الشعرية والخطاب الشعري في النقد العربي الحديث - سعيد الغانمي | القصيدة.كوم

كتبت عام: 1995


377



الشعرية والخطاب الشعري في النقد العربي الحديث


-1-

ينبغي لنا، أولا، أن نحدد المقصود بالشعرية. ما دام الأدب يعتمد في مادته اللغة، وما دامت اللغة مشروطة ببناها الصوتية والنحوية والدلالية، فإن عين دارس الأدب تتجه، قبل كل شيء، إلى المظاهر اللغوية في الأدب، أي الى هذه البني "الصوتية والنحوية والدلالية، لوصف العلاقات القائمة بينها، بشرط ألا ينسى هذا الدارس أنه أمام نص أدبي، وليس نصا يستعمل اللغة المعيارية العادية. وتبدأ فرادة الأدب، في رأي جاكوبسن، من كونه رسالة تتجه الى ذاتها. وفي حين يدرس علم اللغة مستويات التحليل اللغوي، فان العلم الذي يدرس مستويات التحليل الأدبي هو الشعرية، ومثلما يهتم علم اللغة أو اللسانيات بدراسة القوانين المجردة في اللغة، وليس في الكلام أو التطبيق الفعلي، تحاول "الشعرية" كذلك الإمساك بوحدة الأعمال الأدبية وتعددها في وقت واحد. ومن هنا فإنها تريد أن تشتغل على الأعمال، وليس على النصوص، فتضع المصطلحات الضرورية والأدوات الإجرائية اللازمة التي لا تقتصر على إضاءة؟ ما تشترك به هذه الأعمال، بل ما تختلف فيه أيضا، دون ان تغفل أهمية الأوصاف الجزئية في النصوص المفردة. وبهذا المعنى فان موضوع الشعرية يتكون من الأعمال الممكنة، أكثر مما يتكون من النصوص الموجودة بالفعل. (1)

الشعرية، إذن، تفكر بأعمال وتشتغل على نصوص. وهذا ما يعطيها سمتين أساسيتين: الأولى انها لا تتعلق بقراءة الاعمال الأدبية أو تأويلها، بل أن تتأمل في الأدوات الإجرائية لتحليل هذه النصوص، ولذلك فان حقل اشتغالها ليس ما يوجد، أو وجد سابقا من أعمال؟ بل الخطاب الأدبي نفسه، وما يميزه عن سواه من أنواع الخطابات الاخرى، من حيث هو مبدأ مولد لعدد لا حد له من النصوص. فهي حقل نظري يريد ان يثرى بالبحث التجريبي. والثانية: إن تفكيرها بالنصوص الأدبية دون تعيين لجنس أدبي معين، يجعل منها حقلا يهتم بالتمييز بين ما هو أدبي وما هو معياري، أي بين لغة يمكن أن تفيض عنها لغات ضمنية أخرى، ولغة تكتفي بحدها الأدنى، وليس حقلا للتمييز بين ما هو شعري وما هو نثري مثلما كانت الحال في دراسة الأدب سابقا. قد عاني النقد العربي منذ "المبرد" حتى وقت قريب من ثنائية البلاغتين. بلاغة الشعر والوزن، وبلاغة النثر والخطبة. (2) أما الشعرية فتقترح بديلا آخر عن هذه الثنائية لتجعل التمييز بين الخطاب الأدبي والخطاب غير الأدبي.

واستنادا الى القوانين الداخلية المستخلصة من الأعمال المفحوصة، في حقبة معينة، تحاول الشعرية ان تسأل السؤال الأخطر: "ما الأدب؟". وان تعثر على ما يشكل هوية كل نص اختلافا وائتلافا. وهي لا تعول على الموجهات الخارجية كالوقائع والأحداث والنيات، ما لم يكن هذا التعويل قائما على أساس داخلي نصي. ان الشعرية قراءة داخلية وليست خارجية للأعمال الأدبية في تمايزها واندماجها. وحيث ان كل نص يتكون من طبقات متعددة، ومستويات متفاعلة، فان الشعرية تحاول فرز هذه الطبقات وتحديد العلاقات القائمة بين المستويات المتداخلة في النص الواحد، من خلال نصوص متعددة. وهذا ما يميزها عن "القراءة" التي هي استكشاف في نص مفرد ذي نظام خاص وتحليل له، وما يميزها أيضا عن اللسانيات التي تكتفي بالوصف اللغوي البحت دون استكناه التداخل والتعدد والتفاعل في هذه المستويات.

من هنا لا تنحصر مهمة الشعرية بالنصوص والأعمال الشعرية وحسب، بل بالنصوص الادبية جميعاً، حتى ليمكن الحديث عن شعرية القصة وشعرية الرواية وشعرية المقامة ..إلخ.

ومع ذلك فان ما يعنينا هنا ليست هذه الشعريات، بل شعرية الشعر وحده، أي ما يميز الخطاب الشعري من منظور النقد العربي الحديث، وفي بعض تطبيقاته الفعلية.

وستحاول هذه الورقة ان تفحص المفهوم النقدي عن شعرية الخطاب في النقد العربي الحديث في ثلاثة نماذج، تعدها ثلاث لحظات أساسية، هي: نازك الملائكة، وأدونيس، وكمال أبو ديب، وان تتوصل من خلال هذا الفحص الى بلورة مفهوم نقدي خاص بها. وغني عن البيان ان النماذج المدروسة هنا قد أسهمت الى حد كبير في تطوير حركة النقد العربي الحديث بإصرارها على لحظة التأمل الداخلي في الابتداء بالسؤال عن المقومات الضمنية الداخلية للشعر، وبالتالي استبعاد الموجهات الخارجية (الواقع، والمرجع، الايديولوجيا) والانطلاق من العناصر البنيوية للشعر نفسه.


