القناع الضدّي - قراءة نصيّة لقصيدة السياب (المخبر) - حاتم الصكر | القصيدة.كوم

كتبت عام: 2015


1036



القناع الضدّي - قراءة نصيّة لقصيدة السياب (المخبر)


مدخل

جرى التركيز في الدراسات التي تضمها مكتبة السياب النقدية على إسهامه المبكر في مجالَيْ الأسطورة والرمز، وما يهبان للنص الشعري من إضافات تقوي الدلالة وتوسع المعنى من جهة، وما تقترحه فنيا من استخدام التناصات المتنوعة، وتضمين الأسطورة والرمز، أو الاعتماد عليها كليا في إنجاز النص.

لكن ما يدعو للتنويه إغفال مساهمته المبكرة في قصائد القناع كليا كما في قصيدة (المخبر)، أو جزئيا كما في (المومس العمياء) و(حفار القبور) حيث يؤطرهما السياب بالسرد الخارجي، ويقوم بتثبيت المكان والزمان وهوية الشخصية، ثم يدعها تتكلم؛ ليكون صوتها قناعا له، أو لما يعتقد به بالأحرى، لا سيما وتلك النصوص مكتوبة خلال التزام الشاعر بالماركسية وتفرعاتها الفكرية حول الطبقات والمرأة والسياسة والحرية وسواها من ثيمات الأدب الملتزم.

أحاول في هذه الدراسة النصية إضاءة التقنية الفنية المناسبة لفكرة السياب عن المخبر الذي كانت له زمن كتابة النص في منتصف القرن الماضي تداولية واسعة في أدبيات السرد خاصة، وفي التداول الاجتماعي أيضا، وأطمح أن تكون مرتبطة بالسياق الكبير لشعر السياب - أي صلة هذه القصيدة بمقترح السياب التجديدي - سواء بالريادة الفنية، أو فكريا باتصالها بحرية الشعر لدى السياب وبالرؤية، قبل إنجاز التحول الأسلوبي في الكتابة الشعرية، بهدم النظام البيتي (شعر الشطرين) والقافية الموحدة. لقد فتح السياب طرقا جديدة للقصيدة لا تتوقف عند تلك النقلة الشكلية - رغم أهميتها وجدَّتها – لكن الشعر ظلّ بعدها موزونا ومقفى بطريقة مختلفة تلبي نداءات الدلالات والمعاني قبل أي شيء.

إن تجديد السياب سيأخذ قيمته وديمومته من كونه شعر رؤيا وثقافة عليهما بنى السياب تفرده وديمومة مقترحه وأثره في أجيال لاحقة من الشعراء.

سيبهر السياب قراءه ونقاده بهذا السبق الرؤيوي المتمثل بتطعيم القصيدة بالرموز والأساطير، والإحالات الثقافية المحلية والإنسانية. كان مرجعه متعدد الجهات: يعثر عليه بكدٍّ ذاتي، أي من معايشته المباشرة في بيئة ملهمة شعريا، ومن التراث الشعري العربي، والشعر الغربي، ومن الميثولوجيا العربية الإسلامية، والتراث الإنساني الديني والحضاري، ومن الإيديولوجيا التي عمل على توصيل أفكارها شعريا، لا سيما في مرحلة التزامه وعمله السياسي المبكر. لكن ما أنجزه في باب الرؤيا والتي ستكرسه شاعرا رائيا تظل أكثر أهمية من التعديلات التي اقترحها على بنية القصيدة. اليوم تحف بقراءة السياب تنبؤات غريبة تتوافق مع ما يشهده العراق من كوارث ومآسٍ، استبق رصدَها السياب بحس الرائي الذي يجيد قراءة المستقبل الفكري، والإيقاعية المميزة، والتوسيع السردي للقصيدة. وما دامت تلك المزايا كلها تنسب لشعره؛ فالحري بنا إذن أن نسأل عما يبقى من (شعر) السياب؛ لأن متونه النصية هي شواهد حضوره المفترض بيننا. وأحسب أن منجزه في تقنية القناع مجال جيد للاحتكاك النقدي النصي تحديدا بشعره، المتنوع المصادر الثقافية والتشكلات البنائية.


