، ولكن دارسي الأدب لا يقفون عند هذا التحديد الصارم، وإنما يتقبلون في نطاق "الأسطورة" أشياء كثيرة لا يقبلها بعض علماء الأنثروبولوجيا، وحين استعمل كلمة "أسطورة" في هذا المقام فإني أنظر إلى معناها الواسع.

وبعد استغلال الأسطورة في الشعر العربي الحديث من أجرأ المواقف الثورية فيه، وأبعدها آثارا حتى اليوم، لأن ذلك استعادة للرموز الوثنية، واستخدام لها في التعبير عن أوضاع الإنسان العربي في هذا العصر، وهكذا ارتفعت الأسطورة إلى أعلى مقام، حتى أن التاريخ قد حول إلى لون من الأسطورة لتتم للأسطورة سيطرتها الكاملة. لماذا تم كل ذلك؟ ثمة أسباب كثيرة ربما كان في أولها - وإن لم يكن أقواها - التقليد للشعر الغربي الذي اتخذ الأسطورة - منذ القديم - سداه ولحمته، ولكن منذ دراسة جيمس فريزر (في الغصن الذهبي) للأسطورة، ومنذ دراسات فرويد ويونج لدورهما في اللاوعي الإنساني، انهارت الحواجز التي كانت تقوم دون تقبلها في الشعر العربي الحديث، أضف إلى ذلك كله أن للأسطورة جاذبية خاصة، لأنها تصل بين الإنسان والطبيعة وحركة الفصول وتناوب الخصب والجدب، وبذلك تكفل نوعا من الشعور بالاستمرار، كما تعين على تصور واضح لحركة التطور في الحياة الإنسانية، وهي من ناحية فنية تعسف الشاعر على الربط بين أحلام العقل الباطن ونشاط العقل الظاهر، والربط بين الماضي والحاضر، والتوحيد بين التجربة الذاتية والتجربة الجماعية، وتنقذ القصيدة من الغنائية المحض، وتفتح آفاقها لقبول ألوان عميقة من القوى المتصارعة، والتنويع في أشكال التركيب والبناء.

لهذه الأسباب ولغيرها ذهب الشاعر الحديث - في توق محموم - يبحث عن الأسطورة، ويعتمدها أنى وجدها، لا يعنيه في ذلك أن تكون بابلية (عشتاروت تموز) أو مصرية (أوزوريس) أو حثية (أتيس) أو فينيقية (أدونيس، فينيق) أو يونانية (أورفيوس، بروميثيوس، عولس (أوديس)، إيكار، سيزيف، أوديب ... إلخ) أو مسيحية (المسيح، لعازر، يوحنا المعمدان) بل انه ذهب إلى بعض الحكايات الجاهلية ورموزها الوثنية (زرقاء اليمامة.. اللات) وعامل القصص الإسلامية على المستوى نفسه مثل قصة الخضر وحديث الإسراء والمهدي المنتظر (صاحب الزمان)، واتخذ من كل ذلك رموزا في شعره، تقوى أو تضعف، بحسب الحال، وبحسب قدرته الشعرية، وحين اضطر إلى مزيد من التنويع ذهب إلى خلق الأقنعة والمرايا والاستعانة بالأدب الشعبي - كما بينت فيما تقدم.

ومن الأصناف أن أقول أن الشعراء يختلفون في مقدار شغفهم بالأسطورة فبعضهم يكثر منها مثل السياب، وبعضهم قليل الالتفات إليها مثل محمود درويش، وأن شعراء العراق ولبنان - على وجه العموم - لا يجدون غضاضة في تطلبها من أي مصدر، بينما شعراء مصر - مثلا - يتحفظون تجاه بعضها ويقبلون على بعضها الآخر، ومهما يكن من شيء فإن الشاعر المتميز، حين يشعر أنه في غير حاجة كبيرة إلى الأسطورة - يخلق أساطيره ورموزه الخاصة به. ومع أن هذا الاندفاع نحو الأسطورة المستعارة كان ذا نتائج إيجابية، فقد علقت به بعض النتائج السلبية: إذ أخذت الأساطير أحيانا وأقسرت على الدخول في بناء القصيدة، دون تمثل لها ولأبعادها، فوضح أنها دخيلة قلقة في موضعها، أو أنها جاءت أحيانا لا تؤدي سوى وظيفة تفسيرية توضيحية، شأنها في ذلك شأن كثير من التشبيه في الشعر القديم، وأحيانا كان رص نماذج منها في نطاق واحد لا يقدم شيئا سوى الشهادة على الدرجة الثقافية للشاعر. ولذلك قلما ينبض الرمز بالحياة وتتشعب عروقا به، في شعر الشاعر، إذ ما يكاد الشاعر يستخدم رمزا في قصيدة ما، حتى يقفز آخر في قصيدة أخرى، دون أن يكون ذلك رغبة في تنويع الدلالات أو حرصا على تكييف المبنى، بل لعلّي لا أتجنى حين أقول أن الشاعر الحديث قد اقتصر في استعمال هذه الرموز - رغم كثرتها - على دلالات محدودة، مما وسم الشعر بطابع التقارب والتكرار، وأهم هذه الدلالات ثلاث:

