كتبت عام: 1995
579
تحولات النص الشعري العربي من النثر إلى النثر
لسنا ندري على وجه اليقين متى تشكّل (النص) إذا لم يكن ثمة اعتراض على اعتبار (الشفاهي) (نصاً)(1)، ولسنا ندري كذلك إذا ما تم تدوين (الشفاهي) بالترتيب نفسه المماثل لهيئته في التلفظ (الكلام) قبل التدوين(2)، فالذي لا شك فيه أن (الشفاهي) وإن كان يبدو مجرداً (صورة في الذهن)، لكن له هيئة المحسوس باعتباره خطابا "تؤديه حاسة النطق، وتتلقاه حاسة السمع. لكن الشيء المتفق عليه، حتى الآن على الأقل، وحسب المراجع، أن النص الشعري العربي، متولد عن النص النثري(3)، خلاف النصوص الأدبية المتحصلة عن الحضارات القديمة التي تؤكد أن (النص) الشعري، (أصل)(4)، وأن لهذا (النص الأصيل) أنظمته الإيقاعية والوزنية واللغوية والدلالية... وله تراتيبيّاته في الإنتاج والامتداد. فمثلا من مجموع نصوص سردية أو غنائية، أمكن تفريغ تجنيسات نصوصية مثل (الملحمة) و(الأسطورة) و(السلسلة).
بعد التطورات التي حدثت في الفكر والمجتمع والتي بلغت ذروتها في المجتمع العباسي والأندلسي، تعرض (النص - النموذج) لتحولات في الشكل والصورة واللغة. واحتدم السجال حول المختلف كإشكالية، أو ما دُعي بالصراع بين القديم والمُحدَث.
ورغم الاعتراف بالمختلف: لغةً وطُرقَ أداء وتعبير (شعر أبي نواس، أبي تمام... مثلاً) إلا أن المختلف شكلا "فضائيا" ظل مقصيا عن حقل النص الشعري (المشجّرات، مثلا، بأنواعها) لسبب رئيسي وهو التداخل بين الأجناس.
فقبول (الموشح) مثلا ورغم اختلافه الكامل في الاشتغال الفضائي عن النموذج التقليدي للقصيدة العربية. إلا أنه ظل يؤدّى، بأداة التعبير (اللغة) وبالأساليب الإنشائية (مجاز، استعارة، كناية... إلخ) وبالتوزيع الشطري للنظام العروضي المألوف غالباً، والمهم أنه لم يُشرك جنساً مغايراً في بنيته الفضائية والدلالية(5). لكن (المشجرات) – مثلاً: بأنواعها المعروفة، أدخلت أداة تعبير غريبة على اللغة، هي الخُطاطة التشكيلية - البصرية. أي أنها أحدثت انحرافاً خطيراً في كينونة النص، بإشراكها حاسةً جديدة في قراءة النص وتوسيع دلالته.
في العصر الحديث، قدّمتْ تجاربُ أحدثت تغييرات جديدة في بنية النص الشكلية والدلالية، كان أبرزها - دون شك - تجربة الشعر الحر التي كان من أبرز نتائجها:
أولاً: إلغاء سلطة الشكل الواحد المتكرر، وتعدُّد الشكول.
ثانياً: إلغاء إجناسية النص – والقول بتداخل النصوص -.
ثالثاً: إلغاء فكرة النص المُغلق، وإعادة تشكيل العلاقة بين القارئ والنص من خلال ما دُعي بالنص المفتوح.
وهكذا لم يعد ينظر إلى النص على أنه (منتَجٌ) غير قابل للإنتاج، بل هو أقرب إلى المولّد – المولّد (جامع النص). وألغيت كثيرٌ من المفاهيم النقدية السابقة كالأخذ والسرقة والغموض والموازنة والتلقي والتوصيل والقارئ، وحقّ المؤلف ...إلخ. وأعيد وضعها في أطر معرفية جديدة.