تقنية القناع

كثيرة هي الدراسات النظرية والتطبيقية حول قصيدة القناع منها ما كتبه إحسان عباس وأدونيس وجابر عصفور وفاضل ثامر وخلدون الشمعة وعبد الرضا علي ومحسن اطيمش وسواهم. ولعل كتاب عبد الرحمن بسيسو (قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر) (1) بفصوله التي تلاحق المصطلح والمفهوم يستحق المراجعة للاستزادة.

فهو يتعرض للدراسات السابقة حول القناع وسواها مناقشا، إضافة إلى محاولته تنميط القناع في أنواع تفصح عنها النصوص القناعية كقصيدة القناع البلاغي والقناع التكويني، وتفريقه بين قصيدة القناع وقصيدة الشخصية الشعرية، واقتراح توسيع القناع ليشمل أنواعا متعددة خلافا لإحسان عباس الذي لا يرى التقنع إلا بشخصيات، جلّها تاريخي. بينما يرى بسيسو إمكان التقنع بغيرها (فالمهم في القناع ليس مصدره أو مرجعه، أو طبيعته النوعية كإنسان أو حيوان أو نبات أو جماد. وإنما المهم هويته وماهيته، وما ينطوي عليه من محمولات فكرية وشعورية) (2) وذلك يهدم بالضرورة الفكرة التقليدية عن القناع بل تعريفاته الاصطلاحية التي تفترض تطابق شخصية القناع فكريا مع المؤلف (الذي يتكلم من خلال أثره الأدبي، يفعل ذلك عن طريق شخصية مختلفة ليست سوى مظهر من شخصيته الكامنة) (3) وهذا لا ينطبق على كثير من أنواع القصيدة القناعية. ومن أهمها: الاعتقاد خطأ بالتطابق بين الشاعر وشخصية قناعه أو قناع شخصيته. والثاني: التقليل من شأن الطابع السردي ويفقد القناع بسبب ذلك ميزة (التقمص) التي هي فعل درامي ومسرحي بالتحديد. ففي التطابق يتحرك الشاعر مأسورا بالمقارنة بين الوجه والقناع. ويجتهد لملاصقة أناه مع أنا الشخصية التي يتقنع بها، ومن ثم لا يحقق ذلك تماما، إذ تشف ذاته وخطابه من خلف القناع. وتلك من محذورات السرد بأنواعه: حين تُسْقط وجهة النظر الخاصة بالمؤلف على شخصية ما في المتن السردي، فيتكلم من خلالها عن نفسه. وهذا يحصل في قصائد القناع غالبا، كما ينوه "بُشبندر" في دراسة مهمة عن قراءة الشعر؛ فيرى أن مصطلح القناع موحٍ: بدل أن يتكلم الشاعر بصوته الخاص؛ فإنه يتقمص شخصية بواسطة مجموعة من الخواص اللفظية، وقد تتطابق هذه الخواص مع خواص الشاعر الحقيقية، ولكن ليس من الضروري في استنتاج معنى النص أن نعرف إن كانت تتطابق أو لا تتطابق. (4)

وبالاستعانة بالسرد يمكن تمييز المتكلم في النص والمخاطَب أيضا. وبعبارة أخرى يتم عبر عملية القراءة تمييز الراوي والمروي له استنتاجا من صلة أنا الشاعر بأنا القناع. ويتحصل من هذا الاشتباك بين أنا الشاعر والشخصية توتر يخلق الدراما في قصيدة القناع. ولو عدنا إلى (التقمص) كفعل شعري درامي لوجدنا أنه من أكثر آليات القصيدة القناعية استخداما. وهو يمثل استضافة مسرحية في القصيدة التي انفتحت عبر تجاوز الغنائية لتحتشد بالحركة والفعل .

تنشأ الدرامية في القناع من ذلك المزج الثلاثي أو الحوار الصوتي. فبسبب ابتعاد صوت الشاعر وتقدم صوت المتكلم نلمح صوتا ثالثا هو الراوي الضمني الذي يدير الحديث، أو يجعل القناع ناطقا بما يضمره النص من معان ودلالات (5). أما المروي له في أسلوب القناع فيكون الطرف الأخير في الرسالة الشعرية؛ لأن مرسلها يبتعد ليدع عبر ضمير السرد الأول (أنا) صوت الشخصية ينفذ إلى المتلقي كمخاطب تقليدي، سنجد أن نموذج السياب في (المخبر) قد تجاوزه بتعيينه متلقيا أول، وهو الذي سيكون الصوت الثالث دراميا في هذا النص .

