مدخل كتاب التحليل السيمّائيّ للخطاب الشعريّ
|
النص الأدبيّ بما هو حقل للقراءة
إن من المكابرة الزّعمَ أنّ المعاصرين اليوم، وحدهم، هم الذين اهتدوُا السبيلَ إلى إشكالية القراءة السّيمائية بكل إنجازاتها اللسانياتيّة، وبتعدّد حقول تأويلاتها المستكشَفة، والتي ليس لآفاقها حدود.
لقد اجتهد كثير من محلّلي النصوص من العرب القدماء في أن يركضوا في بعض مضطربات التأويلية التي هي فرع من فروع السيمائية؛ وذلك على الرغم من أن هذه الأعمال التحليلية التي اتخذت لها التأويلية إجراء كانت تُعنَى، خصوصاً، بتعددية القراءة على أساس من تأويل المعنى اللغويّ، أو على أساس من تخريج القراءة النحوية؛ إلاّ أن ذلك لم يمنع من وجود ملامح ترقى إلى ما فوق ذلك هنا وهناك...
كما أنّ تطوير الكتابات التأويليّة - التفسير الذي ينهض على تأويلية الإجراء - التي وقعت من حول نصّ القرآن العظيم أفضت إلى تطوير سيمائية التأويل، والوثب بها إلى أبعد التصوّرات العقلية والجمالية والدلالية التي لا حدود لها.
وأيّاً كان هذا الذي يأتي إلى نص أدبيّ ما فيكتب من حوله تحليلاً، فإنه لا يُفلت من صنف القرّاء، كما أن مسعاه لا يفلت من مفهوم القراءة. بيد أن هذه القراءة تختلف اختلافاً بعيداً بين محلل ومحلل من وجهة، ودارس ودارس من وجهة ثانية، وبين قارئ عاديّ وقارئ محترف آخر من وجهة أخرى؛ مما يجعل من مفهوم القراءة إشكالية لسانياتية سيمائيّة نقدية جميعاً. فالنقد قراءة؛ مجرد قراءة شخص محترف لنص أدبيّ ما. والأدوات التي يصطنعها في فهم هذا النص، أو قراءته، أي تمثّل تأويله على نحو ما؛ هي التي تحدد معالم التحليل الذي ينشأ عن مسعاه الأدبي.
وفي كلّ الأطوار يعسر على أيّ قارئ محترف (لنقل: ناقد) أن يأتي إلى نصّ فيقبل عليه بأدوات أحادية المنظور، أحادية التقنيات. ولأوضّح ما أريد قوله أكثر: إنّ من السذاجة أن نزعم أننا نبلُغ من النص الذي نودّ قراءته منتهاه إذا وقفنا، من حولـه، مسعانا على منظور نفسانيّ فحسب، أو منظور بِنَويّ فحسب، مثلاً... من أجل ذلك تجنح التيارات النقدية المعاصرة إلى ما يُطْلَق عليه في اللغة النقدية الجديدة: "التركيب المنهجي"؛ وذلك لدى إرادة قراءة نص أدبيّ ما، مع الاجتهاد في تجنيس التركيبات المنهجية حتى لا يقع السقوط في التلفيقية.
وقد كنا ألفينا بعض المفكرين الغربيين، وخصوصاً قولدمان، حاول المزاوجة بين النزعتين البنوية والاجتماعية بتحويلهما إلى تركيبة منهجية، بل معرفية أيضاً، جديدة هي "البَنويّة التكوينية". وكأنه إنما رمى من وراء ذلك إلى إنقاذ البِنَوية (ونحن لا نقول "البنْيويّة" لأنها محض لحن) والاجتماعية معاً؛ ذلك بأن البنوية وحدها من حيث نزعة شكلانية خالصة تغتدي هشّة فِجّة؛ بسقوطها في الميكانيكية الشكلية التي تجرد الأدب من وظيفته الاجتماعيّة، وفعاليته الإنسانية، وتأثيره الجماليّ؛ وتجعل منه مجرد صدى فارغ لعمل اللغة من حيث هي كائن خارج إطار التاريخ.
ولا يقال إلا نحو ذلك في المنهج الاجتماعيّ التقليديّ الذي كان يصرّ على عدّ المضمون هو أساس الإبداع، وهو العلة في إيجاده، والذريعة في كتابته؛ إذ لا شيءَ أخطل من هذا الاتجاه الذي ينفي عن الأدب جماليته، ويجنح به نحو الإدْيولوجيا المقيتة الخالصة...
وقد دأبنا نحن في تعاملنا مع النصوص الأدبية التي تناولناها بالقراءة التحليلية على السعي إلى المزاوجة، أو المثالثة، أو المرابعة، وربما المُخامسة بين طائفة من المستويات باصطناع القراءة المركّبة التي لا تجتزئ بإجراء أحاديّ في تحليل النصّ؛ لأنّ مثل ذلك الإجراء مهما كان كاملاً دقيقاً؛ فلن يبغي من النص المحلِّل كلّ ما فيه من مركّبات لسانيّة (ونريد النسبة هنا إلى اللسان، وليس إلى اللسانيات)، وإديولوجيّة، وجمالية، ونفسيّة، جميعاً.
والحقّ أن هذه الأدوات الإجرائية الجديدة التي تطالعنا بها، كلّ يوم، العلوم الإنسانية لا ينبغي لها أن تستأثر بالتفرد، ولا أن تستبدّ بالتربع على عرش المنهجية الصارمة التي لا تبقي ولا تذر؛ فذلك تدبير مفلس إذا جئناه في تناول نص من النصوص؛ ولكن يجب أن تكون تلك الأدوات مطوِّرة لرؤيتنا إلى النصّ، ومكمّلة للنقائص التي ظلّت تعتور مساعيَ المحللين والمؤوّلين ابتغاء الاقتراب بتلك المساعي إلى نحو الكمال، الذي يظل بعيد المنال، على كلّ حال.
وممّا قَدْ يُدْني هذا الوجه من الرأي نحو السداد، أو نحو شيء من السداد على الأقلّ؛ أن معظم هذه المناهج موروث بعضها عن بعض، وقائمٌ بعضُها على بعضها الآخر، إذْ لا البِنَوية، ولا نزعة علم النفس التي تتطاول على تحليل النص الأدبيّ - كما تتطاول على المرضى بالنفوس - ولا السيمائية، ولا الأسلوبية نفسها، قادرة إحداهنّ على أن تزعم للناس أنها ناشئة من عدم، وأن كلّّ أدواتها التقنية، وإجراءاتها المنهجية، وأصولها المعرفية، ومصطلحاتها المجسِّدة لمفاهيمها: جديدة. فاللسانيات إنما نهضت على جهود النحاة وفقهاء اللغة، وربما على بعض جهود المعجميين أيضاً. كما أن الأسلوبية، على الرغم من أنها مجرد فرع من اللسانيات من الوجهة التصنيفية، إلا أنها قامت على أنقاض البلاغة بفروعها الثلاثة: البيان، والمعاني، والبديع. بينما لم تنهض البنويّة إلاَّ على أنقاض تنظيرات الشكلانيين الروس، وعلى نظرية الدلالية الدوسوسورية: الدالّ والمدلول. على حين أنّ السيمائية هي خليط من اللسانيات، والنحويات، وربما البلاغيات أيضاً؛ ذلك بأن إجراء "التشاكل" [Isotopie]، بأنواعه المختلفة، والذي طالع الناسَ به قريماس (وكان العرب تعاملوا مع مفهومي التشاكل والتقابل بوعي منهجي ناضج؛ كما يمثُل ذلك، مثلاً، في تنظيرات عمر بن مسعود بن ساعد المنذري المتوفَّى سنة 1160 للهجرة في كتابه كشف الأسرار المخفية واتخاذه إجراءً منهجياً في تصنيف معاني الأشياء سواء بما تشاكلت، أم بما تقابلت..) (1): لا يعدو كونه تجسيداً لمساعٍ ذهنية كانت تتردد على ألسنة البلاغيين، وفي إجراءات بعض الفلكيين العرب البارعين كما أومأنا إلى ذلك لدى عمر بن مسعود المنذري. وكلّ ما في الأمر أن المساعي المعاصرة تتسم بتقنيات أدق، ومنهجية أصرم.
