في آليات اشتغال المعنى الشعري: ينفلت من قبضة اللسان وديدنه الاختلاف والتعدد - عبد اللطيف الوراري | القصيدة.كوم

كتبت عام: 2022


491



في آليات اشتغال المعنى الشعري: ينفلت من قبضة اللسان وديدنه الاختلاف والتعدد


أجروميات جديدة

كان سؤال الحداثة ضاغطاً على نصوص الشعراء وتجاربهم في تمثيل الذات وحقيقتها كمرجع نصي، بأكثر أدوات التعبير الشعري أصالةً وجدةً، مُشارِفين رؤيا الشعر ورؤيته للعالم. بعد مرحلة التحول التي لم تنفك عن مرجعها السياسي والأيديولوجي المباشر، إلا أن آفاق الرؤيا الشعرية الحديثة كانت تتسع لمجامع الرؤية الفكرية للواقع والفن، وبات في وسع الشاعر الحديث أن يسبح "في بحار المعرفة السبعة" بتعبير صلاح عبد الصبور، وأن ينهل من معارف العصر وثقافاته المتنوعة الواردة من وراء البحر، وأن يدعها تختمر في نفسه وفكره ليستعين بها على تحليل واقعه وتناقضاته وإدراكه إدراكاً موضوعياً، ومن ثمة التعبير عن ذلك كله بصوته الذاتي المفرد، مازجاً إياه بالمعاناة والقلق والسخرية ومراوغة الشك والتمرد على واقع الهزيمة، مثلما على سلطة المعيار بطرفيه النحوي والدلالي. فالوعي الطارئ بحقوق المفردة وعلاقاتها جاء رداً على عجزها عن حمل المعاني، وعدم وفاء طاقتها الدلالية بالرؤى الجديدة التي لم تعد تثق في ارتباط الدال بالمدلول الواقعي، ولا في مقولة المحاكاة داخل أطر مرجعيتها المتعينة، بقدر ما يعنيها علاقاتها الدلالية نفسها، لا ما يشدها إلى شيء آخر خارجها؛ فالقصيدة ضمن هذا الوعي الجديد ليس لها من هاجس سوى وجودها الذاتي، من خلال التركيز على شعرية الدال وهو يوسع المسافة بينه وبين المدلول لتشمل أفانين من المراوغة واللعب والقلب والإزاحة.

وما من شك في أن المصادر الكتابية الجديدة التي صار شعر الحداثة يغترف منها ويدمن تنويعها جمالياً، قد ساهم في تأسيس أجروميات المعنى الشعري المتحرك والمفارق؛ وهي:

ـ تكسير الدلالة الواحدة، وتفجير دلالات جديدة.
ـ إغناء اللغة بأشكال من الرمز والمفارقة والتجريد والتناص.
ـ توسيع مدلول الصورة بوصفها طاقة احتمالية تتغذى من بلاغة التكثيف والانزياح.
ـ تشظي البناء النصي الذي لا يبين إلا عن جماليات التجاور، والانتشار في كل اتجاه، والتشذير بلا رابط منطقي.

وقد نقلت هذه الخواص حركة انبثاق المعنى من دائرة الدلالة المعجمية إلى دائرة الدلالة السياقية، المفتوحة على إمكانات مُهمة لا تعتقل مثل هذه الأجروميات بقيد معجمي أو إيقاعي أو تركيبي، على نحو جعل الكتابة الشعرية تُغير علاقاتها الخاصة بها كخطاب مخصوص، والعلاقات الوظيفية بين اللغة والمعنى، الوعي والعالم، لكنها، نتيجة ذلك أو تحت تأثيره، سوف تخلق "الصدمة" لدى المتلقي وهو يصادرها ويقرنها بجريرة الغموض في أغلب الأحايين.

يمكن أن نسوق أهم آليات عمل المعنى وحركته في الشعر العربي الحديث والمعاصر، وهي تشتغل وفق عناصر خاصة يتطلبها هو نفسه؛ باعتباره قولًا فنيا وجماليا مخصوصا ومُبايِنا عن غيره من أجناس التعبير الأدبي، ويجتهد الشعراء المتميزون في طلبها والعمل عليها بحثا عن درجة ابتكارهم وثراء عطائهم. وهذه العناصر هي المجاز، والرمز، والرؤيا واللعب اللغوي، وكل عنصر من هذه العناصر يعكس عبر اشتغاله النصي نوعيةً ما، وفي تلقيه وتأويله جماليات خاصة، كما أن أياً منها يمكن أن يستضيف عنصراً أو أكثر داخل بنيته، تبعاً لطبيعة القصيدة وموضوعها ورؤيتها للذات والعالم.