المخبر: قناع الضد او المفارق

لا تريد هذه الدراسة أن تسجل سردا تاريخيا لتطور دراسات القناع واتجاهاتها منذ نبه إليها البياتي وعبد الصبور، وعني بها النقاد العراقيون والعرب فهي متداولة ومعروفة. لكن مناسبة اللقاء النقدي بنص للسياب تثير الكثير من التأمل في فتوحاته الفنية، وتوسيعاته لمضائق القصيدة الحرة واقتراحه تنويعات كثيرة لها، ليست الرموز والمطولات إلا بعضا منها. ولئن كانت القصيدة الطويلة مؤشرا لدرامية نصوص السياب التي غلبت عليها الغنائية في مراحلها الأولى؛ فإن التقنيات المختلفة في شعره تسمح بالإشارة لغنى فكره الشعري في تطوير القصيدة، خارج مألوفها الذي ثار عليه. وقصيدة (المخبر) تنتمي سياقيا لفترة التزامه الحزبي في الحركة الشيوعية في العراق، وإيمانه بالفكر الماركسي ومقولاته حول الطبقات ودورها في التاريخ، ولموقفه الرافض للملكية التي كانت تحكم العراق زمن إنتاج النص في الخمسينات. وقد كانت شخصية (المخبر) أو الشرطي السري من الشخصيات السلبية في نصوص كثيرة لا سيما في السرد. وقد اختار السياب شخصية المخبر ليبث من خلالها أفكاره حول الحرية خاصة، كما اختار السلم والعدالة ثيمة عبر شخصية الحفار في مطولته (حفار القبور)، والمرأة المسحوقة اجتماعيا والمستلبة في مطولته (المومس العمياء) وفيها كلها يستخدم السياب القناع بدرجات متفاوتة، أي أنه يدع القناع ليكون الصوت الاول، وينسحب الراوي الخارجي، لكنه لا يستمر عبر مجمل النص في ذلك النهج الفني؛ فيعلو صوت الشاعر مستطرداً أو سارداً. وللسياب في القناع تجارب كثيرة: ضمنية أو مقطعية، أي أنها لا تستغرق النص كاملا. وأمثل لذلك بالمقطع الثالث من قصيدة السياب الطويلة (من رؤيا فوكاي) والمعنون (حقائق كالخيال). ولاسيما تنويهه في الهامش بالقول (المتحدث في هذه القصيدة مريض في مستشفى الصليب الأحمر في هيروشيما، مصاب بالزهري الذي افترس دماغه حتى عاد يتخيل أشياء لا وجود لها، ولكنه - خلال أوهامه ودون وعي منه - يصور جانبا مما حدث في هيروشيما حين ألقيت عليها القنبلة) (6). وهذه إضافة مهمة لفهم الصوت أو المتكلم في النص، وإن تكن تتجنب استخدام مصطلح القناع الذي لم يكن كمفهوم شعري أيضاً قد توضح وشاع استخدامه.

يجري السياب تعديلا مهما على تقنية القناع التقليدية المفترضة اختفاء الشاعر وراء شخصية تاريخية أو معاصرة لتوصيل أفكاره. فيختار شخصيات ضدية أو مفارقة لوعيه وأفكاره ليوصل من خلالها دلالات نصوصه. كحفار القبور في المطولة، وبائع الحديد العتيق في (الأسلحة والأطفال) ولكن (المخبر) تعد نقديا قصيدة قناع كاملة منذ بدايتها حتى الخاتمة.