وأمام هذا التداخل بين العلوم الإنسانية، (بما فيها الفلسفة والمنطق حيث إنّ هناك كثيراً من المصطلحات السيمائيَّة محوَّلةً، في أصلها، عن هاتين المعرفتين - كما استبان لنا ذلك من متابعتنا باب الياء بين معجم قريماس للسيمائيات، ومعجم أندري لالاند للفلسفيات: حيث ألفينا التلاقي بينهما يشمل تسعة مصطلحات كاملة هي الهوية، والإديولوجيا، والصورة، والكُمون، والتضمّن، والاستقراء، والنية، والحدس؛ وفي الباب نفسه يمكن تعميم هذا الحكم، إلاَّ في مصطلحات قليلة من هذه، على معجم اللّسانيات لجان ديبوا أيضاً) والعلوم الدقيقة، يبدو من المكابرة الاِدّعاءُ بأنّ علماً ما بمفرده قادرٌ على الاستقلال بذاته، والاجتزاء بأدواته الإجرائية، وجهازه الاصطلاحيّ، وأسسه المنهجية الذّاتيّة وحدها. فمثل هذا التصور للأمور جاوزه، على أيامنا هذه، الزمن. ولعلّ ما يحدث من تعاون بين المؤسسات الصناعية المتطورة ما يجعلنا نقتنع بوجوب التعاون بين العلماء الإنسانيين، ولكن في حدود حميمية الخصائص الجمالية والشكلية والجوهرية التي تطبع كلّ علم؛ وذلك كي لا يقع الالتباس بين هذه العلوم من جهة، كي لا يقع إذابة بعضها في بعضها الآخر من وجهة أخرى.
من أجل كلّ ذلك، وعلى الرغم من أن مسعانا في هذا النص يحاول أن يتموقع في إطار السيمائيات؛ فإننا، مع ذلك، لم نر بأساً من التحلل من هذا التموقع للانتشار خارج فضائه كلّما ارتأينا ذلك ضرورة لإشباع النص بالتحليل، ولإثراء مفهوم التشاكل بحيث يغتدي صفيحة حساسة قابلة وقادرة معاً على التحرك في أيّ اتجاه شئناه لها.
وقد رأينا أن نتوسع في مفهوم التشاكل، لدى التطبيق على نص "شناشيل ابنة الجلبي" لبدر شاكر السياب لينتقل من مجرد اختيار لوجه واحد من القراءة، إلى شبكة مركّبة متداخلة متماسكة ذات قدرة على التناول حين التعمق في بنية هذه القصيدة واستخراج كلّ ما نودّ استخراجه منها؛ بما يتيحه لنا من حولها إجراء التأويلية التي من حقّها الضرب في مناكب أيّ نصّ أدبيّ والذهاب به في ذلك إلى أقصى الآفاق الممكنة... وهو مسعىً اضطّرّنا إلى الاستظهار ببعض الأدوات البلاغية التي على الرغم من أنها أُدمجت في نظريّة الخطاب الآن.. إلاّ أن الحديث عنها في التنظيرات السيمائيَّة يعني أنها لا تبرح تفرض نفسها في بعض المواقف، وخصوصاً لدى تحليل نصّ أدبيّ تحليلاً أسلوبياً سميائّياً.
وعلى أننا لم نتورط في هذا الفخّ إلاَّ نادراً، وبشيء كامل من الوعي المنهجي. وهناك إشكالية أخرى من العسير إهمالها في هذه المقدمة المنهجية؛ وهي تمثُل في طائفة من التساؤلات التي يجب أن تُلْقَى كلّما تحدثنا عن القراءة التحليلية في أيّ مستوىً من مستوياتها؛ ومنها: هل هناك قراءة حياديّة، وقراءة متحيّزة؛ والإطلاق الثاني من مصطلحات قريماس (2)؟ ثم، هل هناك قراءة متعددة بحيث تقابل قراءة أخرى مفردة؟ ثم، هل يمكن تصوّر قراءة مركّبةٍ لتقوم، مقابلها، القراءة البسيطة؟
إنّ من النصوص لَما قَدْ يستعصي عليك فلا يكاد يؤتيك أكثر من تأويل واحد للقراءةٍ؛ مثل النصوص القانونية والفقهية التي لا يقصد، ما أمكن ذلك، إلى تعميتها وتضبيبها، والنصوص العملية المتمحضة لتعليم مبادئ الحرِف والفنون مثل الكتب المتعلقة بتعليم الخياطة، والنسيج، والطبخ، والحاسوب، وهلمّ جرا؛ فمثل هذه النصوص لا تحمل، في مألوف العادة، إلاَّ "إزوطوبات" (تشاكلات) أحاديّة.
وإذا كان قريماس يعترف بوجود جملة من التشاكلات داخل قراءة واحدة، ضمن الحقل السيمائيّ؛ فإنه يرفض، بشيء من القراءات تبعاً لثقافات القراء وإمكاناتهم الفكرية والذكائية، وأهوائهم وإديولوجياتهم أيضاً؛ ذلك بأنه يَعُدّ ذلك ضرْباً من القراءة المتحيّزة، أو القراءة غير الموضوعية؛ حين يقرر وصاحبه كورتيس: "إنّ من المقبول أن يشتمل نصَ واحد على جملة من التشاكلات
[Isotopies] لقراءة ما؛ بينما التوكيد على وجود قراءة جمعيّة
[Plurielle] لنصوص ما؛ أي الذهاب إلى أنّ نصّاً ما يكون قادراً على منْحنا عدداً لا نهائياً من القراءات؛ يبدو لنا ذلك مجرد افتراضٍ فجٍّ يتّسم بتعذّر الإثبات" (3).
فكأنّ الشيخ يرفض كلّ منهج للقراءة خارج إطار التشاكلات التي هي في حدِّ ذاتها غير محدودة المعالم انطلاقاً، ولا محصورة التقاسيم بدءاً؛ إذ يمكن أن نقرأ، من منظورنا نحن على الأقلّ، نصاً واحداً واقعاً ضمن إشكالية واحدة، قراءة واحدة أو جملة من القراءات تبعاً لما نتمتع به من سعة التجربة، أو ضيقها، أو عمق الثقافة الأدبية أو ضحالتها، وكثرة التعامل مع النصوص الأدبية أو قلّتها.. فالذي يتناول نصاً أدبياً، لأول مرة، لا يشفع لـه أن يكون قَدْ تعلّم كلّ العلوم اللسانية والسيماوِيّة لكي يكتب تحليلاً جيداً؛ إذ كان اكتساب جملة من التقنيات والمعارف النظرية لا يكفي؛ بل إنّ الممارسة الواعية الذكيّة ترد في درجة مماثلة لاكتساب النظريات وتحصيلها. إن التجارب أثبتت أن النص الواحد يجب أن يظلّ مفتوحاً إلاَّ ما لانهاية؛ وأنّ كلّ قارئ يمكن أن يقرأه بمنظاره، أو من منظوره الخاص به، الوقف عليه، دون أن يكون ذلك، على وجه الضرورة، ضرباً من التحيّز الذي يتحدث عنه قريماس وكورتيس.
ونحن نعجب لهذه العبارة التي توهم بوجود قراءة علمية خالصة العلمية لنص ّخالص الأدبية. وهو الأمر الذي لا نحسب ان قريماس نفسه يؤمن به في قرارة نفسه؛ مع ما نعلم من لهاث السيمائيين وراء تأسيس قواعد صارمة لسيمائية عبر نظرية اللسانيات؛ ولكن كلّ المساعي والبحوث والنتائج، إلى يومنا هذا، لم تستطع أن ترقى، في هذا المجال الجديد، إلى مستوى النظريّة (4). فكيف، إذاً، يصر قريماس وأصحابه على مطالبتنا بإغلاق النصّ، أي بإلغاء كلّ القراءات الغيرية، والتمّسك بقراءة واحدة، بحجة أن تعددية القراءة تفضي، حتماً، إلى تحيّز. بل إن هذا الموقف هو الذي يمثّل شيئاً من التحيّز.