بوصفه مجازاً

لا يستخدم اللفظ في الشعر على الحقيقة بل على المجاز، ولا يكون دالاً على المعنى المتعارف عليه بالاصطلاح اللغوي، بل على المعنى البلاغي الذي يتأتى من وجوه البلاغة مثل التشبيه والاستعارة تحديداً. ووظيفة المجاز، كآلية لغوية وتخييلية، تكمن في أن يتمكن الشاعر من الابتعاد عن لغة التقرير والإخبار، أو استعمال اللفظ على الحقيقة، إلى لغة الإيحاء والإيماء التي بها ينفتح المعنى في حركته على إمكانات دلالية، بقدر ما يتيح له ذلك القدرة على التعبير الشعري؛ إنه بمثابة "الطاقة الخلاقة" التي تدفع الأشياء إلى أن تقول ما لا تتعود عليه، وأن تبوح بغير ما في واقعها، ومن خلالها يحصل مقياس القيمة ونوعيتها للقصيدة في تشكيل معانيها بمنأى عن المباشرة، ما يضع قدرات المتلقي التأويلية على المحك في فك شيفرات خطابها. ومن المعهود أن المعنى المجازي يقوم على جماليات المشابهة والمجاورة والنقل والاستبدال والإزاحة، وتطفح به نصوص الشعر العربي قديمها وحديثها، غير أن المحدثين ابتدعوا فيه طرائق جديدة تحت حاجات روحية وميتافيزيقية ووجودية امتحنوها وسعوا إلى التعبير عنها.

يكف المعنى عن أن يكون واسطةً أو ذريعةً أو وسيلةً، لينتقل إلى أن يكون مادةً لها كثافتها وحضورها داخل اللغة الشعرية في حد ذاتها. واللعب في هذا المعنى له مزيةٌ داخل الخطاب الشعري، لأنه قبل كل شيء لعب بالكلمات حسب ميكائيل ريفاتير، ويُدْفع الشاعر إليه اضطراراً واختياراً.


بوصفه رمزاً

الرمز هو حالة لغوية خاصة تتم داخل علاقات جديدة تعكس مستوى من الإدراك الشعري يتجاوز، بشكل بائن، جماليات المجاز، ومع هذا التجاوز يكتسب البناء الدلالي صفته الرمزية التي تهب الشاعر القدرة على استكناه أشياء العالم، استكناهاً عميقاً يتغيى اكتشاف روحها وأصواتها الداخلية والخفية. يصبح للرمز، هنا، حركة توليدية هي ابتكار هذه الأشياء بقدر ما قدرة التعبير عنها بطراوة ودهشة، لأن ما يهمه هو أن يقترح صِيَغ تعبير جديدة عن المعنى الخفي. ولقد عنى أدونيس شيئاً من هذا التحديد، عندما قال إن "الرمز هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص. فالرمْز هو، قبل كل شيء، معنى خفي وإيحاء". وللمعنى الرمزي تمظهرات مختلفة ومتفاوتة الدرجة في تاريخ تجسيده شعريا، لعل أنصعها ما بدا مع شعراء الصوفية في توظيفهم للرمز الصوفي والعرفاني؛ مثل ابن الفارض والحلاج، وابن عربي، أو مع شعراء مذهبي الرمزية والرومانسية؛ مثل: سعيد عقل، وإلياس أبي شبكة، وأديب مظهر، وعلي محمود طه، ومن خلال تركيزهم على رموز الطبيعة والتعبير عنها وجدانياً من منظور تراسُلي، يتجاوز شكلية المعاني الحسية وتجسيمها في ما بين الأصوات والألوان والروائح، أو مع الشعراء المحدثين الذين اتخذوه قناعاً للتعبير عن مضمون سياسي وأيديولوجي ضاغط هيمن على ذائقتهم بداعي الالتزام؛ مثل الشعراء التموزيين ومن احتذى صنيعهم: يوسف الخال، وتوفيق الصايغ، وجبرا إبراهيم جبرا، وبدر شاكر السياب، وعلي الجندي ومحمود درويش، وأمل دنقل، وأحمد المجاطي في توظيفهم للرموز التراثية والدينية والأسطورية، بل تجاوزوها إلى ما شخصي وسيرذاتي.