يواجه القارئ في استهلال النص بالضمير (أنا) الذي يعزز اللافتة العنوانية أو الموجّه القرائي الأول في النص، فتتكون من العنوان وضمير السرد الذاتي (أنا) جملة شعرية يصوغها المتلقي للاندماج في سياق القراءة بافتراض أن المتكلم يواجهنا:أنا المخبر أقول، ثم تنسب إليه ملفوظات النص بالعائدية اللغوية والبناء النصي معا. ولعل العنوان هنا بطبيعته أو وظيفته الاستباقية يمثل ركنا مهما في القراءة، وعتبةً لا يجوز تجاهلها أو المرور بها سريعا. ولهذا العنوان (المخبر) دلالات كثيرة، فهو تطوير لغوي للاستخدام العامي (الجاسوس أو السرّي) كما أنه بصيغة التعريف (ال) لكنه يحمل صفة العموم، أي أنه سيقدم نموذجا للشخصية التي تقنع بها السياب وتقمصها أو تلبسها لإنجاز نصه. وفي قراءة سردية تشجع عليها بنية نص المخبر سنرى أن السياب اختار السارد المفارق أو الراوي المشارك الذي يفارق مرويه. فهو شخصية سلبية وهيمنته على النص كملفوظ لا يعني سوى تطوير كراهيته وترسيخها، بفضح ما يشعر به من تصاغر وذل إزاء وظيفته خارج النص وداخله بالضرورة. هذه الأنا العائدة لشخصية المخبر تتكرر ست مرات في ستة أبيات يمثلها الاستهلال النصي:

أنا ما تشاء أنا الحقير
صباغ أحذية الغزاة، وبائع الدَّمِ والضمير
للظالمين، أنا الغراب
يقتات من جثث الفراخ. أنا الدمار، أنا الخراب!
شَفَةُ البَغِيِّ أَعَفُّ من قلبي، وأجنحة الذباب
أنقى وأدفأ من يديَّ كما تشاء … أنا الحقير!

وتكرار أنا المخبر تكريس للشخصية تعضده عتبة العنوان والصفات الملحقة به: (الحقير، صباغ أحذية الغزاة…….) وإحكام تام وشديد للقناع، فالسياب كمنشئ للنص وراوٍ أول فيه يبتعد عن نصه مختارا الشخصية الضدية أو المفارقة للمروي أي مضمون النص وسرده المنحاز لفكر الشاعر والمُدين لشخصية المخبر بعامة، كما أشرنا. كذلك تمثل جملة الاستهلال (الأبيات الستة التي ذكرناها آنفا) الحركة الأولى في درامية النص أو المقطع الأول في نموه العضوي. ففيه أثبت السياب وجه قناعه وتركه ليقدم نفسه بالصورة النمطية التي يراها به المروي له، أو المخاطَب في النص وهو أحد الثوار المثقفين المؤمنين بالحرية والعدل، لكن وظيفة المخبر هي ملاحقته ومراقبة تحركاته وتسفيه أفكاره.

ويلزمنا لإنجاز قراءة فنية للنص أن نتنبه للبنية الخطية في القصيدة. فالسياب يستخدم علامات الترقيم بشكل لافت كنقطتيْ القول (:) ونقطة النهاية أو الخاتمة (.) ونقاط التداعي والحذف (…) وأخيرا علامة التعجب التي انتهى بها الاستهلال (!).

والمسألة الفنية الثانية في النص هي بناء الجمل الشعرية التي تتعارض مع بناء الجملة النحوية، وتمتد أحيانا للبيت التالي، راجع مثلا كلمة (للظالمين) المتصل بالبيت السابق، و(أنا الغراب) التي تكتمل نحويا ومعنويا في البيت اللاحق و(أجنحة الذباب) التي يكتمل خبرها بالجملة الفعلية في البيت التالي. أما انتهاء جملة (وأجنحة الذباب أنقى وأدفأ من يديَّ) فهي تظل على السطر الذي يبدأ به كلام آخر للشخصية. فكأن النقطة هنا لم تعطِ الجملة استقلالها أو نهايتها. وهو صنيع فني جديد يشير لحداثة السياب الفنية وفهمه لتعارضات الجملة النحوية والشعرية. ويمكن أن نجد ذلك لدى قليل من شعراء الحداثة الأولى لا سيما محمود البريكان الذي أكثر من الجمل المنتهية في سطر شعري واحد. وهذا تطوير لمفهوم البيت الشعري يستحق الدراسة. (7)

في المقطع الثاني الذي افترضته لاحقا للاستهلال، يبدأ بقول المخبر استدراكا ب(لكنَّ) بعد أن أقر بصفاته التي يظنها المثقف المطارَد فيه:

لكنَّ لي من مقلتيّ — إذا تتبعتا خطاك
وتقرَّتا قسمات وجهك وارتعاشك — إبرتين
ستنسجان لك الشراك