والعرب من الأمم التي تعاملت مع النص الأدبي على أساس من انفتاحيّته وعطائيته، منذ القدم بحيث ألفيناهم يكلَفون كلَفاً شديداً ببعض النصوص الأدبية الكبرى مثل شعر المتنبي الذي وصلنا من التراث أكثر من ثلاثين قراءة أدبية عنه؛ لعل أشهرها قراءات ابن الأثير، وابن جني، وابن سيده، والتبريزي، وعلي بن عبد العزيز الجرجاني، والصاحب بن عبّاد، وأبي حيان التوحيدي، والشريف الرّضي، والواحدي(5).
ومثل ذلك يقال في النصوص الشعرية التي جمعها أبو تمام وعُرفت تحت عبارة "ديوان حماسة أبي تمام" حيث توالت قراءات هذه المجموعة
الشعرية حتى بلغت أكثر من عشرين قراءة لعل أشهرها قراءتا التبريزي والمرزوقي (6).
كما يقال نحو ذلك أيضاً عن مقامات الحريري التي تعوَّدَ الناس شرحها فجاوزوا حدّ الطور المقبول.
ولا تعني تلك المساعي، بلغة عصرنا، إلاَّ جماعية القراءة، أو تعدديتها، وأخرى تنزع منزعاً آخر قَدْ يكون بلاغياً، وهلم جرا.. وعلى أن داخل كلّ قراءة يمكن أن تطفر قراءة أخرى تنتمي إلى نوعها، ولكنها تختلف عنها؛ كما يحدث ذلك في تأويل بيت من الشعر نحوياً.
ومن أجل ذلك كله نجنح لتعددية القراءة بتعدد القراء، وبتعدد الأهواء، وتعدد الثقافات، واختلاف الأزمنة، وتباعد الأمكنة. كما نميل إلى تعددية هذه القراءة بالقياس إلى الأجناس الأخرى من الفنون كاللوحة الزيتية العبقرية التي تظل قابلة للقراءة على وجه الدهر بحيث يمكن أن يقرأها كلٍّ حسَب مستواه وهواه؛ دون أن يستطيع أحد أن يزعم أن قراءته وحدها هي الأمثل، وهي، إذاً، النهائية؛ وكلّ ما عداها يُعَدّ تحيّزاً باطلاً، ولغواً ماثلاً. ولا نشترط، أثناء ذلك، إلاّ أن يكون القارئ متخصصاً محترفاً؛ إذ يجب إسقاط قراءات المبتدئين والهواة والمحرومين من الذوق الأدبي الأصيل من الحساب.
وعلى أن قريماس نفسه، لدى منتهى المقال الذي كتبه عن القراءة في معجمه السيمائيّ، يعترف بأن "الصعوبات التي تعتور أيّ نصّ أدبي، والتي تنضاف إليها صعوبات الوسط الاجتماعيّ الثقافي الذي يحيط بها: يضاف إليها [مستوى] الكفاءة النصية للقارئ حيث لا يمتنع أن تَسِمَ [هذه الخاصية]
وتَشرِطَ سيرتها تبَعاً للمحيط الاجتماعيّ/الثقافي الذي يحدد حالةً لسمائيّة ثقافية معيّنة" (7).
وما دمنا بصدد كتابة مقدّمة منهجيّة لإشكالية القراءة السيمائيّة فإنه قَدْ يكون من الحقّ علينا، ولنا، معاً؛ أن نحدد المنهج الذي ننهجه في تحليل أيّ نصّ أدبي ندفع إلى قراءته. ولكن قبل أن نأتي ذلك، وقد يكون من حقّ القارئ أن يعرفه، من الحقّ علينا أن نلاحظ:
1. لا يوجد منهج كامل، مثاليّ، لا يأتيه الضعف ولا النقص من بين يديه ولا من خلفه. وإذاً، فمن التعصب (والتعصب سلوك غير علميّ، ولا أخلاقيّ أيضاً) التمسّكُ بتقنيات منهج واحد على أساس أنه، هو وحده، ولا منهج آخر معه، جدُير أن يتَّبَع. وقد كنّا حضرنا محاضرة ألقاها الأستاذ محمود أمين العالم، نحن قدّمناه فيها، من حول النزعة الاجتماعية (8)؛ فهالنا فيه أنه كان يتحدث، أو قل: إنه كان يحامي، فإذا كأنه زعيم حزب سياسيّ، في حملة انتخابية مصيرية، ينضح بشراسة وقوة عن مبادئ حزبه أمام خصومٍ ألدّاءَ. وكان الشيخ يهاجم في محاضرته البِنويّة والحداثة والسيمائيّة وكلّ ما لـه صلة ببعض هذه النزعات الجديدة في قراءة الأدب وفهمه وتأويله: صراحة وبشكل يحمل على الرثاء له، والإشفاق عليه، والدعاء لـه بخير. مع أن المسألة في غاية البساطة؛ على غاية تعقيداتها، فإذا سلّمنا بأنّ كلّ منهج ناقص، وكلّ ناقص يفتقر إلى كمال؛ وكلّ كامل مستحيل على هذه الأرض؛ اقتنعنا بضرورة تضافر مساعي كلّ الكفاءات النقدية، والعبقريّات التنظيريّة لمحاولة إيجاد مقاربة منهجية تبتعد، ما أمكن، عن النقض والخلل؛ وتزدلف، ما أمكن، من الكمال دون الترويج بتعصّب أعمى لإديولوجيا معيّنة؛ وخصوصاً في عهد جنحت فيه الإديولوجيات للأفول والذبول، بعد توهّج وعنفوان؛ واغتدى الناس لا يبحثون في أيّ مبدأٍ من المبادئ إلاَّ على أساس من منفعته إن كانوا ساسة، وإلاّ على أساس من حقيقته وموضوعيته إن كانوا من العلماء...
وانطلاقاً من حتميّة انعدام الكمال في أيّ منهج؛ فإننا لا نصل أو نميل، من حيث المبدأُ، إلى أي منهج إذاً؛ ونجتهد، أثناء الممارسة التطبيقيّة، أن نضيف ما استطعنا إضافته من أصالة الرؤية لمنح العمل الأدبيّ الذي ننجزه شيئاً من الشرعيّة الإبداعية، وشيئاً من الدفء الذاتي، معاً؛ وللابتعاد عن النظرة الميكانيكيّة إلى النصّ الأدبيّ: وهي نظرة الإديولوجيين، والنفسانيين، والاجتماعيين، والبنويّين، والسيمائيّين جميعاً؛ فكلّ من هؤلاء يعمد إلى قراءة نصّ ما من وجهة نظر شديدة الضيق، بالغة التعصّب؛ لا تجاوز مدى اتجاهه الذي يتعصب لـه؛ فيحمله على التعصب على سَواه فيقع فيما لا ينبغي لـه الوقوع فيه.
بيد أن انعدام الكمالية في المنهج لا ينبغي لـه أن يلقي بنا في هوّة سحيقة بحيث لا نصل إلى الكسل والقنوط؛ مدّعين أنْ لا فائدة من وراء أيّ مسعىً من المساعي ما دامت لعنة النقص ضربةَ لازبٍ تطاردنا أنَّى سعينا، وحيثما توجهنا؛ بل يجب أن نسعى بصرامة وإصرار، من أجل التطوير المستمرّ للأدوات المنهجيّة تأصيلاً وإجراءً.