فإلغاء التشكل النموذجي، مثلا، سمح بأن يحقق كل نص شكله على مستوى البنى الإيقاعية والسيميائية، والتداخل النصي، حقق للنص تعددية الأصوات وتشغيلا "لمولدات دلالية تجعل النص أكثر عمقا"، وقدرة على الإشعاع لمديات أوسع. واقتراب النص من الكتابة بابتعاده أكثر عن الشفاهة، مكّن النص، من خلال القارئ، من التعدد والتكاثر دلالياً. بمعنى أن القراءة، نقلت النص من كونه (حدثا) "تاريخيا"، إلى إشكالية يسهم كل قارئ في إعادة بنائها (إنتاج النص) حسب إدراكه.
لا شك أن آخر التحولات في النص الشعري المعاصر، اليوم، هي عودته إلى مبتدأ الدائرة. وأعني أن النص الشعري الذي ابتدأ نثريا، أو نثريا - شعريا - عاد بعد دورة من التشكلات والتحولات إلى ما يقارب الصيغة الأقدم. أي النثر الشعري الموزون ذي الإيقاع النبري غير المقفى غالبا، كما هو شعر الحضارات السامية عموما، أو النثر المقفى (المسجّع) المجرد من الوزن، كما في النقوش والمدونات والأسجاع وبدايات الرجز ذات الإيقاع النبري في أوليات الشعر العربي، أي قبل أن تتطور هذه إلى الرجز ذي الوزن الكمي (التفعيلة).
مما لا شك فيه أن (معظم الشعر الحديث، نثر) كما قال لورنس فيرلنغيتي(6) وقصيدة النثر.. نثر.. وكل ما يكتب وينشر تحت تسميات مثل: (نص) (كتابة جديدة) (نثر شعري) ...إلخ، نثر. وأعني بالنثر، النثر الشعري الموقّع، أو (الشعر المخفيّ) في النثر. وفي مصطلح الفارابي: (القول الشعري) المجرّد من الوزن والقافية التقليديين. لكنه مخرج غير مخرج العادة - بتعبير ابن رشد - باعتباره تخييلاً، حيث يخلق الخيال، المجاز والصورة والأسطورة.. إلخ..
ولتوضيح هذا لا بد من وصف موجز لمبتديات الكتابة الشعرية في آداب الحضارات الأقدم (السامية وقبلها بالطبع السومرية) وفي عموم الآداب التي توصف بـ(البدائية) أي نتاج المرحلة التي توصف عادة بمرحلة (طفولة الشعوب).
ويمكن القول نفسه بشأن الكتابات الشعرية العربية قبل أن تستوي في مرحلة القصيدة – الأنموذج التقليدي المعروف قبل الإسلام أي ذلك الكلام المُخيّل المُقفى أو (المُسجّع) والمجرد من الوزن، يعتمد المجاز والصورة والإيقاع النبري، المُمثّل للشعر والنثر معاً(7).
فمن حيث الوزن، إن أقدم ما وصلنا من الصور الأدبية - الشعرية عن الحضارات القديمة، لا تخضع لمفهوم محدد للوزن، والغالب لكل شعر وزنه الخاص، أو نظامه التأليفي المُميّز. فالسومري - البابلي يعتمد النبر والبناء المقطعي، حيث يتكون البيت من أربعة مقاطع منبورة، مقسّم إلى صدر وعجز بينهما فراغ (بياض) لتمييز النص الشعري عن النص النثري.
والشعر العبري يعتمد نظامي التقابل والتوازي والصيغ الموسيقية وخاصة في الشعر الغنائي، مع التأكيد على تكرار المعنى الواحد في عبارات مختلفة. وهكذا الشعر الحبشي، السرياني، كان عروضه نبريا. وكذلك المصري - القديم. والشعر الصيني القديم في معظمه قصائد نثرية ولا سيما تلك التي جمعها كونفوشيوس في (كتاب الأغاني)، تتميز بالقصر والإيحاء والتركيز والصورة المعبّرة، ومثله الياباني.