-2-

لا تكف نازك الملائكة عن الإشارة الى "ان الشعر ظاهرة عروضية قبل كل شيء. ذلك انه يتناول الشكل الموسيقى للقصيدة ويتعلق بعدد التفعيلات في الشطر، ويعنى بترتيب الأشطر والقوافي وأسلوب استعمال التدوير والزحاف والوتد وغير ذلك مما هو قضايا عروضية بحتة". (3) وفي مناقشتها لقصيدة النثر تصر نازك الملائكة ان "الوزن هو الروح التي تكهرب المادة الأدبية وتصيرها شعرا، فلا شعر من دونه مهما حشد الشاعر من صور وعواطف، لا بل ان الصور والعواطف لا تصبح شعرية، بالمعنى الحق، الا إذا لمستها أصابع الموسيقى ونبض في عروقها الوزن". (4)

الشعر، في رأي نازك، كلام عاطفي موزون، بل ان هذه العاطفية هي نتاج كهربة الوزن. والشعرية، بما هي المبدأ المولد للخطاب الشعري، تقوم عندها على الوزن. فالوزن هو روح الشعر. وهو رأي يجد أساسه التاريخي عند الزهاوي الذي كان يرى – وهو يخوض معركة الشعر المرسل – ان الوزن هو العمود الفقري الذي لا يمكن الاستغناء عنه في الشعر، بينما لا تزيد القافية عن كونها ذيلاً لهذا الكائن الحي. ولا حياة لكائن حي بلا عمود فقري، أما ذيله فقد يستغنى عنه ويظل كائنا حيا. ان استعارة الروح الوزنية والمادة الأدبية لدى نازك تستفيد من هذا التناظر. فالوزن في كلا الرأيين، وسواء أسميناه روحا أم عمودا فقريا، يظل جوهر الشعر الذي يستطيع أن يتخلص من بعض زوائده الإيقاعية كالقافية – وهي متشابهة في حالتي الشعر المرسل والشعر الحر – ويظل مع ذلك جوهرا. ومن جهة أخرى يستجيب هذا الرأي لخصومة ضمنية أو صريحة بين طريقتين في الكتابة هما الشعر الحر وقصيدة النثر، وعلى احداهما ان تستبعد الأخرى بإثبات شرعية ولادتها من رحم الموروث الشعري، ولا شرعية ولادة الاخرى. وهذا ما يجعل نازك الملائكة تقع في تقسيمات خارجية للناس بالنسبة الى الشعر:

1- إنسان يتذوق الشعر يميز الوزن فيه.
2- إنسان ينظم الموزون بلا جمال .
3- إنسان يحسن النظم بموهبة موسيقية عالية.

إن هذا التقسيم، الذي لا يختلف كثيرا عن تقسيم "الشعراء فاعلمن أربعة"، لا يبسط القضية الى درجة التبذير وحسب، بل يوقع نازك الملائكة نفسها في كثير من الأحكام المتراجعة، من نحو أسفها على فقدان النظم سمعته الإيجابية، وفي الواقع فان هذه المسألة تتجاوز الخصومة المؤقتة بين أنصار الشعر المقفى والشعر المرسل في العشرينيات، أو أنصار الشعر الحر وقصيدة النثر في الستينيات. انها تتعلق بهوية الشعر نفسه. فهل صحيح ان الشعر لا يتعدى حدود الظاهرة الوزنية؟

إن الاكتفاء بالوزن أساساً أو جوهراً للشعر، وبصرف النظر عن الخصومات الشخصية أو الكتابية بين هذا الشاعر أو ذاك لا يعني انتصارا للمنظومات التعليمية كالألفيات والأراجيز وحسب، بل أنه يفقر العروض نفسه، ويجرده من وظائفه. فهو يجعله يؤدي وظيفة تزيينية لتطريز القول، ثم يزعم ان هذا الوظيفة التزيينية السطحية هي جوهر الشعر. والحال ان الوزن يمكن ان تكون له أكثر من وظيفة، بل ان شعرية الشعر تقوم في الأساس – كما سنرى – في ادعاء وظيفة والقيام بغيرها فيمكن للوزن – شأنه شأن بقية عناصر الشعر – ان يدعي القيام بوظيفة، لكنه سرعان ما يقوم بوظيفة أخرى خلسة وبرغم اقتناعنا بان الجوهر ليس سوى مجموعة مظاهر، او علاقات، وقبل ان نتأمل إمكان انطواء الوزن على أكثر من وظيفة، نسأل ما وظيفة الوزن في رأي نازك؟

تقول نازك "إن السبب المنطقي في فضيلة الوزن، هو انه، بطبعه، يزيد الصور حدة ويعمق المشاعر، ويلهب الأخيلة، لا بل انه يعطي الشاعر نفسه، خلال عملية النظم نشوة تجعله يتدفق بالصور الحادة والتعابير المبتكرة الملهمة. ان الوزن هزة كالسحر تسري في مقاطع العبارات وتكهربها بتيار خفي من الموسيقى الملهمة". (5)

إذا جردنا هذه الإجراءات "النقدية،" من أغلفتها الشعرية، وجدنا ان وظيفة الوزن، أو فضيلته كما تقول، هي زيادة الصور حدة، وتعميق المشاعر، وإلهاب الأخيلة. ولكن مشاعر من؟ وأخيلة من؟ من الواضح ان نازك تحيل إلى ذات الشاعر نفسه، الذي يعطيه الوزن "نشوة خلال عملية النظم". ما تتحدث عنه نازك هنا إذن هو الشاعر أمام نص مكتوب. وهي تتصور وجود العبارات الشعرية أولا، ثم دخول الكهربة الوزنية عليها ثانيا. ووظيفة الوزن هنا إيجابية قارة تستند اليها جماليات الإيقاع في القصيدة. والحقيقة أن الوزن لا يستطيع ان يقوم بذلك إلا إذا كان نقيض ما تشير إليه نازك، أي إذا كان يقوم بوظيفة سلبية غير قارة.

لقد سبق لي أن ميزت بين الوسائل البديعية والوسائل البيانية، وقلت أن الوسائل البديعية هي وسائل التنميط الصوتي التي تمتاز بالتوصيل، والاتجاه نحو الصوت، وواحدية المعنى والموضوعية، وهي بطبيعتها خطية، تعمل على محور التأليف، فتعتمد الذاكرة، وقياس الصورة على مثال سابق. أما الوسائل البيانية، التي هي وسائل التنميط الدلالي، فتمتاز بالتضليل والاتجاه نحو المعجم، وتعدد المعاني، والذاتية، وخلق الصور على غير مثال، والتركيز على محور الانتقاء، وقوة الخيال والعمودية. (6) وفي اللغة المعيارية/ العادية، فإن أية جملة تحاول ان تقيم موازنة بين نوعي الوسائل المذكورين، فتقف، مثلا، حيث يتطلب الصوت والمعنى. أما في الشعر، فان الوقفة تتم حيث يكون هناك انقطاع على مستوى الصوت، واستمرار على مستوى المعنى. ولو نظرنا الى التوصيل الشعري، من حيث هو مكتوب، لا من حيث يكتب الآن، لوجدنا ان وظيفة الوزن تعمل في الأساس، أو في الأقل تغري بانها تعمل على مستوى الوسائل البديعية، أي أنها وسيلة من بين وسائل التنميط الصوتي. وبالتالي فان وظيفة الوزن ستكون الإغراء بالتوصيل وواحدية المعنى. وهذه هي اللحظة التي تتوقف عندها نازك.