2. وإذا كان علينا أن نعمل باستمرار في سبيل تعميق الرؤية النقدية، وتطوير التأويلية، والاستظهار بالكفاءة الذاتيّة لتفجير الكامن، وتوهيج الشاحب، وتوضيح الغامض، وحصر الشارد، والتحكّم في المعتاص؛ فإنما ذلك يعني تسليمنا بإفلاس المناهج التقليدية العتيقة التي لا ينبغي مدارستها إلاّ على أساس تاريخيّ خالص؛ كما قد يدرس العالم الإلكترونيّ مبادئ الميكانيكا التقليدية ليلمّ بوظائف القطع داخل الجهاز العام؛ كما كان ذلك في الزمن الغابر على الأقلّ. فدراسة المناهج العتيقة يندرج ضمن إطار ابستميولوجيّ محض؛ دون أن تكون لـه نتائج عمليّة في السعي النقديّ الحداثي. إن الاشتغال بالمناهج الحداثية يفضي، حتماً، إلى إنتاج معرفة، بل ربما إنتاج نظرية جديدة للمعرفة، على أنقاض ما فُكِّكَ من بناء المعرفة القديمة… على حين أن تفكيك نظرية هيبوليت تين [Hippolyte Taine] الثلاثية، مثلاً، لا يُفضي إلاّ إلى إنتاج نظريّة مناقضة، وخصوصاً في المبدأ الخاصّ بتأثير العِرْق في الإبداع.
3. وركْحاً على ما ورد في التأسيس الأول من هذه الحَيْثية؛ فإنه يمكن (وحين نعتمد اصطناع الإمكان فإنما نجيئُه لنذر الباب مفتوحاً للمناوئين الذين قَدْ يتأبَّوْن ذلك تأبيَّاً) التركيب بين المناهج كالتركيب الذي حدث بين البِنويّة والنزعة الماركسية في الكتابة النقدية؛ وهو التركيب العجيب الذي نَجَلَ منهجاً أُطلق عليه "البنويّة التكوينيّة"؛ وكإمكان التركيب بين الشكلانية الروسية، واللسانيات الدوسوسورية التي نجلَتَا تيّاراً شكلانياً هو البنوية؛ وكالميثولوجيا، والفولكلور، واللسانيات العامة التي ولدت شيئاً اسمُه السيمائيّة...
إنّ تهجين أيّ منهج أمرٌ ضروريّ لتنشيط أدواته، وتفعيل إجراءاته؛ كيما يغتديَ أقدرَ على العطاء والتخصيب.
4. ويمكن انتقاء منهج بعينه، بتركيبه مع سَواه أو بتَركه دون تركيب؛ بناءً على الجنس الأدبيّ المحلّل أو المقروء. ومع عدم طمعنا في أن يرقى رأينا هذا إلى مستوى النظريّة؛ فإنّا مع ذلك نعتقد:
أ. إذا كان النصّ المحلّل من نوع رواية الواقعية الاشتراكيّة، مثلاً، فإنه يمكن اصطناع البِنَويّة التكوينيّة في تحليله مع اتّباع التفكيك كإجراء.
ب. إذا كان النص من جنس الرواية الجديدة فيمكن اصطناع البنوية مع الاستعانة بالسيمائية أداة للفهم والتأويل، والتفكيكية إجراءاً منهجيّاً للعمل.
ج. وأما إذا كان النص شعريّاً فيمكن اصطناع:
*إما البِنَوية اللسانياتية مع محاولة اصطناع التفكيك؛
*وإما السيمائيّة مع استثمار كلّ عطاءات التأويلية، والرمز، والقرينة، والإشارة، والمماثل (الإقونة)، والانزياح، وكلّ الإجراءات السيمائيّة التي يستظهر بها المحلّل على قراءة نصّ شعريّ على نحو من الجمالية راقٍ.
واصطناع البنوية في تحليل النص الشعري ربما اقترحناه من أجل الكشف عن البنى الفنية للنص؛ وأما استخدام اللسانيات فإنما جاء للكشف عن جمالية النص وخصائص نسجه، ومحاولة التوصل منه إلى مفتاح السر. وأما استعمال السيمائية إجراءً في تحليل نصٍّ شعريٍّ فإنما يجب أن يكون للكشف عن نظام العلامات في هذا النص على أساس أنها قائمة بذاتها فيه؛ لا مجرد وسيط عبثيّ؛ وذلك بتعرية البنية الفنية لـه بصَهْرها في بوتقات التشاكل والتباين، والتناصّ والتقاين (أو التماثل)، والانزياح الذي يزيح الدلالة عن موضعها الذي وُضعت فيه، أو لـه في أصل المعاجم، ويمنحها خصوصيّة دلالية جديدة هي التي يحمّلها المبدع في لغته؛ وذلك بتوتير الأسلوب، وتفجير معاني اللغة، وتخصيب نسوجها...
5. ويتعذّر جداً، في رأينا على الأقلّ، تناولُ نصٍّ طويل، سواء علينا أكان نثريّاً أم شعريّاً بمنهج جانح للسيمائية لِما يتطلّب تتبّعُ كلّ سماته اللفظية من تحليل فردانيّ، ومزدوج، ومركّب أو جمعيّ، ونحويّ، ومرفولوجيّ، ومتشاكل وغير متشاكل، ومتماثل، ومتحايز (ونريد بالمتحايز إلى إمكان تبادل الحيز [الفضاء]: المواقع في النص).
بيد أن النصوص الشعرية العادّيَة الطولِ (قصيدة متوسطة الحجم)، يمكن أن نمارس عليها التحليل السيمائيّ فلا تمتنع من تقبّلها لـه دون أن يفضي ذلك إلى طول مسرف، وإسهاب مفرط؛ إذ لو جئنا نطبّق الأدوات السيمائية بكل جَذاميرها على نص روائي طوله مائَتا صفحةٍ فقط لخرج التحليل المكتوب عن هذه الرواية في ألف صفحة أو أكثر من ذلك كثيراً. كذلك نقدّر نحن هذا الأمر بناءً على ما مارسناه من تعاملات مع نصوص أدبية كثيرة: شعرية ونثرية، ورسميّة وشعبية. من أجل ذلك نرى أن لكلّ مقام مقالاً، ولكل حال لبوسها؛ وأن هذه الكثرة من المناهج كانت بمنزلة المعروضات المطروحة في سوق الأدب: كلّ ناقد يأخذ بشيء مما يلائمه؛ أو ما يلائم النص الذي يحاول تحليله، منها. فكثرتها، من هذه الوِجهة، ليست عبئاً في شيء؛ ولكنها تستحيل إلى مزيّة ثقافية نلتمس فيها طلِبَتَنا كلّما احتجنا إليها.
* * * * * * * *
ذلك، وقد ارتأينا أن نتناول نصّاً شعريّاً نقرؤه على نحو نحاول ابتكار إجراءات القراءة فيه ما استطعنا. ونترك ذلك، على كلّ حال، لِسَوائنا أن يقول في ذلك ما شاء لـه هواه أن يقول فيه. وتوخّينا أن يكون النص المقروء وسَطاً من حيث فضاؤُه؛ وهو قصيدة "شناشيل ابنة الجلبي" التي فرض علينا حجمها وشكلُها معاً أن نمارس عليها التحليل السيمائياتي (السيمائيّ، لدينا، يتعلق بالنظرية، والسيمائياتي يتعلق بالتطبيق ضمن إجراءات السيمائيّة) الذي هو في حد ذاته اجتزأنا منه بالقراءة على سبيل التشاكل، واللاتشاكل (التباين)، والتقاين أو التماثل، والقرينة، والرمز، والحيز...
وقد اصطنعنا مصطلح "التقاين" [التماثل] لأول مرة في العربية وقسناه على التشاكل على أساس أن النص الشعريّ في معظم الأطوار يمنحنا مظاهر مُماثِليّة [إقونيّة] [Iconiques] لا تتجلّى في الأثر المتروك على الحيز (المرئيات)؛ ولكنها تتجلّى أيضاً في الأثر المسموع عبر الحيز (المسموعات من الأصوات المتشكّلة هي في ذاتها من عدّة أصناف صوتيّة: خافتة، ومتوسطة، ومدويّة)؛ وفي الأثر الملموس (كالحرائر، وكلّ ذوات الملمس الناعم الطريّ...)؛ وفي الأثر المشموم (كالشذى للعطر، وكالتضّوع الذي تشتمّه وأنت تدرج في درج عمارة بعد أن تكون سيّدة متعطّرة مرّت من هناك... فإنّ ذلك التضوّعَ يشاكِه ذلك الأثر الذي تُحْدثه القَدَم حين تمرّ من فوق رمل أو طين أو ثلج أو نحو ذلك مما تسوخ فيه القدم، وترتسم عليه).