تتخلخل الجملة هنا حيث تكون الجملة الاعتراضية طويلة، تباعد بين اسم لكن وخبرها، والترتيب النحوي دون الاعتراض يسمح بقراءة الجملة: لكنَّ لي من مقلتيَّ إبرتين. وهنا تبدأ مواجهة المخبر للشخص المطارد؛ لأنه حر. ومن وراء الصحيفة التي تخفي وجهه كقناع داخل القناع الشعري نفسه يراقب الشخص:

وتحول دونهما ودونك بين كفي الجريدَهْ

وفي المقطع الثالث يبدأ المخبر بالتساؤل:

لِمَ يقرأون لأن تونس تستفيق على النضال؟
ولأن ثوار الجزائر ينسجون من الرمال
ومن العواصف والسيول ومن لهاث الجائعين
كفنَ الطغاة؟

عند هذه النقطة تتعالى درامية النص واشتباك الذوات، فيقترح السياب عبر تقويل المخبر ما يريد هو أن يقدم من صفات الثوار: المناصرين لمطلب التونسيين والجزائريين بالاستقلال عن فرنسا، ومقاومة احتلالها. ويكرر السؤال: "لمَ يقرأون" ليوصل ما يظنه به الثوار وصولا إلى المقطع الرابع الذي يبدأ بقوله:

نهض الحقير
وسأقتفيه فما يفر، سأقتفيه إلى السعير

ويعيد الخطاب بضمير المتكلم الصريح (أنا) لكي تبدأ إدانة المخبر وكشف وظيفته في قمع الحريات وملاحقة طالبيها. ولكنه يمهد لانهزامه وسقوطه متحدثا عن ضميره الذي يطيف به كالشبح لكنه سيلاحقه عوضا عن ملاحقة المطارَد - المخاطب في النص.

ويمكن للقارئ هنا رؤية وجه السياب من وراء قناع المخبر فتكون أقواله هي ما يريد السياب قوله بصدد مهنة المخبر وعمله المدمر الذي وجد له بوصف (الحقير) لازمة يكررها في المقاطع الأخرى أيضا. والسياب يستعين ببراعته الصياغية والصورية لتثبيت الصفة للمخبر، ثم إيجاد معادل صوري لها حتى في مقطع بدء التراجع داخل المخبر، كتشبيهه بالنادبات المستأجرات للبكاء أو البائعات حليبهن من النساء.

وفي المقطع التالي (الرابع بحسب افتراضنا لدى القراءة) والذي يأتي بعد فاصل من بياض مقصود، يريد السياب تنبيه قارئه إلى التطور الدرامي الجديد، وهو صراع المخبر مع شبح ضميره ومحاولة مقاومته. وهذه إضافة درامية لصراع الأنا في النص. فالمخبر عند هذه النقطة يبدأ معترفا بخطاياه التي يحتضنها، وينتهي تدريجيا حيث يتردد في التمسك بها، ويقولها كاعتراف بما في داخله من شعور بالضعف والدناءة "لا تمسح الدم عن يديك" وما هذا الإصرار إلا ذروة درامية يتجه فيها الخطاب من بعد لرصد انهيارات المخبر في المقطع الخامس الذي يبدأ بعد بياض دال على التحول :

قوتي وقوتُ بَنِيَّ لحمٌ آدميٌّ أو عظام
فليحقدنَّ عليَّ، كالحمم الأنام
كي لا يكونوا إخوة لي آنذاك، ولا أكون
وريث قابيل اللعين

وينتهي المقطع بالبراءة من أخوة البشر بالإفادة من رمز قابيل قاتل أخيه، وهنا لا ينفك السياب عن نزوعه الرمزي الذي قد تراه بعض القراءات إقحاماً لوعي الشاعر بافتراض محدودية وعي المخبر.

المقطع السادس يلي سابقه ببياض مقصود؛ ليبدأ المخبر بتصعيد موقفه والتعليق على رايات أو شعارات من يطاردهم "ما لي وما للناس؟ لست أبًا لكل الجائعين" وينتهي بعبارة مفاجئة للقارئ إذ يقول المخبر في خاتمة المقطع:

ساء المصير!
رباه، إن الموت أهون من ترقبه المرير

ويواصل السياب تداعيات سقوط المخبر ببيتين هما:

ساء المصير
لِمَ كنت أحقر ما يكون عليه إنسانٌ حقير؟!