1 - التعبير عن القلق الروحي والمادي باستغلال رمز الجواب: وفي هذا المجال استخدمت رموز عولس والسندباد وأورفيوس وإيكار وواضح أن حركة التجواب أما أن تكون أفقية أو دائرية (عولس والسندباد) أو نزولية (أورفيوس) أو صعودية (إيكار) وفي كل حال يمثل الرمز - بسبب وجهة الحركة - حقيقة أو حقائق إنسانية، وقد أضاف البياتي إلى الجوابين رمز "عائشة" (وهو رمز أوجده أدونيس - ثم تخلى عنه) لتقوم مقام الخضر (الخالد)، لكن عن طريق الحب، كما جمع أدونيس بين الحركتين الصعودية والأفقية في قصيدته "مدائن الغزالي"، وفيما عدا هذه القصيدة نجد القصائد تعتمد الحركة المفردة، مما كان ذا أثر في طبيعة بنائها.

2 - التعبير عن البعث والتجدد: ومن الرموز الصالحة لذلك تموز (أو أدونيس) ولعازر، والمسيح وأوزوريس وفينيق، وهنا يقف انحصار الشاعر في نطاق الدلالة الأولية، دون التنويع، إلا ما نجده عند حاوي في مثل (لعازر 1962).

3 - التعبير عن العذاب والآلام التي يواجهها الإنسان المعاصر وهنا تعود رموز المسيح وبروميثيوس وسيزيف إلى الظهور.

وقد كان السياب بحكم موقعه الزمني، شديد البحث عن الرمز لا يهدأ له بال، وكانت حاجته إلى الرموز قوية بسبب نشوبه في أزمات وتقلبات نفسية وجسمية، وبسبب التغيرات العنيفة في المسرح السياسي بالعراق، حينئذ، ولهذا يصلح أن يكون السياب نموذجا للشاعر الذي يطلب الرمز في قلق من يبحث عن مهدئ لأعصابه المستفزة، فهو يتصيده حيثما وجده، وقد تأثر كثيرا بذلك الفصل الذي ترجمه الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا من كتاب "الغصن الذهبي" عن البطل الأسطوري (أدونيس)، وبهذا يكون السياب قد فتح المجال بعده لمن شاء أن يستخدم الرموز، وان تجاوزه بعضهم في القدرة على الاختيار وفي طريقة الاستخدام. على أن السياب نفسه قد تطور كثيرا في كيفية استغلال الأساطير والرموز، ابتداء من اتخاذها نماذج موضحة (كما في قصة يأجوج ومأجوج في قصيدة المومس العمياء) حتى بناء القصيدة كلها على الرمز الواحد كما في قصيدته "المسيح بعد الصلب"، ففي هذه القصيدة الأخيرة التي تصور تمزق الشاعر بين جيكور والمدينة، يحس أنه المسيح، وأنه استطاع أن يحيي جيكور لأنها امتداد منه، كما أنه امتداد للجيل كله:

صرتُ مستقبلًا، صرت بذرهْ
صرتُ جيلًا من الناس، في كل قلبٍ دمي
قطرةٌ منه أو بعض قطرهْ

وأما المدينة، فرغم أنها تعج بأمثال يهوذا، الذين أمعنوا في تعذيبه، فإنها لا بد أن تبعث أيضا:

قُدِّسَ الرَّبُّ!
هذا مخاض المدينهْ.