بهذا المعنى، يقوم المعنى الرمزي تباعا على جماليات الإشراق، والتشخيص، وتراسل الحواس، والقناع، والمفارقة، والالتزام الذي يتوق للتعبير عن الجرح الجماعي بقدر ما الذاتي. ومن ثمة، فإن دلالات الرمز وإيحاءاته تتنوع باختلاف المقام الكلامي، الذي يرِدُ فيه تبعاً لنوعية الإدراكات والرؤى والتصورات والمواضعات الثقافية التي تجترحه وتدل عليه.


بوصفه رؤيا

نُميز بين الرؤية والرؤيا؛ فإذا كانت الأولى من فعل الباصرة في اليقظة، فإن الثانية تتأتى من التخيل والحلم، والاستبصار والحدس، بما هي صيغة تعبير تتخطى الرؤية بالعين إلى الرؤية بالقلب. ولهذا، فإن الرؤيا تستوعب الرمز وتتجاوزه في آن، لأنها لا تُعنى بالتعبير، بل الكشف عن العلاقات الخفية وتفجيرها، والغوص في مجاهل النفس البشرية وأغوار اللاشعور السحيقة المعتمة بشكل باطني وميتافيزيقي وتجريدي، ولا الإيحاء بالصورة الحسية المجسدة، بل ابتكار عناصرها الحدسية والحلمية والاستيهامية في خضم التجربة الشعرية، ولا بعث الماضي، بل استشراف الآتي وارتياد مجاهيله. وقد مثلت فعالية الرؤيا انقلاباً على منظورات الوعي السائد في إدراك المعنى الشعري وبنائه، مُتجاوبةً مع مفهوم الشاعر الحديث وتجربة الكتابة الجديدة وأدائها الفني، ومع مصادر معرفتها التي تنحدر ذرياتها إلى "الغصن الذهبي" لجيمس فرايزر، و"إشراقات" رامبو، و"أناشيد" مالدورور و"الأرض الخراب" لإليوت، إلخ.

تحت تأثير الرؤيا يهجر المعنى الشعري تراتُبيته المعهودة إلى وضعية أعقد وأشد حالاً؛ مثل حال المعاناة التي يتولد منها وفي أثرها، فلا يقدم للعالم وصفاً حسياً ولا عقلياً لأشيائه، بل يتجاوز ذلك إلى الكشف عن علاقات جديدة مستبطنة من ذات الشاعر، تقوم المعرفة الشعرية على تفجيرها مهما تكن جدتها وغرابتها، إلى حد أن تنبهم معالم الأشياء الحسية، ويخف وزن التجارب العينية، وتصبح الكلمات رموزاً لعوالم ضاربة في الخفاء. وقد ابتكرت قصيدة الرؤيا معانيَ جديدة ونوعية عملت على الارتفاع بالبنية الدلالية إلى مستويات من الإدراك الشعري بشكل خفف من غلواء النمط، أو التعبير السائد. وتنتشر نماذج هذه القصيدة في نماذج معروفة داخل تجارب شعراء التفعيلة: البياتي، وأدونيس، ومحمد عفيفي مطر ومحمد علي شمس الدين، غير أن دوائر تشكلها الجمالي اغتنت مع نماذج قصيدة النثر، ولاسيما عند شعرائها من أمثال أنسي الحاج، وسركون بولص، وسيف الرحبي، وعباس بيضون وسواهم. وتقوم جماليات هذه القصيدة الرائية على آليات استبطان الذات، والكشف، والتداعي، وكل ما به تتم شفافية اللغة التي تحتفظ بشيء من غنائيتها، لكن تشيد فهمها وتأويلها للعالم على منظور ملحمي وكُلياني.


بوصفه لعباً لغوياً

يتأتى هذا الضرب من آليات إنتاج المعنى على المفارقة التي لا يسوغها قانونٌ، ولم تجْرِ على ترتيب مسبق في ما تذهب إليه وتعمل على تبئيره. فلا يُحيل المعنى، هنا، على صورة ذهنية، أو معرفة إدراكية سابقة، وإنما يحيل على حضوره في العالم حيث يمتخض خارج أي نزوع محاكاتي أو تجريبي، وعلى الحيز الذي يشغله في سياق مغامرة تروم استعادة براءة عالمٍ مدهشٍ لا تمتلك فيه الأشياء أسماء ما، ولا مجال فيه للمعنى داخل نفعيته أو قصديته المقررة. وقد كان مبدأ اللعب أو اللعبة – في الحقيقة – استعارةً مفهوميةً لعجز اللغة في الوفاء بالمقصود ونقل العالم كما هو.

يكف المعنى عن أن يكون واسطةً أو ذريعةً أو وسيلةً، لينتقل إلى أن يكون مادةً لها كثافتها وحضورها داخل اللغة الشعرية في حد ذاتها. واللعب في هذا المعنى له مزيةٌ داخل الخطاب الشعري، لأنه قبل كل شيء لعب بالكلمات حسب ميكائيل ريفاتير، ويُدْفع الشاعر إليه اضطراراً واختياراً.