لكننا لو أمعنا النظر في هذه الحالة لوجدنا ان أهم صفة يتصف بها الشعر هي التفاعل بين مستويات التحليل، حيث تستطيع وسيلة بيانية ان تقوم بوظيفة بديعية، والعكس بالعكس، فيمكن ان يتنكر الوزن بأداء وظيفة دلالية وليس صوتية فحسب.

تمثيلا على ذلك لنقرأ قصيدة "مدينة أخرى" لمحمود البريكان: (7)

وراء المدينة ذات الوجوه المئة
هناك مدينة أخرى
وراء المدينة حيث تشع العمارات
حيث تدور الميادين حيث تعج المتاجر
هناك مدينة أخرى

هناك مدينة الأشباح والأصداء
ساكنة تقلب ذكريات رجالها الموتى.

وراء مدينة الألوان والأشكال
والضوضاء والحركة
هناك مدينة أخرى

تراقب خطو الغريب الذي هو أنت.

من الواضح أننا أمام مدينتين، كل منهما في داخل الأخرى مدينة العمارات، وتحتها مدينة الأشباح. كلتا المدينتين في مكان واحد. توزيع الأبيات بهذه الطريقة مقصود. لقد جعل الشاعر أبيات المدينة السفلية تبدأ من منتصف أبيات المدينة الظاهرة، وكأنها تولد من خصرها. لكن لكل مدينة وزنا خاصا وإيقاعا خاصا. مدينة العمارات من المتقارب، ومدينة الأشباح من مجزوء الوافر.

وكأن لكل مدينة قصيدة خاصة وشاعرا خاصا، فنستطيع نحن أن نميز بين شاعرين وقصيدتين. سيقول شاعر المدينة الأولى قصيدة من بحر المتقارب:

وراء المدينة ذات الوجوه المئة
وراء المدينة حيث تشع العمارات
حيث تدور الميادين حيث تعج المتاجر
تراقب خطو الغريب الذي هو أنت.

ويقول شاعر المدينة الثانية أبياتا من مجزوء الوافر:

هناك مدينة أخرى
هناك مدينة أخرى
هناك مدينة الأشباح والأصداء
ساكنة تقلب ذكريات رجالها الموتى.
وراء مدينة الألوان والأشكال
والضوضاء والحركة
هناك مدينة أخرى

وظيفة الوزن هنا لا تقتصر على إحداث التأثير الايقاعي بالدورات الزمانية التي تشغلها الجملة الشعرية، بل هي تحدد وجهة النظر. اختلاف الإيقاعين أو الوزنين هو في الأساس اختلاف بين وجهتي نظر لشاعرين مختلفين، وليس مجرد تطريز خارجي. هناك مدينتان، لكل مدينه شاعر، وكل شاعر يكتب قصيدة من بحر مختلف عن بحر القصيدة الأخرى. اختلاف الإيقاع هو اختلاف في وجهات النظر، ولا يهم بعد ذلك ان كانا سيتلاقيان (كما سنرى في مكان آخر) أو لا. فالوزن يمكن أن يقوم بوظيفة تضليلية، كما يقوم بوظيفة توصيلية. وبالتالي فهو يمارس من التأثيرات المعنوية سراً بقدر ما يمارس من التأثيرات الصوتية علانية.


-3-

في الجهة المقابلة لتطرف نازك الملائكة يقف تطرف أدونيس . فهو يكتب بوعي كبير لتجربته أن هناك نقدا "يرفض سلفا البحث في إمكان النظر إلى قصيدة النثر شعريا، أو يرفض أن يرى الشعرية خارج الوزن، ويعني بذلك انه متأصل في قديم ما، وأنه بسبب من ذلك عاجز عن النظر إلى الجديد إلا بذائقة تقليدية، وهو إذن لا يفهم الجدة الشعرية، بل أنه في أحيان كثيرة يطمسها ويشوهها". (8) وخشية أن يقع أدونيس في الحصرية التي وقعت فيها نازك الملائكة، فانه يمسك العصا من طرفها الآخر. وهكذا يستعيد تمييز نازك بين درجات التعبير، بعد أن يحوره تحويرا ضروريا، فتظهر لديه أربع طرق كما يسميها:

أ – التعبير نثريا بالنثر.
ب – التعبير نثريا بالوزن.
جـ – التعبير شعريا بالنثر.
د – التعبير شعريا بالوزن.

التعبيران الأول والثاني لا يختلفان في استعمالهما عن اللغة العادية لأنهما نثر أصلا، أما الثالث والرابع فهما مناط اهتمام أدونيس. الأول هو التعبير في اللغة العلمية والقانونية التوصيلية الواضحة. والثاني هو التعبير في الأراجيز والمنظومات التعليمية. والثالث هو تعبير قصيدة النثر والكلام الفني المنثور. والرابع هو الشعر الموزون في أشكاله المختلفة. وبرغم ما يلاحظه أدونيس من كون الوزن في التعبير النثري خارجيا "وانه كمي لا نوعي، أي أنه ليس عنصريا شعريا" فان هذا التقسيم ليس سوى تنويع على ثنائية البلاغتين القديمة بعد طرد الوزن، واعتبار "الدلالة" مقوما للشعرية. على نحو قبلي. ولكي يوضح أدونيس مفهومه عن الشعر يعطي المثالين التاليين:

أ – الليل نصف اليوم.
ب – الليل موج (أو جمل). (امرؤ القيس). (9)

يقول: "الجملتان هنا عن الليل كموضوع واحد، لكنهما تثيران طريقتين مختلفتين لإدراكه والإحساس. عدا ان لهما معنيين مختلفين. المعنى في الجملة الأولى نثري، فنقول بكلام نثري، والمعنى في الجملة الثانية شعري، فنقول بكلام شعري. الكلام في المستوى الأول إعلامي، إخباري، يقدم معلومات حول الأشياء، ويدور في إطار المحدود، المنتهي. أما الكلام في المستوى الثاني، فيوحي ويخيل، يشير إلى ما يمكن أن يكتنز به الشيء، ويوحي بصور أخرى عنه، أي بإمكان تغيره، وهو يدور في المنفتح وغير المحدود". (10)

ولكن هذه الصياغة تثير كثيرا من الأسئلة، فهل يمكن الفصل بين الصوت (أو الكلام) والمعنى؟ وهل هناك معنى بلا صوت؟ وهل يمكن حقا الحديث عن معنى "شعري" ومعنى "نثري"؟.