وكذلك الحال بالنسبة للكثير من الشعر الشفاهي لشعوب وقبائل ما تزال لتعيش مرحلة (البدائية)، أو قالته في المرحلة هذه قبل أن تتجاوزها. هذا الشعر الذي يتراوح بين الإيجاز والقصيدة الطويلة المعقدة البناء. كما يعتمد الصيغ التعبيرية والجمالية المألوفة مثل: المجاز الاستعارة، الجناس، والجناس الاستهلالي والصورة المستلة من صور الطبيعة، والتكرار، وأنظمة إيقاعية تتوافق مع الإنشاد بمصاحبة الطبل والرقص.
هذه بإيجاز، أبرز مبتديات الكتابة الشعرية - النثرية حسبما وصلنا لحد الآن، كتابة تقوم على (الانتظام) في (اللانظام). بمعنى تحقيق (شروط)الشعرية بالصيغ المتعددة المختلفة: إيقاعية، ومجازية، وتركيبية. حيث تلعب الموهبة الفردية الفطرية، وعبر حسٍ عالٍ بالطبيعة واللغة والفكر المثيولوجي وترابطات كل ذلك في وحدة وجودية كلية، دوراً في الخلق الشعري، وتأسيس (أنظمة) - رغم التنوع - في فضاء لم يتشكل بعد بشكل نهائي، أو أنه في طور التشكل. حيث من المعروف لدى الباحثين، أن الشعر آنذاك، بدأ (شعرا سرديا) في جوهره (قصص الخليقة وغيرها من الملاحم). والشاعر يحاول عبر رؤية تخييليّة، قبل فلسفية، جمعَ نثار العالم والأشياء من خلال ملاحظته الترابطات فيما بينها، سواء من خلال إعادة خلقه أو تنظيمه وتخليصه من حالة الفوضى التي كان عليها العالم في مبتدئ خلقه، كما يتجلى في الأسطورة. أو من خلال محاولة السيطرة عليها (حالة الفوضى) كما في السحر والتعازيم والتعاويذ... إنطاقاً من الدمج بين الواقعي والخيالي، الذاتي والموضوعي، حيث يلعب خيال ما قبل الثقافة النثرية، دوراً رئيساً في إبراز تصوّر الشاعر للعالم من خلال شكل شعري بدائي - كما قال هيغل.
في ضوء ما تقدم، نفهم كيف جاءت تلك القصيدة، قصيدة (نثر وشعر معاً) أي مواجهة الخارج النثري، بحالة الداخل الشعري. وبحسب تعدد الرؤى الذاتية والتحرر من سلطة أشكال قبليّة، وبإحساس عميق بالدهشة البكر والقدرة على الخلق، راح الشاعر يؤسس العالم والأشكال الفنية عبر عملية جدلية يكون الشكل فيها غالبا - إن لم نقل دائما - هو الحامل للرسالة الأيديولوجية - الطوباوية الخاصة به، والمتأثر بها، كما هي قصيدة النثر الآن (التشديد على المضمون كسمة تكوينية محدّدة للشكل في قصيدة النثر بوصفها النوع الذي يتميز جزئيا بندرة نسبية في المتطلبات الشكلية) كما قال جوناثان مونرو.
ربما هناك من يرى في هذه المقاربة، تمحّلاً أو إسقاطاً لما هو معاصر على ما هو قديم، أو بالعكس. وأقول بداءة، أني لا أفترض علاقة مباشرة، ولا حتى غير مباشرة بين قصيدة النثر وهذا الأقدم. لأني - في الأقل - لم أسمع ولم أقرأ لأحد من جميع من كتبوا قصيدة النثر أو الشعر المنثور، أو أي نوع من أنواع الكتابات النثرية - الشعرية / المعاصرة ما يشير إلى أنه تأثر بهذه الكتابات القديمة أو احتذاها باستثناء ما هو معروف عن تأثر بعض الشعراء بأسفار التوراة القديمة. لا سيما المزامير ونشيد الانشاد. باعتبارها شعر نثري، أو شعر له نظامه الخاص من حيث المقابلة والموازاة والصيغ التعبيرية والموسيقية.