وقد كان امرؤ القيس اصطنع في بعض شعره مُماثلاً - إقونة - شمّية حين تحدث عن عطر تينك المرأتين - أم الحويرث وأم الرباب - اللتين كانتا إذا نهضتا تضوّع المسك منهما... (9). ومماثل الشّمّ لا يكون في العطريّات وحدها؛ ولكن قَدْ ينصرف أيضاً إلى الروائح الكريهة كالرائحة المنتنة التي يتركها حيوان قذر حين يمرّ قريباً منك في الزمان أو في المكان.
وربما كان هذا المسعى هو الأولَ من جنسه في تحليل أيّ نصّ عربيّ. وكانت غايتنا أن ننهض بتجربة تحليلية نسهم بها في الأعمال الحداثية الأخرى التي بدأت تظهر في المغرب والمشرق في محاولة لإرساء أصول مدرسة عربيّة تقوم على قراءة النص الشعري العربي من منظور إذا اتخذ بعض الأدوات المستجلبة من مناهج الغرب الحداثية؛ فإنه يظل، في الوقت نفسه، وفي أساسه، عربيّ الذوق، عربيّ الصقل، عربيّ الإشراقة.
وقد نهضت قراءتنا لنص شناشيل ابنة الجلبي على جملة من الأسْيقة لعلّ أقْمنَها بالذكْر:
1. إننا لاحظنا في هذا النص جنوحاً نحو النسيج التشاكلي أكثر من ميله إلى التباين. وهو شأن يمثُل في سيرة الحياة نفسها؛ إذ على ما يميز الناس من تباين، ويباعد بينهم من تنافر؛ فإن التشاكل يظلّ أكثر وروداً في علاقاتهم: بعضِهم ببعض.
2. إن هذا النص في أحوال تشاكله، وأطوار تباينه، وتجليات تماثله أيضاً، يقوم، من حيث الدلالة، على تراكم الانتشار والامتداد، أكثر من قيامه على تراكم الانحصار والانجزار.
وقد اجتهدنا في أن نقرأ هذا النص، داخل التشاكل اللفظي والمعنويّ معاً، قراءة تشاكلية تنهض، كما أسلفنا القول، على علاقة الانتشارية. والانتشارية، هي أيضاً، سيرة معروفة من سير الحياة التي تميل، في معظم مظاهرها، إلى هذا السلوك. فالأجسام تنتشر في الفضاء؛ فتستحيل من الطفولة إلى الشباب، ومن القصر إلى الطول، ومن الغضاضة إلى الاشتداد، ومن الضآلة إلى الضخامة؛ والحياة الطبيعية نفسها تتجدد كلّ موسم حين تجودها الأمطار فيربو الشجر، وينمو الزرع، وينجم النبت... وهكذا.
3. إنّ التباين الذي منحناه ما هو لـه أهلٌ من العناية في هذا النص يمنح التشاكل دلالته، ويمكّن لـه في التبنّك وتبوّئ المكانة التي هو بها قمين. ويتشكّل هذا التباين، أو "التقابل" كما كان يطلق عليه عمر بن مسعود المنذري، أساساً، من التعارض المعنويّ كالسواد والبياض؛ بيد أنه يخرج، في أطوار كثيرة، عن هذا السياق فيمثُل في الانحصار والانجزار.
ولعلّ القارئ المستنير الآن استطاع أن يقرأ ما بين السطور مما لم نقل؛ وهو أن هذا النص الذي عالجناه تحكمه، باصطلاح البنويين، بنيتان اثنتان: بنية انتشارية، وبنية انحصارية. وهذه الازدواجية هي نفسها أيضاً شأن من شؤون الحياة حيث ظلت الازدواجية تهيمن على الفكر الإنسانيّ منذ خمسة وعشرين قرناً على الأقلّ: حيث الليل والنهار، أو الظلام والنور، والخير والشر، والذكورة والأنوثة، والموت والحياة، والشباب والشيخوخة، والكفر والإيمان، والعلم والجهل وما إلى هذه الثنائيات التي لا تكاد تحصر في الذهنية الإنسانية. فكأن البنيتين الاثنتين معاً تجسّدان واقع الحياة الإنسانية، وسيرة نظام الكون.
4. إننا، كما أسلفنا الإشارة، اتخذنا سبيل التعددية التشاكلية [Pluri – Isotyopie] التي تقتضي تناول جملة من المعاني، أو الدلالات، أو الأسْيِقة المتراكبة في نصَّ خطابٍ واحد. إذ بدون تركيب، أي بدون تعددية الإجراء، لا يمكن البلوغ من النص الأدبيّ المبلغ الذي يكشف عن طواياه، ويبدي عن خفاياه. بيد أن هذه التعددية اجتزأت بالتماس أربعة إرجاءات سيمائيّة (كذلك نرى نحن النسبة النحوية الصحيحة إلى لفظ "السيمائية")، خصوصاً، هي كما أسلفنا القولَ: التشاكل - التباين، والتماثل (تبادل المُماثِلات المواقعَ والوظائف فيما بينها داخل النص المحلّل)، والتحايُز (تبادل الأحياز فيما بينها المواقع والوظائف داخل لوحة حيزية واحدة، أو عدة لوحات من الحيز)، والتقارُن (تبادل القرينة مع صنوتها مواقع الدلالات المنبثقة عن التخاصب المشترك بينهما، أو بينهنّ، أو حتى بينها وبين نفسها...)؛ مع الإمعان في متابعة كلّ ركن من هذه الأركان إلى نحو المظاهر اللسانياتية الأخرى؛ إذا رأينا أنّ بعض ذلك ما يخدم النصّ المطروح للتحليل. والحق أننا لم نجاوز، بذلك، إطار هذه التعددية التشاكلية (وقد ابتلانا بهذا التعبير الثقيل قريماس) التي تمنح الإجراء التحليلي شيئاً من الحرية في التأويل بحكم تعددية القراءة.
لكن لمَ السيمائية؟ ثم ما السيمائية في حد ذاتها؟ إننا لا نعتقد أنا مسؤولون، أمام القارئ الكريم، عن الإجابة عن مثل هذين السؤالين، هنا والآن، لأنّ ذلك يتطلب كتابة تاريخية ونظرية مطولةً قَدْ يحين حينِها. بيد أن ذلك ما كان ليحظُر علينا إلقاءَ أسئلة أخرى قَدْ تُفضي إلى الإجابة عنهما على نحو ما، والآن أيضاً؛ وذلك بإلقائنا مثل بعض هذه الأسئلة: ما علاقة الأسلوبية بالسيمائية من وجهة، والبلاغة بالسيمائية من وجهة ثانية، وربما البنوية بالسيمائية من وجهة أخرى؟ وهلا أمكن الاجتزاءُ ببعضها دون الآخر؛ وذلك بتذويب بعضها في بعضها الآخر أيضاً؟
أما الأسلوبية، عبر تاريخها الطويل، فلم تُفلح قَطُّ في العثور على تعريف لها جامع مانع، كما يقول المناطقة والأصوليون، يحدد موقعها من علوم اللسان، أو ما يمكن أن نطلق عليه علوم نتاج اللسان. وعلى الرغم من المساعي التي بذلت في العهود الأخيرة لتطوير هذا المفهوم، والرقيّ به إلى مستوى النظرية؛ فإن تلك المساعي انتهت إلى شيء من الخيبة جعلت المشتغلين في هذا الحقل لا يترددون في إلحاق هذه الأسلوبية بالسيمائية وتذويبها فيها بصورة نهائية؛ مما جعل الأسلوبية، وخصوصاً منذ عام خمسة وستين وتسعمائة وألف، تفقد وضع العالم المستقلّ بنفسه، عن علوم اللسان الأخرى. (10)
وأما البلاغة التي هي، كما يعرّفها بعض المنظّرين الغربيين؛ "شكل قديم لتحليل الخطاب" (11) فقد لهِجَ بها علماء اللسان المعاصرون فقدحوا وذموا حتى أقنعوا، أو كادوا، بأن البلاغة يجب أن تصنّف في تعداد الفنون المنقرضة. ولكن، مع ذلك، ظلت البلاغة ماثلةً في أذهان الناس، راكضة في تفكيرهم الجماليّ، شرقاً وغرباً؛ مما جعل معظم العلوم المناوئة لها لا تعترف بكثير من أصولها التي أدمجتها فيها. ولعلّ الذي أفضى إلى إفلاس البلاغة أنها لم تعد تجاوز، عبر تاريخها الطويل القديم بقدم الفكر الأدبي، شرقاً وغرباً أيضاً؛ اصطناع أدوات معيّنة لتحليل الخطاب مثل التشبيه، والاستعارة، والكناية، والبديع...