وضمن هذا اللعب، تغتنم المعاني لُعْبتَها، فيما هي تنتشر في كل الاتجاهات، ومن ثم لا يمكن الإمساك بها. وبتعبير التفكيكيين، يدل هذا الوضع على تشتيت المعنى، وعلى لعب حر لا متناهٍ لأكبر عدد ممكن من الدوال، حيث تأخذ الكلمة معنىً وكأن لها دلالة دون أن تكون لها دلالة؛ أي أنها تُحْدث أثر الدلالة وحسب، أو أن فائض المعنى وزيادته المفرطة يكون نتاجه على ما يُفْترض أنه يعني.

ويمكن أن نعثر على نماذج لهذا النمط في شعرنا بدرجات نادرة ومتفاوتة؛ في نصوص الشطح الصوفي، والتعبيرات الرمزية والفانتازية التي انتعشت مع صعود تيار الكتابة الجديدة، وتأثرت في أشكال إيحاءاتها وسبل إلهامها من الدادائية والسيريالية، إذ اعتقدت بتفجير اللغة وانتهاكها وسط سلسلة من التحريفات الاعتباطية، كما لو كانت هذيانات أو فجوات صمت صارخة، مثلما نجد عند وديع سعادة، وصلاح فائق، ومحمد بنطلحة، وشربل داغر، ومبارك وساط وغيرهم. ولعل من أهم الجماليات التي تُنْتج في هذا السياق، وتلعب على حدود اللا وحدة، واللا حقيقة، من خلال مراوغة الدال للمدلول، والاستغناء عن علامات الترقيم، والحذف، والميل إلى اللانحوية، والرمزية الصوتية، والمفارقة بالجمع بين المتنافرات، وإحلال المنفصل محل المتصل، والمتجاور محل المتضام؛ أو من خلال علاقات القرب والبعد، والاستشهاد، والرفض، والمفارقة الساخرة، والمحاكاة الهزلية، وهي علاقات لا نهائية تعمل على إرجاء أي معنى نهائي. وعلى حد تعبير رولان بارت، فإن النص لما يُقرأ (أو يُكتب) كلعبة متحركة للدوال، دون إحالة ممكنة إلى مدلول أو مدلولات ثانية، يصبح من الضروري أن نميز بين الدلالة التي تنتمي إلى محور المنتوج والملفوظ والتواصل، والعمل الدال الذي ينتمي إلى محور الإنتاج والتلفظ والترميز: وهذا ما يسمى الدلالية.

ولا يعني أن هذه الأنماط من إنتاج المعنى تشتغل منفصلة عن بعضها بعضا، بل ما يحصل هو خلاف ذلك قياسا إلى مفاجآت غير متوقعة يمليها أفق النص. وحدها فعالية المعنى تمنح النص هُويته التي تتجدد مع كل قراءة، مثلما تمنح القصيدة الحياة باستمرار. هكذا، تفترض آليات قراءة موازية لها، ومشتملة على معاييرها التي تنزاح بجمالياتها الخاصة عن أي معيار مقرر، وتعيد توزيع نظام اللغة خارج ادعاءات النظرية وفروض علم الدلالة البنيوي. كما تعكس كل آلية شرط قراءتها وتأويلها، من البسيط إلى المركب، ومن العام إلى الخاص، ومن الجمعي إلى الذاتي، ومن القصدي إلى اللعبي الصدفوي، وفق استراتيجية بانية ترغب في المعنى وتحدد سيرورته التأويلية المشروطة بباث ومقامٍ ومتلق؛ فالمعنى ـ أولا وأخيرا - غير معطى، وإنما يبنى بواسطة استراتيجية القراءة، ولا توجد أسبقية لمعنى ما في تخطيط القصيدة، وإنما ينمو ويتأثر تبعا لمسار إنتاج الدلالة في غفلة عن الذات داخل العمل الأدبي وعبره، وهو ينتقل من سياق تاريخي وثقافي إلى آخر بقدر ما يراكم معاني جديدة ما كان ممكناً أبداً للمؤلف أو جمهوره أن يتنبأ بها في وقتها؛ وهذا ما يجعل المعنى ينفلت من قبضة اللسان والملفوظ، ويستأنف في كل مرة تاريخَ ولاداته المنذورة للحلم والسفر والمجهول.




نشرت في القدس العربي بتاريخ 7-5-2022




الآراء (0)