منذ الجرجاني لم يعد بإمكان البلاغة العربية أن تقول بفكرة المعاني المطروحة على الطريق. فالنظم أو التأليف هو الذي يحدد فصاحة الكلمة. إن الكلمة المفردة لا تستمد معناها من ذاتها مستقلة عما يجاورها من الكلمات بل تستمد معناها في الأساس من موقعها الى جوار الكلمات التي ترد قبلها أو بعدها. وما من موضوع شعري أو غير شعري، وما من كلمة "شريفة" أو "غير شريفة" باستقلال عن سواها من الكلمات "فالألفاظ – كما يقول الجرجاني – لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة. وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ. ومما يشهد لذلك انك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر". (11)

لا بل ان معنى الكلمة لا يتحدد بعلاقات الحضور التي تربطها ببقية الكلمات الحاضرة قبلها أو بعدها في الجملة فقط، بل يتحدد بعلاقاتها بكلمات اللغة الأخرى الغائبة عن تلك الجملة هما يمكن ان تتبادل معها المواقع أيضا. ولكل وحدة لغوية وجهان هما الدال (وهو الصورة الصوتية) والمدلول (وهو التصور الفكري)، وسواء أكانت العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية كما يرى دي سوسير، أم ضرورية كما يرى بنفنست، فإن المعنى هو نتاج تفاعل هذين الوجهين في تأليف لغوي ينسجم مع أعراف اللغة المستعمل فيها. فلا معنى إذن للحديث عن معنى شريف، أو معنى شعري، ومعنى غير شريف أو غير شعري.

يقودنا هذا إلى القول أن "التواتر الدلالي" الذي يشير إليه أدونيس، ليس خاصا بالمعنى أو الموضوع، بل هو نتاج تفاعل الصوت والمعنى، وحيث ان الوزن هو أحد مظاهر الصوت، فانه يمكن أن يكون عنصرا فاعلا في تغيير المعنى، كما رأينا في مثال قصيدة البريكان، وطبيعي أنه لا يستغرق كلية المعنى، أما الشعرية، من حيث ارتباطها بالمعنى، فتنشأ عن مقدار تراتب المعنى في داخل البنية الصوتية، أي ما يمكن ان تختزنه البنية الصوتية الواحدة من معان متعددة. إن اتجاه الرسالة الشعرية الى ذاتها يجعلها تستطيع ان تتظاهر بأكثر من معنى. فهي شفرة واحدة تفيض عنها معان أوائل، ومعان ثوان، ومعان ثوالث، وربما معان روابع وهكذا… وهذا ما تسميه البلاغة الحديثة دلالة الايحاء، وما يسميه الجرجاني معنى المعنى، حيث تعني اللغة أكثر مما نقول، في مقابل دلالة المطابقة، أو المعنى الأول حيث تكتفي اللغة بأن تعني ما تقول.

وانطلاقا من تحديد سلبي للشعرية، يريد أدونيس ان ينفيها عن النثر الموزون، بدلا من استكشافها في الشعر المنثور أو الموزون. ويصل في الآخر إلى أن الوزن في النثر المنظوم "تكأة، شيء زائد، مجرد قالب، وما عبر عنه، بوساطته، يمكن التعبير عنه النثر دون أن ينقص شيء منه. ونرى أيضا أن "المعنى" فيه شأنه في النثر: واضح، مباشر، عقلي. ثم أن هذا المثال ينقل، "فكرة" أو مفهوما.. وهذا يوصلنا إلى القول أن الفرق بين الشعر والنثر ليس في الوزن، بل في طريقة استعمال اللغة". (12) وبنفي الشعرية عن الوزن، يصل أدونيس إلى النتيجة المضادة، وهي حصر الشعرية في "طريقة التعبير، أو كيفية استخدام اللغة".

وحصر الشعرية بـ "كيفية استخدام اللغة" منظورا اليها كمعنى قبلي، يعني إفقارا للغة الشعر والنثر معا. وقد رأينا ان الشعرية، بما هي حقل نظري، تستبدل ثنائية الشعر / النثر، بثنائية الخطاب الأدبي / الخطاب اليومي. والحقيقة ان كلتا اللغتين تستخدم، "المعاني"، ولكن في حين تكتفي اللغة العادية بالإشارة الصريحة أو دلالة المطابقة، تريد اللغة الشعرية أن تناور فتقدم أكثر من مستوى للتعبير، واقتراح للفهم.

أدونيس، إذن، يصل إلى لغة الشعر لا من خلال فحص هذه اللغة في ذاتها، وانما من خلال المقايسة الخاطئة بما ليس بشعر، أي أنه يحاول إسناد الشعرية إلى المعنى بنفيها عن الوزن. لكن هل أن القول بأن (س) من الناس ليس بملاكم يعني أن (ص) بطل العالم في الملاكمة؟.

لتوضيح إمكان أن تنطوي البنية الصوتية ذاتها على معنى تفريعي الى جوار المعنى الذي تقدمه البنية الدلالية، استشهد بالمقطع التالي من قصيدة "البرعم والرعد" لعبد الرحمن طهمازي، التي سبق ان حللتها كاملة. (13)

الجمرة التفت وبين رمادها انعدمت وأكملت الرمادا
بيدي مردت قشورها المتفطرات
أملاً
فلم أجد النواة.