وكأن الشخص المطارَد ثأر من المخبر، بأن أحال المخبر لنفسه صفة الحقير التي ألصقها بالشخص المراقب في استهلال النص وفي مقاطع لاحقة.

ونعود هنا للتذكير بوعي السياب لدور التوزيع الخطي في توصيل الدلالة؛ لأنه يستخدم نقطتيْ التفصيل بعد السطر الأول، وينهي السطر الشعري الأخير بعلامتيْ استفهام وتعجب، تدعوان للمساهمة في تخيل مصير المخبر في معركة الحرية التي آمن بها السياب وتمثلها شعريا، مضافا إليها تبريرات المخبر لعمله بحجة العوز ورغبته بأن يعيش كالآخرين، لكن أداة النفي (لا) تسبق أربع جمل يحتويها المقطع في خاتمته:

إني سأحيا لا رجاء ولا اشتياق ولا نزوع
لا شيء غير الرعب والقلق المُمِضِّ على المصير

لكننا بعد تجلية القناع واستمراره كاملا لنهاية النص، محتاجون لتسجيل بعض الملاحظات، فبراعة السياب القناعية والدرامية بينة في النص، وحضوره من حين لآخر يمثل تقاطعا مع صوت السارد - المخبر. وربما يمثل هذا إقحاماً للسياب في النص وعدم الاكتفاء بالتقنع أو التقمص. كما أن النص متوتر لغويا بدلالة الوصف المتكرر (الحقير) مثلا، وبالتكرار والجمل المعترضة وعلامات الترقيم المختلفة، فضلا عن إيقاعها العالي الذي يصنعه التزام الشاعر بتفعيلتيْ الكامل (متفاعلن) طويلة المقاطع والمشبعة بالحركات (ثلاثة متحركات وساكن، ثم ثلاثة متحركات وساكن) مع استخدامه للممكن والجوازات ضمن موسيقية البحر من تسكين وسطي للحرف الثاني .

إن ريادة السياب لقصيدة القناع مؤكدة حتى قبل افتراض الباحثين أنه دشنها بقصيدة (المسيح بعد الصلب) (8). إذ كان استخدامه مختلفا عن تقنية القناع لدى البياتي وعبد الصبور. ولعل النص المحلل هنا يسهم في بيان إضافات السياب الهامة لتقنية القناع باختيار شخصية معاصرة ومضادة أو مفارقة للمروي في المحصلة الدلالية.




المصدر: موقع الكاتب حاتم الصكر




الهوامش

(1) كتاب عبدالرحمن بسيسو هو (قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر-تحليل الظاهرة) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت 1999
(2) المصدر نفسه، ص 220
(3) مجدي وهبة: معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان، بيروت، 1974، ص 397
(4) ديفيد بُشبندر: نظرية الادب المعاصر وقراءة الشعر، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996، ص 18
(5) حاتم الصكر: مرايا نرسيس - الأنماط النوعية والتشكيلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة، المجلس الأعلى للثقافة، ط2، القاهرة، 2010، ص 124
(6) بدر شاكر السياب: ديوان بدر شاكر السياب، دار العودة، بيروت، 1971، ص 361. وقد اعتمدت هذه الطبعة في قراءة نص (المخبر) ص 338-343
(7) حللت سابقا بعض نصوص البريكان ونوهت بجمله الشعرية التي تتطلب أحيانا وجود جملتين نحويتين على سطر شعري واحد. حاتم الصكر (في غيبوبة الذكرى - دراسات في قصيدة الحداثة، كتاب دبي الثقافية 31، ص179، وما بعدها.
(8) عبد الرحمن بسيسو، سابق ص 330. ينظر الجدول (8) الذي وضعه كملحق للتعاقب الزمني لصدور قصائد القناع المعاصرة، وتاريخ كتابتها. وهو يعد قصيدة السياب (المسيح بعد الصلب) من أقدم قصائد القناع بل أولاها. احتكاما لتاريخ كتابتها 1957 ونشرها في ديوان أنشودة المطر 1960.


الآراء (0)