وقد كانت سيطرة رمز البعث على السياب قوية، لأنه على المستوى الفردي كان يحس بأن لا شيء سواه يعينه على مواجهة الموت، ثم ازدادت هذه السيطرة قوة عندما أصبح العراق - مثل السياب نفسه - خلال أزمة سياسية معينة - بحاجة إلى الخصب بعد الجدب. ومع أنه لجأ أحيانا - في هذه الفترة نفسها - إلى تكثيف الرموز في القصيدة الواحدة فإن قصيدته "مدينة بلا مطر" تصلح أن تكون أكثر قصائده تعبيرا عن إتقانه للرمز المتصل بالجدب والخصب، على المستوى الجماعي لا الفردي -، ففي هذه القصيدة، المتكاملة بناء وموضوعا، استغل الشاعر جميع الشعائر التي تستجدي الطعام والماء، والقرابين التي تقدم لعشتار في مثل هذا الموقف، ووضعنا في جو كامل لترقب البعث، ومع ذلك فلا بد من القول بأن السياب، يأخذ الأسطورة على حالها، وأن ميزته الحقيقية لا تكمن في الاتكاء على الأسطورة، بمقدار ما يمكن في التفصيلات التي يضيفها والصور التي يخلقها، وبما أن طبيعة الأسطورة أولا، وهذه التفصيلات ثانيا، مرتبطتان بقدرته الفذة، وألق شاعريته، وأحكامه للربط بينهما، فإن قصيدته - في الحق - لا تستولي على مشاعرنا عن طريق غرابة التوقع أو المفاجآت، وإنما بهذا الربط العجيب بين بابل الوثنية، والعراق الحديث، ذلك لأنه يستطيع أن يفيد من أكبر خدمتين تقدمهما الأسطورة وهما التطابق بين الماضي (البدائي) والحاضر، والموازاة القياسية، حين لا يكون هذا التطابق ممكنا.

ومع أن السياب - في سنواته الأخيرة - قد فقد معنى البعث، حين انفرد بمعالجة الموت، وفقد القدرة على الربط بين المحنة الذاتية والجماعية، فإنه استطاع أن يتوصل إلى البناء الأسطوري، دون حاجة للاتكاء على الأسطورة أو للتكثر من رموزها، وخير شاهد على ذلك قصيدته: "حدائق وفيقة"، فإن وفيقة تعيش في حديقة في ظلام العالم السفلي، ويصف الشاعر هذه الحديقة ويتفنن في وصفها ويتمنى آو أن نهر بويب الذي يسقي جيكور، كان يستطيع أن يسقي تلك الحديقة، ووفيقة تنتظر وتنتظر، ولكن لا بويب، ولا حبيبها يقدران على تحويل حديقتها إلى العالم العلوي، ودون أن يقول الشاعر على أية أسطورة يبني تصوراته نحس أن وفيقة هي (يورديسه) وأن الشاعر هو أورفيوس، الذي خانته رجلاه، فهو لا يستطيع أن ينزل إلى العالم الآخر، ليعود بصاحبته. تغيير طفيف لكنه غير طبيعة القصيدة تماما، ومن المؤلم أن يكون ذلك على حساب العجز الذي كان يعانيه السياب.

وتحتل قضية الانبعاث والتجدد في شعر خليل حاوي، المنزلة الأولى، ذلك أنه كان من قدر الشاعر الحديث، أن يكون، رغم النكسات الكثيرة التي ألمت بأمنه، متفائلا، وأن يستشرق من خلال الواقع المظلم - مستقبلا أنضر، رغم ما تقدمه قصيدة لعازر من شهادة مخالفة. ولكن حاوي يختلف اختلافا جذريا عن السياب في معالجة الأسطورة، فهو لا يستمد الأسطورة الجاهزة، على حالها، وإنما يبينها بناء جديدا، فالسندباد قديم ولكن وجوه السندباد، والسندباد في رحلته الثامنة، تمثلان أسطورة جديدة، أسطورة الإنسان المعاصر، في الصراع بينه وبين معوقات الزمان والمكان، ومحاولته للتخلص من ثقل التجربة التاريخية، والانطلاق إلى رحاب أوسع.