وإذا ألفينا كثيراً من هذه الأدوات مصوغاً، بشكل آخر، في علوم اللسانيات المحدثة، ومنها السيمائية؛ فإن ذلك لم يحظُر على السيمائيّين إدماجها، نهائياً، في مبادئ علمهم الجديد، أو هذه المجموعة من الإجراءات التي تطمح في أن تكون علماً جديداً على الأقل.
لقد كان محكوماً على البلاغة في عهد تطوّر فيه كلّ شيء، أن تنتهيَ إلى ما انتهت إليه بحكم قُصوريّة أدواتها بالقياس إلى ما تطمح إليه السيمائية في اقتدارها الشديد على التسلط، لدى انبرائها إلى تحليل الخطاب، على التراكيب والألفاظ، وأجزاء الألفاظ، وأجزاء أجزاء الألفاظ [المُرْفيمات، والمونيمات، والسيمات (ولا ينبغي أن يلتبس قولي: "السيمات" بمصطلح "السِّمات" الذي هو إنما هو جمع سِمة، بمعنى علامة؛ في حين أنّ "السيمات" إنما هي جمع "سيمة"؛ وهي لفظة أصلها الأجنبي (Séme)]، والسنتاقمات...)؛ وفي كفاءتها لدى تحليل التشاكلات التي تختصب عبر النسيج الأدبي بتقنيات متطورة كثير منها مستجلب من الفلسفة، والمنطق، واللسانيات، وربما استُجلب بعض تلك التقنيات من العلوم الدقيقة مثل الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات...
على حين أن الشعريات (Poétique) [ونحن نَمِيز "الشعريات" عن مفهوم الشعرية (Poéticité)؛ إذ هما لدى علماء الغرب شيئان اثنان مختلفان ويراهما النقاد والسيمائيون العرب المعاصرون شيئاً واحداً...] حاولت المقاومةَ والتأبِّيَ في وجه السيمائية حيث لا يزال الناس في الغرب مختلفين بين أن يدمجوها في السيمائية ويستريحوا؛ كما جاءوا ذلك حين أدمجوا الأسلوبية والبلاغة فيها؛ أو يُبقوا عليها مستقلّةً. و يبرح التطاحن مضطرماً، في فرنسا، بين قريماس وأشياعه، وبين ميكوثيك صاحب كتاب "السمة والشعراء" (12) حيث لا يتردد هذا في رفض علميّة السِّمة. ونتيجة لهذا الرفض الضمني لعلمية هذا العلم، فإنه يميل إلى عَدّها مجرد ميثولوجيا.
والذي يعنينا، هنا، أنّ هذا العلم هو السيمائية، أو هذا الشيء الذي يشرئبّ بكل قوة إلى أن يغتدي علماً، كاللسانيات مثلاً؛ يحاول التسلط على النص من حيث هو، ولا سيما النصُّ الأدبيِ لما فيه من تشاكلات لا توجد إلاَّ فيه؛ بحكم جمالية نسجه، ومجازية استعمالاته، وشفافَة لغته وانزياحها.
والسيمائية بحكم عنفوان شبابها، ونضارة إهابها؛ وقوة أسْر تقنياتها التي تقوم على الفيزياء والرياضيات والفلسفة والمنطق... تحاول احتواء كلّ العلوم التقليدية التي، كما رأينا، كان يحلَّل الخطاب الأبديّ بها. من أجل ذلك جئنا نحن اليوم إلى نصّ من نصوص السياب، فاجتهدنا في تحليله بأدوات سيمائيّة؛ آملين أن لا يصدم ذلك القارئ العربي مقدارَ ما يفتح أمامه آفاقاً عِراضاً للتحليق في مجال ما أفسحه؛ وعلى تعقيدات أدواته، وجفاء مصطلحاته، ما أجملَه.
ولكن ما التشاكل؟
لقد كان وضع هذا المصطلح، في اللغة الفرنسية، لمفهوم من مفاهيم الكيمياء، وقد اصطنع هذا الحرف لأول مرة عام ثلاثة وثلاثين وتسعمائة وألف معجمُ لاروس؛ وهو منحوت، في أصله، من جذرين اثنين إغريقيّين (13):
(Isos): ومعناه يساوي، أو مساوٍ، و(Topos)؛ ومعناه المكان، فكأنّ هذه التركيبة تعني المكان المتساوي، أو تساوي المكان؛ ثمّ أطلِقَ هذا اللفظ المركّب على الحالّ في المكان؛ أي في مكان الكلام؛ فقُصِدَ به إلى كلّ ما استوى من المقوّمات الظاهرةِ المعنى، والباطنتِهِ؛ والمتمثّلِة في التعبير أو الصياغة؛ وتأتي متشابهةً مرْفولوجيّاً، أو نحويّاً، أو إيقاعيّاً، أو تراكبيّا، عبر شبكة من الاستبدالات والتباينات؛ وذلك بفضل علاقة سياقية تحدد معنى الكلام.
ويبدو أن هذا المصطلح لم يجرِ في العربية إلاَّ في بداية الأعوام الثمانين من هذا القرن؛ ولا نعرف معجماً عربيّاً مما نملك نحن على الأقلّ، عرض لهذا المفهوم السيمائيّ الذي لا يبرح طريّ الإهاب، قشيب الثياب؛ حيث لم يجرِ في لغة السيمائيّين إلاَّ منذ أن اصطعنه قريماس آخذاً إيّاه من مصطلحات الكَيْمِيائيّين، فوقَره بدلالة اصطلاحية جديدة.
إن مصطلح التشاكل، على الرغم من ورود ما يشابِهُه في البلاغة العربية كمصطلح "العدول" مثلاً؛ وعلى الرغم من أن عمر بن مسعود المنذري كان اصطنعه اصطناعاً واعياً، إلاَّ أنه لم يستعمله في تقرير مسائل لسانيّة، ولكن استخدمه في مجال علم الفلك: إلاَّ أنه بهذا المفهوم المعقّد القائم على تسخير كلّ علوم اللسان في تحليل نصّ من النصوص، لم يستعمل، فيما يبدو، لدى الأقدمين، ولا حتى لدى المعاصرين إلاَّ منذ زهاء خمسة عشر عاماً...
ولقد كتب عنه قريماس مادة طويلة في معجمه (14) فتحدث في الحقيقة، عن أنواع كثيرة من التشاكل، لا عن نوع واحد حيث هناك تشاكل نحويّ، وآخر دلالي، وآخر محموليّ أو فاعليّ، وآخر جزئيّ، وآخر كلّيّ؛ كما أنّ هذا التشاكل قَدْ يتعدد (Pluri -isotopie)، كما قَدْ يزودج (BI- isotopie).
ومن بين تعريفات التشاكل أنه عبارة عن محور تركيبيّ على مدى سلسلة تركيبية من الكلام مؤلّفة من كلاسيمات (Classemes)؛ تستطيع ضمان التجانس للخطاب المنطوق (14). وانطلاقاً من بعض هذا التعريف فإنّ مفهوم "تركيب" [Syntagme] يجب أن يضمّ على الأقل صورتين معنويّتين هما اللتان تشكّلا السياق الأدنى الذي يفضي إلى قيام تشاكل (Isotopie). ويعرّف راستيي [F. Rastier] وميشال أريفي [M. Arrive) التشاكل على أنه نواة تركيبيّة [Itérativité] لوحدات لسانياتية، ظاهرة أو غير ظاهرة، منتمية إمّا إلى التعبير، وإما إلى المضمون؛ أو هو بوجه عام تكرار لوحدات لسانياتية (16). بينما يعرّفه أصحاب معجم اللسانيات (17) بأنه وحدة دلالية تتّسم بسِمات خاصّة فتفضي إلى اعتبار خطاب ما، إلى أنه كلّ من المعنى (Signification), ويمكن أن توجد جملة من التشاكلات في خطاب واحد مثل قولنا: يا لـه من ولد؛ فإنما معناه يتحدد بناءً على سياق الكلام: فقد يكون هذا الولد ذكيّاً لطيفاً محبوباً، كما قَدْ يكون غبيّاً شرساً ممقوتاً.