تتحدث القصيدة عن إخفاق التجربة الصوفية في الوصول إلى الحقيقة. وتتحقق ذروة الإخفاق عند هذا المقطع. وتتكافل هنا البنية الدلالية والبنية الصوتية. فعلى مستوى الدلالة يتحقق الشاعر من خيبته بأن يمرد بيديه الجمرة ليجد رمادا بلا نواة، وعلى مستوى الصوت تعطينا الأبيات شعورا متسارعا بالمرارة، حيث يتكرر حرف الميم مولدا فينا الإحساس بالإغلاق والاختناق:

الجمرة التفت وبين رمادها انعدمت وأكملت الرمادا

وفي البيت التالي يكرر الشاعر حرف الراء ليعطينا إحساسا بالنقر والتردد:

بيدي مردت قشورها المتفطرات.

والغريب ان تكرار الميم ثم الراء لا يقتصر تأثيره على تفجير الحس المبهم بالمرارة، بل انه يكتبها. فلو جمعنا الميم والراء لكانت كلمة (مر). ونحن نلتقي بهذين الحرفين في وسط كلمة (جمرة) وفي مقلوب بداية (رماد) وفي أول (مردت). بل اننا لو عدنا الى المرجع الذي يمكن أن تحيلنا إليه قصيدة (البرعم والرعد) – وهو سورة الرعد في القرآن الكريم، لاشتراكهما في الاسم – لوجدنا أن أول آية في هذه السورة هي الحروف: أ – ل – م – ر. ولا يوجد التوتر الدلالي على مستوى المعاني وحسب، بل أن توليد المعاني يمكن أن يعتمد على الأصوات نفسها. فوسائل التنميط الصوتي لا تقل فاعلية عن وسائل التنميط الدلالي في توليد المعاني في الشعر.


-4-

يطور كمال أبو ديب أوسع وأشمل نظرية عربية في الشعرية تستفيد من معطيات النقد الحديث في مختلف مدارسه واتجاهاته، وتحاول ان تؤاخي بينها. وبرغم إصراره على أن "الشعرية خصيصة نصية، لا ميتافيزيقية"، (14) فانه لا يتردد في القول ان "اكتناه البعد الخفي للشعرية يبدو ان ينابيعه تفيض من أغوار عميقة في الذات الإنسانية يستحيل النفاذ إليها الآن". (15) والشعرية في التصور الذي يقدمه كمال أبو ديب وظيفة من وظائف ما يسميه بـ "الفجوة: مسافة التوتر"، وهو مفهوم لا تقتصر فاعليته كما يرى "على الشعرية، بل انه لأساسي في التجربة الإنسانية بأكملها، بيد انه خصيصة مميزة، أو شرط ضروري للتجربة الفنية أو بشكل أدق للمعاينة أو الرؤية الشعرية بوصفها شيئا متمايزا عن – وقد يكون نقيضا لـ - التجربة أو الرؤية العادية اليومية". (16)

الشعرية إذن، عنده ليست الحقل النظري الذي يدرس المبدأ المولد في الخطاب الشعري، بل وظيفة من وظائف الفجوة: مسافة التوتر. وميدان اشتغال الفجوة. مسافة التوتر ليس الخطاب، بل الرؤية والتجربة، فهي شرط ضروري للتجربة الفنية يميزها عن التجربة العادية والرؤية اليومية. ومن هنا يؤكد كمال ابو ديب ان الفجوة: مسافة التوتر هي في الأساس فضاء "ينشأ من إقحام مكونات للوجود أو للغة أو لأي عناصر تنتمي إلى ما يسميه جاكوبسن نظام الترميز Code في سياق تكون فيه بينها علاقات ذات بعدين فهي:

1- علاقات تقدم باعتبارها علاقات طبيعية نابعة من الخصائص والوظائف العادية للمكونات المذكورة ومنظمة في بنية لغوية تمتلك صفة الطبيعية والألفة لكنهها.
2- علاقات تمتلك خصيصة اللاتجانس أو اللاطبيعية: أي أن هذه العلاقات هي تحديدا لا متجانسة في السياق الدي تقدم فيه وتطرح في صيغة المتجانس". (17)

يظهر من ذلك ان الفجوة: مسافة التوتر فضاء تصوري مفهومي يقوم على مبدأ العلاقة التي تضبط عناصره المتناقضة وغير المتجانسة بما يضفي عليها صفة التجانس والوئام في داخل سياق معين. والشعرية – حقلا – هي وظيفة من وظائف الفجوة من حيث هي فضاء للتجربة الإنسانية باتساعها. وهكذا تمتلك الفجوة: مسافة التوتر قدرة الانتقال من مستوى بحثي الى آخر، فهي أحيانا فضاء للمكونات الفكرية لدى المبدع، أو ما يسميه لوسيان جولدمان برؤية العالم، وأحيانا فضاء للمكونات اللغوية في النص، وفي الوقت نفسه قد تكون فضاء لآليات التلقي لدى القارئ. يقول أبو ديب: "تتشكل الفجوة: مسافة التوتر لا من مكونات البنية اللغوية وعلاقاتها فقط، بل من المكونات التصورية أيضا، أي لا من الكلمات فقط، بل من الأشياء أيضا". (18)

اتساع مفهوم الفجوة: مسافة التوتر هذا يبدأ ولا ينتهي. فهي تشمل ما قبل النص والنص وما بعده، وتكون جزءا من تاريخ الأدب، والأعراف التي تسود فيه، وجزءاً من رؤيا العالم لدى الشاعر أو الكاتب، وخصيصة نصية، وطريقة لاستقبال النص في النظام الذهني لدى القارئ. يكتب أبو ديب: "يمكننا أن نقرأ تاريخ الشعر باعتباره تاريخ الفجوة: مسافة التوتر وتطورها عن الكلاسيكية إلى السريالية ومدارس الحداثة المختلفة. وكتابة مثل هذا التاريخ للفجوة واتساعها المستمر لا على الصعيد اللغوي الصرف فقط، بل على صعيد تصور الفنان لنفسه وعلاقته بالآخر، والمواقف الفكرية والرؤى الابداعية، وعلى صعيد تصور بنية العمل الأدبي أو الفني، ستكون مهمة شاقة دون شك، لكنها ستكون أيضا مليئة بالإثارة والكشوف الفنية". (19) وبالتالي تتحول الفجوة: مسافة التوتر من مستوى البحث عن المقومات النصية لشعرية الشعر إلى مستوى التجريد الفلسفي الذي يبحث عن الموجهات الفكرية لشعرية العالم، أي أنها بحكم محاولتها الجمع بين المذاهب والمناهج النقدية المختلفة، محكومة بالتحول من خصيصة نصية إلى خصيصة ميتافيزيقية تبحث، باسم النزوع الشامل، عن الشعرية خارج الشعر.