ورغم استعلاء "الواحد" في قصائد حاوي الأولى، إلى محمل من التركيب "الثلاثي" - في القصيدة - (انظر البحار والدرويش وليالي بيروت) فإن هذا الواحد من بعد، هو الشاعر، هو المنقذ، هو الشعب، الذي سنبعث قويا، ليغير وجه التاريخ - وبذلك تتطابق الفردية والجماعية بحيث لا يمكن الفصل بينهما، ومن وجهة أخرى فإن حاوي - رغم إيمانه العميق بالتقدم الحضاري - يحس إحساس الريفي الأصيل في بعض اللحظات، أن البراءة التي تمثل الحيوية الطبيعية وتستطيع الاندماج بها إنما تتمثل في مرحلة شبه بدائية، وأن المدينة التي قيدت بالشرائع والمواصفات، عالم معقد، لا تستطيع الحيوية البكر أن تفقهه، وأنه في حومة الصراع بين الاثنتين يقوم الكاهن الموسيقي بتحويل الحيوية إلى " كبريت ونار مجرمه" ويقضي على البراءة بالإعدام، ويتخذ الشاعر "الغجرية" رمزا لتلك البراءة، ويتفنن في وصف صلتها العذراء بكل ما هو طبيعي، وفي تصوير الفورة العفوية التي تعانق كل شيء، متخذا من الجسد وتدفقه بألوان النضارة سبيله إلى رسم صورة عجيبة من بكارة الطبيعة، غير أن الكاهن الموسوي "الأسود الداجي المقنع بالرماد" يحاول أن يطهر ذلك الجسد بنار "الحضارة" فيحيل الغجرية إلى عجوز مجنونة:

هيهات يعرفُ من أنا، عبثاً، محالْ،
شمطاءُ تنبش في المزابل
عن قشور البرتقالْ.

لقد وضع حاوي في مقدمة هذه القصيدة تفسيرا لفكرته، ولكنه لو لم يفعل، لكان الرمز في القصيدة دالا على نفسه، ولهذا لا يمكن أن يتهم الشاعر هنا، بأنه يوجد الفكرة ويصب القصيدة على مثالها، إنما القصيدة هي التي كانت أولا. إن حاوي ذا الموقف الهيردري هنا (نسبة إلى المفكر الألماني هيردر) قد خلق أسطورة جميلة، وأجاد التعبير عن أبعادها، ومن التطرف في التفسير أن يقال أن الشاعر يحس بعداء للحضارة، إذ من الذي ينكر أن "البكارة" الحيوية أفضل من "التعهر" الذي تحميه القوانين؟.

وإذا أنتقل إلى الحديث عن رموز أدونيس أجدني عاجزا عن الإحاطة بها، ولكن يكفي أن أقف وقفة قصيرة عند قصيدة واحدة من قصائده وأعني بها "رحيل في مدائن الغزالي" - وهي القصيدة التي أشرت إليها فيما تقدم، عند الحديث عن الحركتين الصعودية والأفقية، ذلك أنها تقص قصة المعراج (أو الإسراء)، وتجعل من التنقل في مدائن الغزالي حركة أفقية، وقصة المعراج معروفة لا حاجة إلى استعادتها. ولكن السير في مدائن الغزالي "وهي صحراء من سعالي" تحتاج توضيحا، فالشاعر يرسم هنا مفارقة ساطعة بين "مثالية" النبوة، وبين مدائن الغزالي التي تمثل السقوط في مقابل الصعود، وبعد أن تتم الرحلة الصعودية، تواجهنا الثورة على مدائن الغزالي "رفضت وانفصلت"، لأن هذا الرفض يطلب التغيير المطلق، لكل شيء، متجسدا في كل شيء:

أفتح كل باب
أشق كل رمس
بغضبة الخالق - بالرجاء أو باليأس
بثورة النبي
مسكونة بالشمس
مسكونة بالفرح الكوني.

فالعلاقة بين الحركتين هي العلاقة بين المثل الأعلى والمثل المحطم، لأن الغزالي - في رأي أدونيس - لم يظل وفيا لرسالة المثل الأعلى، ولهذا فسدت مدنه، وكان لا بد من تصحيح الأوضاع فيها "بثورة النبي" أو بروحه التي يستمدها الثائر الأدونيسي، وهو يهم أن يعلن الثورة.