على حين أنّ دولاص [Delas] عرَّفه على أنه جملة من إسهامات لوحدات لسانياتيّة غير ظاهرة بالتناقض مع تنوع لوحدات لسانياتيّة أخرى ظاهرة (18).
وعلى أنّ من الفائدة أن لا نجتزئ بتعريفنا الذي كنا أدرجناه، مبدأَ الكلام، وهو تعريف لا نتعصب له، ولا نتمسك به؛ ولكنه شيء أطلقناه لمحاولة تفهيم دلالة هذا المفهوم وتوصيلها إلى القارئ العاديّ، لا المختصّ؛ ونودّ الآن، إذاً أن نُعرّج على تعريف كان اقترحه محمد مفتاح بعد أن كان عرّج، هو أيضاً، على تعريفات قريماس، وراستي، وجماعة "م" (M). وقد زعم أنه هذا التعريف هو الأجمل والأشمل، والأجمع والأمنع؛ ونصّه: "تنمية لنواة معنويّة سلبياً أو إيجابياً بإركام (كذا؛ والوجه تعدية ركم بنفسه كما هو متداول في كلّ المعاجم العربية) قسري أو اختياري لعناصر صوتية ومعجمية وتركيبية ومعنوية وتداولية ضماناً لانسجام الرسالة" (19).
ونحن على اعتزازنا الشديد بأن يتصدّى دارس عربيّ إلى هذه التعريفات السيمائية فيحاول استكمال نقصها، وتوضيح غامضها، إلاَّ أن تعريفه هذا، على طوله وإلحاحه في الطول، يظل غامضاً لدى القارئ؛ بالإضافة إلى اصطناع ألفاظ لا صلة لها بالسيمائيّة، ولا بالتنظير للخطاب الأدبيّ مثل "تنمية" و"ضماناً". كما أن عبارة "سلبيّا وإيجابيا" قَدْ لا تليق بلغة النقد؛ وقد تنشز أمام الذوق الأدبيّ العامّ؛ ولعل الناقد أن يكون قَدْ اقتبسها من مصطلحات المربّع السيمائيّ لقريماس. وإذا كنا نؤمن بضرورة الاجتهاد والتطلع إلى التطوير فإن ذلك ما كان ليحظُرَ علينا الميل إلى التأنّي والتثّبت قبل الإقدام على تعريف مثل هذه المفاهيم الزئبقيّة.
وأما بالقياس إلى مفهوم التباين الذي يقترب مفهومه من مفهوم "الاختلاف" (Différince)؛ فهو مصطلح قديم من مصطلحات المناطقة الذين يقيمونه على مثال بينهم شهير، وهو أن "الغيريّة" مقابل "الهويّة" أو "الإنّيّة" (Altérité # Identité).
ويشترطون في تركيب التباين وجود طرف ثالث ما، يحدد العلاقة بين الموضوع والمحمول، أو المسند والمسند إليه؛ وهو الذي يمكن أن يقوم على حد أدنى من الكلام متمثِّلاً في بنية ما، حيث إن أدنى ما تحتمل هذه البنية؛ كما يذهب إلى ذلك قريماس، هي "وجود لفظين وعلاقة بينهما" (20)؛ ولابد من أن يكون بين هذين اللفظين معاً شيءٌ يربط بينهما، وشيء آخر يباين بينهما.
وإنه لمعروف لدى السيمائيين أن التباين يكون مُوقراً بشيء من الانزياح بين وحدتين اثنتين، أو جملة من الوحدات؛ فيكون ذلك أول الشروط لظهور المعنى. "وأيَّاً ما يكن الشأن، فإنّ التباين لا يكون إلاَّ على أساس من التشابه الذي يكون لـه بمنزلة دعامة يقوم عليها؛ وبافتراض أن التباين والتشابه هما اللذان يكوِّنان علاقات (...) جديرة بأن تجتمع وتتشكَّل في مقولة خالصة لها؛ وهي مقولة الغيّرية/ الإنّيّة التي يمكن أن تبنى منها بنية أوليّة للمعنى؛ فتكون لذلك نموذجاً منطقيّاً" (21).
وعلى أن مثل هذا الاختلاف المتحدَّثِ عنه لا يشكّل صميم ما نرمي إليه من وراء العنوان حيث إنه إذا كان التشاكل يعني في أصل الاشتقاق الغربيّ تساوي المكان؛ فإن هذا التباين الذي نريد هو ما يطلق عليه باللغة الفرنسية (Hétérotopie) حيث أن هذا المصطلح منحوت من لفظين إغريقيين، هو أيضاً، هما (Hetéros). ومعناه "غير" أو "آخر"؛ و(Topos) ومعناه، كما كنا ذكرنا ذلك من قبل، "مكان". فكأن "الإيزوطوبي" إنما هي "المكان الآخر"، في مقابل "تساوي المكان".
ولنا بعد أن أعدنا هذا المصطلح الغربيّ إلى أصوله الإغريقيّة التي انحدر منها أن نترجمه بـ "التباين" كما نترجمه بالاختلاف؛ كما يمكن أن نستعمله تحت المصطلح التراثي الذي كان اصطنعه الفلكي العربي عمر المنذري وهو "التقابل" (22).
وإنّ من الواضح أنّ التباين المعنوي سيرة تعتور سلوك كلّ المبدعين. وهذه السيرة تكون اعتباطيّةً عفويّة في أحوال، وموظفة قصديّة في أحوال أخرى. ففي النصوص الأدبية العربية التي اشتهرت بكثرة التفنن في اللغة والعمل بها؛ ككثير من المقامات (من الحريري إلى اليازجي)، وككثير من الرسائل الأدبية مثل الرسالتين الهزلية والجدية لابن زيدون: نظفر فيها بنماذج، لا تكاد تحصى ولا تحصر، تركض في سياق التباين المعنويّ.
والحق أنّ البلاغة العربية كانت لحِنت إلى التباين كما كانت لحنت إلى التشاكل فحاولت التعامل معهما في تحليل الخطاب الأدبي؛ ولكن بأدوات لم تعد اليوم لائقة لمناهج العصر؛ وقد ورد التباين تحت تصنيفات مختلفة، وبمصطلحات بلاغية كثيرة مثل: الخبر والإنشاء (ولكن دون العناية المنهجية بهذا الضرب من التباين): عبر نصوص أدبية معيّنة؛ كأن تدرَسَ دراسة تطبيقية في قصيدة من القصائد لينظر في مدى قدرتها على التحاور والتلاؤم في علاقة تنهض على التماس الجمالي الفني، والتطلّع إلى التأثير في المتلقّي وافتكاك إعجابه؛ وهو شأن يجتهد محلِّلو الخطاب الأدبي من المعاصرين صنعَه اليوم؛ ومثل: ما كانوا يطلقون عليه الطباق (الليل والنهار مثلاً)؛ ومثل: المقابلة التي يمكن التمثيل لها بقول أحد البلغاء العرب: "ليس لـه صديق في السر، ولا عدوّ في العلانية"...