ضمناً، يريد كمال أبو ديب أن يوفق بين عدة مناهج. ولعل أهم هذه المناهج التي يريد التوفيق بينها هي: النقد المتجه إلى القارئ عند. آيزر وجماعة نقد استجابة القارئ، والنقد المتجه إلى النص لدى السيميائيين من أمثال يوري لوتمان وريفاتير وجان كوهن وسواهم، والنقد المتجه إلى السياق وبخاصة لدى لوسيان جولدمان.

لقد استعمل آيزر مفهوم "الفجوة" في كتابه "القارئ الضمني" مطورا إياه عن انغاردن. وتمثل عملية القراءة لدى آيزر وسيطا بين العمل الفني لدى المؤلف والتجربة الجمالية لدى القارئ أو المتلقي. فلا يتحقق العمل الفني في الوجود الا حين يكون هناك تفاعل بين النص والقارئ، أي بين القطب الفني لدى المؤلف، والقطب الجمالي لدى القارئ. ووظيفة الفجوة لدى آيزر هي تنظيم الحقل المرجعي للأجزاء النصية المتفاعلة بانعكاس بعضها على بعض، وضبط كل العمليات التي تحدث في داخل الحقل المرجعي لوجهة النظر الهائمة، وخلق وجهة نظر في الحقل المرجعي. (20) فالفجوة مفهوم نصي، وملء الفجوة فاعلية يقوم بها القارئ. وبذلك يحافظ آيزر على قانون لم الظاهراتية الذي سنه "هوسرل" في أن كل شعور هو شعور بشيء. القراءة هي عملية تحقق النص لدى القارئ. فالقارئ عنصر فاعل في ملء الفجوات التي يخلقها النص في لفه ودورانه. أما لدى كمال أبو ديب فإن الفجوة – كما رأينا– توجد قبل النص ومعه وبعده. ولذلك فإن فاعليتها لا تقترب بالقارئ وحده، بل تقترن قبل كل شيء برؤية العالم التي يبثها المؤلف في تضاعيف عمله.

ومن هنا فإنها مفهوم آيزر مطبقا على الجهاز النقدي لدى لوسيان جولدمان، ومستثمرا بنية التضاد في النقد النصي لدى يوري لوتمان. وبالتالي يصح عليها ما يصح على نقد جولدمان من إقامة مماثلة بين عالمين هما البنية الفوقية للفكر (أو الشعر هنا) والبنية التحتية الاجتماعية، ثم ربط هذين العالمين بجسر التشاكلات أو المماثلات الشكلية بين الرؤية الفكرية والممارسة الاجتماعية. ولذلك فإن شعرية يقترحها جولدمان تظل محكومة بالخارجية والتماثل بين عالمين، وليس التفاعل بينهما.

كمال أبو ديب يشبه جولدمان هنا، أكثر بكثير مما يشبه آيزر. ولذلك فإنه يكتب في آخر كتابه "الشعرية" ما يأتي: "الشعرية هي قدرة عميقة نادرة على استبطان الإنسان والعالم، الطبيعة وآلهتها، المجتمع وصراعاته، الحضارة وسمومها وعظمتها، الطبقات المسلوبة المستغلة وملحمة صراعها ضد طبقات لم تزل عبر التاريخ تمسح وجودها بالقسر والقهر والقمع، وكل ما في اللغة من قافات وقيافات ...إلخ". (21)

لقد اتسعت الشعرية لتشمل كل شيء يقوم على بنية التضاد، ومن هنا يهتم أبو ديب بعنوانات فرعية يعيد فيها النظر بموضوعات كثيرة، استنادا إلى هذه البنية، دون أن ينتبه إلى أن تضخم الشعرية المفرط هذا سيجعل الفجوة: مسافة التوتر بنية لا توجد في مكان أو عند أحد، وبالتالي بنية ميتافيزيقية "متعالية". ومثل كل بنية ميتافيزيقية، فهي غير قابلة للتحديد والوصف والاكتناه، أي أنه سيجعلها عكس ما أرادها حين افترض في البداية أنها خصيصة نصية، لا ميتافيزيقية.


-5-

نحتاج، إذن، إلى شعرية لا تفرط في التضييق، ولا تفرط في الاتساع، شعرية تبدأ من النص نفسه. فالنص ليس مجرد حامل ينقل المعنى، أو حاو له، وليس وعاء يصب فيه الكاتب أفكاره التي يستقبلها المتلقي استقبالا سلبيا. ويبدو أن "رؤية العالم"، "بما هي تماك بين البنية الفكرية والبنية الاجتماعية تعود بنا إلى هذا الفهم للنص باعتباره تجسيدا للمعنى، أو حاملا لمحمول خارج النص، كما كانت تذهب إلى ذلك النظرية الجمالية التقليدية. ولعل من أبرز الملامح التي يتميز بها النص الفني عن سواه هو انطواؤه على مستويين من الدلالة في الأقل. وانطواؤه على مستويين يعني انطواءه على لغتين في الأقل. فالنص فضاء سيميائي تتفاعل فيه اللغات وتتداخل وينظم بعضها بعضا تنظيما تراتبيا. (22) وهو لا يجسد المعاني، بل يولدها. ولا تأتي عملية توليد المعاني نتيجة اتساع في البنى فقط، بل نتيجة تفاعل هذه البنى وتداخلها. والمهمة المزدوجة التي يتكفل بها النص هي تمثيل المعاني من جهة، وتوليد معان جديدة من جهة أخرى.