الأمثلة كثيرة، وأنت حين تتحدث عن الرمز عند شاعر واحد يتطلب حديثك كتابا مستقلا، فكيف إذا كان لديك هذا العدد الجم الغفير من الشعراء؟ ولكني لا أود أن أختم هذا الفصل دون التوقف عند أهم معالمه وأعني بذلك قضية البعث والتغيير، (التي دعا إليها أدونيس في هذه القصيدة) وتبناها غيره من شعراء هذا الجيل. وأحب أن أقول: أن مدائن الغزالي لا تزال - على وضعها - تعيش كما كانت، "صهريجا من الدموع"، وأن التاريخ ربما لم يشهد تطابقا تاما بين الشعر والواقع، كالذي شهده عصرنا، في تطلبه للفدائي الذي يبذل دمه - طائعا مختارا - ليغير مدن الغزالي، لقد اكتملت الحلقة لقتل ذلك الرمز الكبير في الواقع، أو لجره للاستسلام، وأول ضحايا هذه الموجة الجديدة هو الشاعر، الثائر الرافض، ترى ماذا سيكون مصير الشعر الحديث بعد اليوم؟ هل يستسلم! وإذا استسلم ففي أي اتجاه يسير، وإذا قاوم فكيف يمكن أن تكون المقاومة بعد القضاء على عناصرها الواقعية؟ وإذا اختار طريقا ثالثا فما هو ذلك الطريق؟ أسئلة حيرتني، ولكني لا أملك الإجابة عليها، إنما الإجابة - التي يملكها الشعراء وحدهم - هي التي ستحدد طريق الشعر المعاصر ووجهته.




هذه المقالة مقتبسة من كتاب "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" لإحسان عباس - سلسلة كتب عالم المعرفة - عدد فبراير 1978 - الفصل السادس: الموقف من التراث




الهوامش

(1) لا ريب في أن عددا من الشعراء المحدثين ينتمي إلى الأقليات العرقية والدينية والمذهبية في العالم العربي، وهذه الأقليات تتميز - عادة - بالقلق والدينامية ومحاولة تخطي الحواجز المعوقة والالتقاء على أصعدة أيديولوجية جديدة، وفي هذه المحاولة يصبح التاريخ عبئا والتخلص منه ضروريا، أو يتم اختيار " الأسطورة الثانية " لأنها تعين على الانتصاف من ذلك التاريخ بإبراز دور تاريخي مناهض.
(2) Writing Degree Zero، (New York 1967) ، p. 16.
(3) تعبير سان جون بيرس: "والآن يتخثر النهار كاللبن" (أعماله الشعرية: 159).
(4) أغاني مهيار: 241.
(5) أعمال سان جون بيرس: 157.
(6) لم أتعرض هنا للمفكرين الذين تحدثوا عن قضية التراث مثل زكي نجيب محمود وغالي شكري والنهيري ومحمد عوده وصادق جلال العظم (في الجانب الديني منه) ولا عن مفهوم التراث عند كل منهم وعند المناوئين لهم، فذلك يقع خارج حدود البحث في الشعر نفسه، وإن كان من الضروري أن يدرس الشعر متصلا بالتيارات الفكرية التي غذته أو قاومته، كذلك لا بد أن يتنبه الدارس إلى الحركة الوسطية التي ظهرت متصلة بالتراث وأعني بها حركة الأصالة والتجدد أو الأصالة والتفتح (يعني المحافظة على الأصول مع التفتح على الحضارة الحديثة) فإن استكمال التصور لأبعاد هذه القضية لا يمكن أن يتسم دون ذلك.
(7) زمن الشعر: 250 - 251.
(8) يمكن للدارس أن يزيد زوايا أخرى من التعامل مع التراث، مثل إدخال الأقوال الحكمية والأمثال في الشعر، وهو منهج واضح بقوة في شعر البياتي، هذا إلى زوايا أخرى مثل أن يتجه الشاعر إلى حقل ما - كالفلسفة أو غيرها - ويعتمد عليه كثيرا في تصور الماضي - ومن ثم الحاضر.
(9) طلع العشب على سطوحكم ويبس العشب يا من هم مرميون على حد الأرض. ليتكم تجيئون للأطلال على التين، وتجبرون عساليج العنب (ذات البخت السيء) يا ليتكم تجيئون لتبييض البيوت، وتصلحون الأبواب والسدة وتنشلون (من البئر) حفنة ماء للوردة.
(10) الشرافة: الزخارف الملونة التي يضعها الأطفال بمدارس القرآن على أطراف الواحهم عند ختم جزء من القرآن.
(11) غضبة الهبباي: 43 - 48.
(12) ديوان البياتي 2: 309.


الآراء (0)