ولكن الشيء الأكيد الذي لاحظه معظم الباحثين، أن الشعر المنثور بجميع أصنافه ومختلف تسمياته الشائعة، استخدم التقنيات نفسها التي نجدها في الكتابات النثرية - الشعرية القديمة. فعلى سبيل المثال، وصف جيمس ميللر ديوان (أوراق العشب) لوالت ويتمان، بأن (نظرة على أية صفحة من صفحاته، تكشف عن استخدام طرائق أساسية في الصياغة اللغوية. مثل ذلك: السجع، الجناس، التكرار، الطباق، التشابه، وكثير غيرها. ومع أن ويتمان قد حرّر نفسه من القافية والوزن. فإن شعره مملوء بالوزن المنبثق من ذاته، له في الأذن جرس قوي، وإن كان يفلت من إدراك العين)(8).
وإذا تأملنا الكتابات النثرية - الشعرية القديمة، نجد أنها، جميعها، كانت تتخذ الطرائق نفسها التي تعتمد الصياغة اللغوية: السجع، الجناس بأنواعه، التكرار، المطابقة، المواراة، التشبيه ...إلخ. علماً أن كل نمط من تلك الأنماط الكتابية، وحسب اللغات والثقافات، يتخذ له نظامه الوزني / الإيقاعي / الخاص، وفي إطار ما يعرف بالإيقاع النبري، كما له تقنياته الخاصة به.
وهكذا لو أخذنا السمات الأساسية لقصيدة النثر وجُلّ الكتابات الشعرية - النثرية الحديثة، تحت أية تسمية جاءت، بما فيها الشعر الحديث، وفيه نثر كثير، سنجد أن جُلّ سماتها – إن لم نقل كلها – تتماثل مع السمات نفسها في الكتابات النثرية – الشعرية القديمة، ومن أبرز هذه السمات:
أولا: العفوية أو التلقائية، ويُقصد بها الكتابة دون آلية أو قصديّة مسبقة. وكما يكتب النثر في تدفقه دون التقطيع الشطري المعروف في الشعر الحديث، (فقصيدة النثر تأليف يطبع كما يطبع النثر) في استثماره لفضاء الصفحة، ولكنه يتميز بالعناصر الأساسية المألوفة للشعر، فالعفوية لا تعني الاستطراد والهذيان كيفما اتفق – أبداً.
ثانيا: الإيجاز: وقد فُهِمَ خطأ – حيث اعتقد الكثيرون أن القصد من الإيجاز هو القصر، (القصيدة القصيرة) في بضعة أسطر فحسب، بينما المقصود به هو عدم وجود فائض لغوي في السياق، فقد تُوصف القصيدة بالكثافة أو الإيجاز حتى لو بلغت عدّة صفحات طولاً. وقد تحتاج إلى (تقليم) مع أنها لا تتجاوز الخمسة أسطر، مثلا، ولكنّ المبدأ الأساس هو أن تكون موجزة مكتوبة بأكبر اقتصاد بالوسائل.
ثالثا: تميُّزها بقوة تنظيمية خفيّة لعالم الفوضى، أي تحويل ما هو نثري إلى شعري. وإذا رجعنا إلى كثير من تراثات الشعوب، بما فيها تراثنا النثري العربي، سنجد أن الكثير مما يوصف بالنثر، ينطوي على طاقات شعرية هائلة ولا سيما التراث النثري الصوفي.
وهذا يعني أن تخلي قصيدة النثر عن الوزن والقافية – اللذين هما من الوسائل البارزة في الشعر الموزون المقفى لضبط حركيّة الإيقاعين الداخلي والخارجي للعالم – لا يعني تخليها عن الإيقاع الذي هو لازم للشعر. أي التعويض بما يسمّى بالإيقاع الداخلي عن الإيقاع الخارجي (الوزن) بوسائل أخرى كالجناس والصور والمواراة والتقفية الداخلية والجملة الطويلة أو القصيرة، والسخرية، والغرابة، تناغم الأصوات ...إلخ.
إن الخصائص أو الضوابط الإيقاعية هذه، هي ما نجدها في الكتابات النثرية – الشعرية القديمة، رغم ما يقوله البعض، بأنه لم يستطع أحد حتى الآن أن يضع قوانين لقصيدة النثر أو غيرها من الكتابات النثرية – الشعرية، لتمتعها بنصيب عال من الحرية.