لكن كيف يمكن أن تتفاعل البنى في النص؟

لعل أدق تعريف للبنية هو ذلك التعريف الذي قدمه ريفاتير حين قال: "إن البنية نظام يتكون من عناصر متعددة، لا يمكن أن يتعرض أي منها لتغيير دون إحداث تغييرات في العناصر الأخرى جميعا". وهذا يعني أن عناصر البنية تتبادل التأثير، بحيث أن أي تغيير في واحد منها يؤدي إلى تغييرها جميعا. وإذا نظرنا إلى القصيدة كبنية، فإن تعدد مستويات هذه البنية وعناصرها المختلفة ستتبادل التأثير، أي أن أي تغير يطرأ على النظام الإيقاعي مثلا سيكون تغييرا لوجهة النظر، أو النظام الدلالي أو الصوتي ...إلخ. ولأن النص مولد للمعاني، وليس حاملا لها، ولأن التفاعل قائم بين مستويات بنية القصيدة وعناصرها، فان الوظائف التي سيقوم بها أي عنصر من عناصر الفعل الاتصالي ستتفاعل وتتداخل أيضا. ولابد من البدء بلغوية الشعر، واللغة ليست الدلالة فقط، بل هي التفاعل بين الصوت والدلالة في سياق معين، لكن في حين تتوقف اللغة عند وظيفة معينة أساسية لكل عنصر من عناصرها، يريد الشعر أن يخلخل هذه الوظيفة، فيعيد ترتيب هذه العناصر ترتيبا جديدا يؤدي بالتالي الى تغيير العلاقة بين اللغة والفكر. إن الشعر باكتفائه بأبنيته اللغوية يتصور، ويغرينا بأن نتصور معه، أنه يستبدل الكلمات بالأشياء، فيصير الحجر "حجريا" كما يقول الشكلانيون الروس، ويجعل "ماء الملام" ماء كما يقول أبو تمام. ولا يمكن حصر هذه الأبنية بمستوى واحد نزعم أنه الشعر كله. فالوزن أو العروض أو البنية السطحية، بما فيها من عناصر صوتية وجناسات، وتوريات، وتكرار ليست الشعر كله، انها عنصر واحد فقط من عناصره. وإعادة نظم هذه العناصر بطريقة تتغير فيها وظائفها هي ما يجعل من الشعر شعرا. وكذلك الدلالة أو المعنى. ان التشبيه أو الاستعارة أو الكناية، أو حتى الاسطورة والايديولوجيا، هي كلها ثمرة التفاعل بين نظام صوتي ونظام دلالي، يريد واحد منهما أو كلاهما ان يغير وظيفته سرا ويمكن للتوتر الدلالي ان ينشأ عن عنصر صوتي، مثلما ينشأ عن عنصر دلالي.

إن بنية الشعر هي نسيج عناصره الداخلية كنظام لغوي يتفاعل فيه الصوت والدلالة والسياق، وليست عنصرا يأتي اليه من الخارج، وإلا لارتددنا إلى شعرية الكلمة المفردة بذاتها، وشعرية الحقيقة، وشعرية الشيء، إلى غير ذلك من أوهام تجاوزها النقد. يمكن طبعا الحديث عن شعريات للأشياء، لكن هذه الشعريات تأتي من داخل الشعر، وفي استعمال محدد، وليس من خارجه بافتراض مقوم ذاتي في الاشياء نفسها، والفجوة التي يتحدث عنها آيزر أو كمال أبو ديب ليست ملكة ذاتية يتمتع بها القارئ، بل مشاركة القارئ في ردم الفراغات التي تنتج عن تفاعل مستويات القول الشعري. ولا يتم هذا الردم كيفما اتفق، بل استناد إلى أعراف وتقاليد تمثلها. القارئ قبل ذلك. فلدى القارئ مخزون من الخبرة الناتجة عن قراءات سابقة. ان من يقرأ قصيدة معينة لا يقرأها وفقا لهواه الذاتي ورغبته الاعتباطية، بل لا بد أن يفك شفراتها بما تمثله قبل ذلك من مفاتيح سابقة اكتسبها من قراءة عدد لا حصر له من النصوص. وهنا تظهر الحاجة إلى اكمال الشعرية بالقراءة، أي تطبيق المعلومات النظرية عن الخطاب المولد على نصوص فعلية.

ومع كل ما في الاجتزاء من عيوب، دعنا نأخذ، تمثيلا على ذلك، المقطع التالي من قصيدة "اللقاء الأخير في روما" لمحمود درويش: (23)

صباح الخير يا ماجد
صباح الخير والأبيض
قم اشرب قهوتي، وانهض
فإن جنازتي وصلت
وروما كالمسدس –
كل أرض الله روما...

تحمل القصيدة عنوانا فرعيا هو "مرثية لماجد أبو شرار" ولذلك فإن قراءتنا إياها، مرثية، تغتني باسترجاع كامل الموروث الرثائي في الشعر العربي من أبيات عبدة بن الطبيب في رثاء قيس بن عاصم حتى الوقت الحاضر. ومن الطبيعي أن يخاطب الشاعر من يرثيه، ففي أبيات عبدة بن الطبيب يقول:

عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ قَيسَ بنَ عاصِمٍ
وَرَحمَتُهُ ما شاءَ أَن يَتَرَحَّما
تَحِيَّةَ مَن أَلبَستَهُ مِنكَ نِعمَةً
إِذا زارَ عَن شَحطٍ بِلادَكَ سَلَّما
فَما كانَ قَيسٌ هُلكُهُ هُلكُ واحِدٍ
وَلَكِنَّهُ بُنيانُ قَومٍ تَهَدَّما

غير أن اتجاه هذا الخطاب الى ميت، في الموروث الرثائي العربي، يفترض ان الميت حي قادر على استماع الخطاب والرد على السلام. ان تحية محمود درويش ""صباح الخير يا ماجد" لا تختلف في جوهرها عن تحية عبدة بن الطبيب "عليك سلام الله قيس بن عاصم". ولكن في حين يفترض عبدة بن الطبيب حياة قيس بن عاصم ميتا، يفترض محمود درويش حياة ماجد حيا. ولذلك فهو يدعوه الى فعل حياة يومي هو شرب القهوة الصباحية، والتهيؤ لوصول جنازة الشاعر. ولكن كيف تصل جنازة الشاعر؟ لقد أحيا الشاعر جنازة المرثي ليفترض بالمقابل وصول جنازة الراثي. هنا نرى تبادل أدوار مثيرا. المرثي حي، والراثي ميت، لأن وصول جنازة الشاعر يعني كونه ميتا أيضا. فكيف يرثي الميت الحي؟ لا خيار لنا إلا ان نتصور ان ماجدا هو الذي يرثي محمود درويش، وليس العكس. ولأنه حي، فان تحيته تؤكد على الأبيض الذي يرمز إلى شيئين في وقت واحد. فهو لون الحياة، في مقابل لون الحداد (الأسود) من جهة، وهو مكان إطاري للفعل المحاصر في مناخ البحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى. ولأن المرثي حي، فإن الأفعال التي يقوم بها أفعال في صيغة المستقبل الذي لم يحصل بعد "فعلا الأمر اشرب وانهض، وهذا الأخير يشكل قافية مع: أبيض"، بينما لا يوجد سوى فعل ماض واحد للشاعر (ان جنازتي وصلت). ولقد سبق للشاعر ان أورد هذه العبارة بتمامها في قصيدة "عودة الأسير": (24)