رابعا: الحرية: إذا كان شاعر قصيدة النثر أو الكتابات النثرية الشعرية الحديثة، ألقى وراء ظهره كل – أو معظم التقاليد الشعرية الموروثة للشعر، خالقاً "تقاليد جديدة لقصيدته في إطار من الحرية، فإن الشاعر القديم كان في (جوّ) الحرية الكاملة لإنشاء قصيدته وتنظيمها وتخليصها من (جوّ) العدم والفوضى. فهو (خالق) بالمعنى المجازي والاصطلاحي لمفهوم (الخلق) فقد وجد نفسه منشأً في الفوضى وعليه أن ينظم هذه الفوضى / قصص الخلق مثلاً" عن طريق ضبط حركة الكون والأشياء في إيقاعية منظمة، أو ترتيب هذه الحركة بطريقة أو طرق من التأليف مخصوصة.
وخلاف هذا، ما وجده الشاعر الحديث، وجد العالم مرتباً ومتشكلاً "في (شكل) ولكي يحقّق ذاته ويعبّر بحرية، كان لا بد من ارتكاب فعل الهدم لإعادة تشكيل العالم والأشياء من جديد مستخدمها"، غالبا، المادة القديمة نفسها: اللغة. والكثير من الصور والرموز والاستعارات ... إلخ. ولكن بكيفية تراتبية ودلالية مغايرة.
ولهذا، وربما بسببه، قيل: إن قصيدة النثر تنطلق من النثر إلى الشعر، أي من الفوضى، التي أحدثتها هي بفضل تمردها على قوانين الشعرية المعتادة (العروض، اللغة، الشكل ...إلخ.)، إلى التنظيم، بينما تسعى قصيدة النثر لتجاوز كثير من قوانين الشعرية هذه لتقترب من النثر.
خامساً: السرديّة: وبوصف قصيدة النثر وجملة الكتابات النثرية – الشعرية: دلالية. فهي ذات ميل شديد نحو تمثّل تجربة الحياة اليومية وفلسفتها عبر مختلف مستوياتها الاجتماعية والدينية والفكرية... كانت السردية إحدى أبرز خصائصها البنائية. لا من حيث كونها (نثر...) فحسب، أي استعادة تقنية البنية الجُمليّة والأسلوبية في السرد، بل ومن حيث البنية الهيكلية في التسلسل والبناء الهرمي للأحداث، أي من حيث تميزها بخاصية حكائية.
والخاصية الحكائية – الدلالية هذه، هي ما يميّز جوهريا الكتابات الشعرية – النثرية الأقدم. كما تتمثل في شتى أنواع القصص والأساطير والملاحم وقصائد (السلسلة) المعروفة.
***
إذن، إذا صحّ القول أن قصيدة النثر والكتابات النثرية – الشعرية المعاصرة، قد استعاضت عن الأنظمة الصارمة المعروفة للأنموذج الشعري التقليدي (القديم والحديث معا) بعناصر أساسية في البنية الشعرية، كالتوازي، التكرار، الجناس، الكثافة، دلالة الصوت، طاقة السرد، القافية الداخلية وغير ذلك من الصور البلاغية الأخرى... فإن هذه الكتابات "المعاصرة" تكون قد انجذبت إلى ما يطلق عليها البعض: (المنطقة الأصلية) للشعر.
فبعد اكتشاف معظم آثار الحضارات القديمة: الأدبية والفنية والـ (قبل علمية) اتفاق شبه تام بين العلماء والأدباء المعنيين أن الإنجاز (البدائي) دائماً يدعوهم إلى (المنطقة الشعرية حيث يحلّ الحلم محل التفكير وحيث القصائد تُخفي النظريات) كما قال باشلار، وفي هذا يستوي (المفكرون القبل علميّون وأصحاب أحلام اليقظة والشعراء، على السواء).
وفي هذا أيضاً، تقترب طفولة المرء مما يسمّى (طفولة الشعوب) أي أن تظل تجربة الطفولة محتفظةً بقوتها الإيحائية في تغذية الخيال، حيث تُعيد للمرء، دائما، حس الدهشة الذي يكتشف به الطفلُ الحقائقَ لأول مرة... ومعروف أن لكل صورة تميزت بعلامة البداءة أو الطفولة، دلالة ومغزى ظاهراتي خاص، وكما قال نوفاليس: (كل بداية حقيقية هي لحظةٌ ثانية) لأن الأصول الحقيقية تعود بنا إلى التجارب الأولى، وواجب الشاعر هو أن يستعيد ما أسماه باشلار "أسبقية الكينونة"(9).
(10)
نشرت هذه المقالة في مجلة المسار – العدد 24-25 – حزيران 1995
الهوامش
(1) | هناك من يشترط التدوين لاكتمال (النص) / يُنظر مقالنا: (ملاحظات في النص) مجلة (أفكار) – الأردن – عدد (111) – 1993. |
(2) | يرى ليو أوبنهايم أنه يمكن تفسير ترتيب بيت الشعر في حضارة وادي الرافدين من صدر وعجز بالدور الصوتي وبكمية الحروف التي تمثل هذه الأصوات (ص324) وهو أيضاً ما ذهب إليه حازم القرطاجني: (المنهاج) من أن تشطير البيت في الشعر العربي جاء بحسب المساواة في الزمن في الأوزان (ص263). |
(3) | ذهب إلى هذا معظم نقّاد ومؤرخي الأدب العربي القدماء، ومنهم النهشلي في (الممتع في علم الشعر) قال: (قال بعض علماء العربية: أصل الكلام منثور، ثم تعقّبت العرب ذلك...) وقال: (لما رأت العرب المنثور يندّ عليهم، وينفلت من أيديهم، ولم يكن لهم كتاب يتضمن أفعالهم، تدبّروا الأوزان والأعاريض، فأخرجوا الكلام أحسن مخرج بأساليب الغناء، فجاءهم مستوياً، ورأوه باقياً على مر الأيام، فألفوا ذلك وسمّوه شعراً) – ص11،24 تحقيق د. منجي الكعبي – الدار العربية للكتاب، تونس. |
(4) | ينظر كتابنا: (البناء الفني في الأدب الملحمي العراقي القديم – ملحمة جلجامش نموذجاً) سلسلة (آفاق)، عدد (8)، وهو أيضاً ما ذهب إليه جملة الباحثين في أدب الحضارات القديمة. |
(5) | وهكذا يمكن القول بشأن الأشكال الأخرى التي أداتها اللغة مثل: القواديسي، ذوات القوافي، المسمّط، فإن شعرية (النص) فيها ظلت محددة بالسمات الكامنة في اللغة وماهيتها، فضلاً عن الميزة الشفاهية – الغنائية، ينظر مقالنا (إشكالية المختلف) مجلة (الأقلام) العددان 5-6 أيار/حزيران 1992. |
(6) | مجلة (فراديس): العدد 6/7 – 1993 ص 52، خاص بقصيدة النثر في العالم. |
(7) | بلاشير: تاريخ الأدب العربي – ترجمة: إبراهيم الكيلاني: 1/92. |
(8) | (والت ويتمان شاعر أصيل) لجيمس ميلر – ترجمة: محمد فتحي الشنيطي – مكتبة الوعي العربي – القاهرة، ص 109-110. |
(9) | عن كتاب (الأسطورة والرمز) ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا – ص 40-41. |
(10) | لقد استفدنا في أكثر من موضع من كتاب (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) لسوزان برنار – ترجمة: د. زهير مغامس – دار المأمون – بغداد 1993. وليو أوبنهايم كتابه: (بلاد ما بين النهرين) – ترجمة: سعدي فياض عبد الرزاق – بغداد – 1981. |
التبليغ عن خطأ
هل أنت متأكد أنك تريد حذف هذه المقالة
بحالة حذفها فإنك ستخسر جميع الإحصائيات المتعلقة بها.
أضف شاعراً مذكوراً بالمقالة
أضف قصيدة مشار إليها بالمقالة