ليسكت ها هنا الشعراء والخطباء
والشرطي والصحفي
إن جنازتي وصلت

كيف يمكن لميت أن يكلم الاخرين، ويخبرهم بوصول جنازته، إذا لم يكن حيا، أي اذا لم يكن موته نفسه حياة أخرى له. في قصيدة "نشيد الى الأخضر": يكتب محمود درويش: (25)

وأنا أكتب شعراً، أي أموت

فعل كتابة القصيدة، أو الرثاء تحديدا، هو إذن علامة موت الراثي وليس المرثي. وبما أن المرثي حي، والراثي ميت، شعريا، فإن القصيدة لا يكتبها الراثي بل المرثي. ولهذا تتجه أفعال المرثي الى المستقبل، وأفعال الراثي إلى الماضي. الشاعر يرثي الفقيد بشعره، والفقيد يرثي الشاعر بموته. وكلاهما حي / ميت أو ميت / حي
.
لكن موت ماجد حدث فعلي حصل في روما. وسيادة الوظيفة الشعرية على الوظيفة المرجعية لا يطمس الإحالة، بل يجعلها غامضة. (26) ولذلك تبدو روما للشاعر بصورة مسدس مسدد اليه. وما يحصل للشاعر والفقيد يحصل لروما ايضا، فهي الأخرى ترتفع من وجودها الفعلي في صيغة التشبيه المحدد بمكان فعلي على الخارطة (روما كالمسدس) الى تجريد مكاني يعانق الامكنة كلها ويتماثل معها (كل أرض الله روما). وإذ كان المبتدأ في هذه العبارة أليفا باعتبار وقعه اللغوي والديني القريب "كل أرض الله" فإن الخير يتناقض معه، "روما" إذ كيف يمكن أن يتماثل جزء من الأرض مع الأرض كلها.

في الواقع إن التماهي بين (روما) وكل أرض الله جزء من التقاليد الشعرية القديمة. ونجد هذا التماهي في مسرحية لكورنيه، حيث يقول "سرتوديوس" القائد الروماني الذي انشق على قيصر وأسس جمهورية في إسبانيا:

لم أعد أسمي روما أرضا تحوطها الأسوار
فهذه الأسوار التي كانت أبدع ما تكون في الماضي
لم تعد سوى السجن أو بالأحرى القبر
ولما كنت أملك الآن كل دعائمها الحقيقية،
فإن روما لم تعد في روما، إنما تكون كلها حيثما أكون.

وقد استثمر هذه الأبيات المفكر – المسرحي الفرنسي جبريل مارسيل في مسرحيته (روما لم تعد في روما). (27) والجدير بالذكر أن محمود درويش لم ينشر في مجموعته (حصار لمدائح البحر) بيتا كان قد نشره قبل ذلك في القصيدة يقول فيه: (روما لم تعد روما).

ويبقى المجال واسعا للحديث عن العلاقة بين الشعرية والقراءة..




نشرت هذه المقالة في مجلة نزوى بتاريخ 1-6-1995




الهوامش

(1) O.Ducrct and T . Todorav, Encyclopedic Dictionary of the sciences of language , p.79
(2) المبرد، محمد بن يزيد البلاغة، تحقيق د. رمضان عبدالتواب، ص 80
(3) نازك الملائكة وقضايا الشعر المعاصر 69
(4) نفسه ص 224
(5) نفسه ص 225
(6) سعيد الغانمي أقنعة النص ص 100
(7) محمود البريكان قصائد، مجلة الأقلام العدد 3/ 4 1993 ص 87
(8) أدونيس سياسة الشعر، مقالة ما الشعرية، ص 6
(9) من الواضح أن مثال أدونيس هذا يستند إلى بيتي امرئ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله / علي بأنواع الهموم ليبتلي / فقلت له لما تمطى بصلبه / وأردف أعجازا وناء بكلكل، غير أن في صياغة أدونيس تمثيلا، أما بيتا امرئ القيس ففي أولهما تشبيه، وفي ثانيهما استعارة وإذا عرفنا أن التمثيل مرحلة وسطى بين التشبيه والاستعارة أدركنا الفرق بين المثال الأصلي وصياغته الثانية لأن التشبيه (والتمثيل أيضا من حيث هو تشبيه بلا أداة) مقايسة بين عالمين يظلان منفصلين، في حيز أن الاستعارة مطابقة بين عالمين واندماج لهما ي وأحد وواضح ان الاستعارة هنا تهدد قانون الهوية الذي يريد التشبيه الاحتفاظ به
(10) سياسة الشعر ص 24 – 25.
(11) عبد القاهر الجرجاني دلائل الاعجاز ص 38
(12) سياسة الشعر ص 24
(13) أقنعة النص ص 120 والجدير بالذكر أن هذا التحليل الصوتي يحمل بعض الشبه مع تحليل صوتي مماثل قام به الناقد الروسي يوري لوثمان، ولم أكن قد اطلعت عليه انظر فيه: Ann Shukman ,Literature and Semiotics , A study of the writings of yu M. Lotman,p.60
(14) كمال أبو ديب في الشعرية ص 18
(15) نفسه ص 14
(16) نفسه ص 20
(17) نفسه ص 21
(18) نفسه ص 37
(19) نفسه ص 48
(20) Wahgang lser, The lmplied Reader, p 275
(21) في الشعرية ص 143
(22) Jurij Lotman, The Futur of structuralism Poetics 8 (1979) p.503
(23) محمود درويش حصار لمدائح البحر ص 73
(24) محمود درويش الديوان 2 : 342
(25) الديوان 2: 548
(26) R. Jakobson , Language in Liter ature, p. 85
(27) جبريل مارسيل روما لم تعد في روما، ترجمة فؤاد كامل، ص، 174


الآراء (0)