والتباين واسع متشعّب، يتخذ لـه طرائق قدَداً؛ من العسير حصْرُها كلّها هنا في هذا المدخل العجل. وهو مفهوم سيمائيّ يقوم على إدراك العلاقة الدلاليّة بين الموضوع والمحمول بحيث يمكن أن يقع القارئ في خديعة الألفاظ كقولنا مثلاً: "الصباح هو المساء". فهناك دالاّن يبدُوان متباينيْن إذ أحدهما يعني الصباح، وأحدهما الآخر يعني المساء؛ بيد أن لفظ العلاقة "هو" هنا هو الذي أفضى إلى تفاعل هذه العلاقة بينهما فجعلهما شيئاً واحداً فأفضى بهما إلى التساوي المطلق؛ فإذا الصباح فعلاً، في هذا التمثل، مساء؛ ونتيجة لذلك؛ فإذا المساء أيضاً صباح؛ فكأنّ الأمر واحد... ولكن ما نصنع بظاهر الدلالة وإنّ هناك دالّين اثنين: أحدهما يعني زمناً معيّناً من النهار (الطرف الأول)؛ وأحدهما يعني زمناً آخر معيّناً (الطرّف الآخر) من هذا النهار؟
إنّ النظرة الساذجة لهذا التركيب قَدْ تنخدع له، وذلك على الرغم من وجود العلاقة النافية لهذه الخدعة المحتملة؛ فتصنّفه لأوّل وهلة في سياق التباين حيث إن المساء، فعلاً، مختلف عن الصباح. ولكننا بقراءة متأنّية، وانطلاقاً من اعتبار العمق؛ أي من مراعاة العلاقة الزمنية التي تجمع بين الموضوع والمحمول من وجهة، ثم من اعتبار طرَف العلاقة الذي يوحد بينهما أدبياً؛ فإنّ الدلالة تتحول إلى سياق التشاكل الصُّراح. فالاختلاف في اللفظ لم يُجْزئ لقراءة هذين المقوّميْن في سياق التباين الذي أتاح هذه العلاقة الدلالية الجديدة الماثلة في خروجها نحو الانزياح.
بيد أن هذه القراءة إنما تنهض على التأويل المجازيّ المحض (وهو أمر واردٌ، فعلاً، في هذا المنطوق الذي مثّلنا به). ولا يستطيع المجاز أن يلحق دلالة الموضوع بدلالة المحمول في كلّ الأحوال؛ فحين نقول: "هذا الرجل بحر" فذلك لا يعني، بأيّ وجه، إلحاقَ هذا بذاك، ولا ذاك بهذا؛ إذ يستحيل أن يغتدي الرجل، أيّ رجل، بحراً من البحار مهما أوتي من الكرم والثراء؛ وإذاً فتصوّر أ= ب تصوّر لا ينهض على المنطق الحقيقيّ للأشياء؛ ولكنه يقوم على المنطق الدلالي الذي يقوم، هو أيضاً، على إدراك علاقة لغويّة خفيّة في تراكُب مقوّمين اثنين متجاورين بحيث ينتقل معنى المحمول إلى معنى الموضوع ليحدث بينهما التساوي.
وأما بالقياس إلى أمر التقاين فإننا ربما نكون أول من اصطنع هذا المصطلح السيمائيّ على هذه الصورة مُجْرينه في الصياغة العربية وذلك قبل أن نهتدي السبيل إلى إيجاد بديل عربيّ سليم يعادل معنى هذا المصطلح الذي نقترح لـه "التماثل" [كلّ مماثل - إقونة - يتبادل العلاقة الدلالية القائمة على الإجراء السيمائيّ مع صِنوه...].
والأصل في الاستعمال الدارج لهذا المصطلح السيمائيّ، لدى النقاد العرب الحداثيين، هو "الإقونة"؛ أي أنهم يصطنعونه كما جاء على أصله في اللغات الغربية. وقد انحدر هذا المصطلح، في أصله، من اللغة الإغريقية (Eicon, eikona)؛ ثم استعمل في اللغة الروسية تحت لفظ (Ikona)؛ ثم استعمل في اللغة الإنكليزيّة سنة 1833 تحت لفظ (Icon)؛ ثم استعمل أخيراً في اللغة الفرنسية سنة 1838 تحت لفظ (Icone).
ولقد كان يعني هذا اللفظ في أصل الاستعمال الإنكليزية والفرنسيّ معاً: "الصور المقدسة للديانة المسيحيّة؛ وخصوصاً للمسيحيّة الشرقيّة. ولعل أول من اصطنعه مصطلحاً، سيمائيّا، إنما هو بيرس (Peirce) الذي عرّفه بعلاقته الشبهيّة مع العالم الخارجي" (23). وهي العلاقة التي تجسّد امتلاك الخصائص نفسها بالقياس إلى الشيء المدلول عليه بذاته (24) كالخريطة الجغرافية التي هي إقونة (مُماثل) للبلد الذي تجسّده على مجرد ورقة. ويعني هذا المفهوم لدى جون مارتيني "شيئاً يتحاور مع آخر بعَلاقة شبهٍ بحيث نستطيع أن نتعرّف عليه ببداهة" (25).
والمماثل [أي الشيء الذي يماثل الآخر في العالم الخارجي؛ أي الصورة الحاضرة المطابقة للصورة الغائبة] هو كلّ أثر متروك على شيء آخر؛ أو قل إنه هو كل شيء حاضر في الذهن، أو في العين، أو في السمع، أو في الشم، وربما في اللمس أيضاً: مطابقٍ لما في الخارج؛ بقصد أو دون قصد؛ وذلك كانعكاس وجه في صفحة عين من الماء، أو في مرآة؛ أو أثر قدم مرسوم فوق رمل أو ثلج؛ أو وجود صور لشخص نعرفه، أو لا نعرفه، من قبل، وهلم جرا... فكلّ هذه الانعكاسات أو الاستحضارات أو التماثلات تعدّ مماثِلِيّة.
ولقد كانت الغاية من استحداث إجراء المماثل في الفكر السيمائيّ هي التمكين لاستحضار شيء بعيد، أو غائب، أو متعذر، أو خارجي، بما يطابقه ـ لا بما يشابهه ـ: رؤية، وذوقاً، وشمّاً، وسمعاً، ولمساً؛ أو الاستظهار به على تمثّل الأشياء بتجسيد طرائق كانت في الحقيقة معروفة في سيرة العالم الطبيعي كمعرفتنا لحضور شخص، دون أن نستعمل النظر، لمجرد سماع صوته؛ فالصوت، هنا، (تقديم التحية مثلاً) هو التماثل لذلك الشخص غير المنظور؛ فحاسّة السمع، هنا، حلّت محلّ حاسة البصر بفضل الصوت المميز الصادر عن ذلك الشخص...
ويمكن الذهاب بعيداً عن هذا المضطرب بحيث تغتدي قطرة الدم العالقة بالأرض مماثلاً لجرح في جسد، أو رعاف في أنف، أو غير ذلك مما يمكن أن يسبب نزْف الدم. كما قَدْ يكون الضوء الأخضر، في قانون المرور، مماثلاً للإباحة في المرور، والأحمر للمنع، والبرتقالي للحِذار أو الانتظار... كما يمكن عدّ سماع إحدى وعشرين طلقة مدفعية، تحت سياق خاص، مماثلاً لزيارة رئيس دولة...
ولعلّ بعض ما مثّلنا به لهذه الإجرائية يدفع إلى الاعتقاد أنّ المماثل مضطرَب شاسع؛ وهو وحده عالم سيمائيّ دون حدود لمن شاء أن يتقصّى آثاره، ويتعمق مظاهره، ويتسقط تجلياته.
ونحن اصطنعنا، في بعض تعابيرنا، "التماثل" مصطلحاً من أجل أن يزد وجمع "التشاكل" و"التباين" من وجهة، ثم لمحاولة إعطاء دلالة جديدة لهذا المصطلح السيمائيّ بحيث لا يغتدي المماثل مجرد شيء لـه قابلية الاستقبال والخضوع فقط؛ ولكنه شيء مقتدر على التفاعل والتخاصب ـ وإذن، على التماثل ـ عبر الخطاب الأدبي بعامة، والخطاب الشعريّ بخاصة: مع العناصر السيمائيّة الأخرى الفاعلة.
ويكشف التماثل، بلا ريب، عن مدى قدرة تعامل ناصّ بعينه مع الصور أو المنظورات والمسموعات والملموسات والمشمومات والمذوقات. ولعل هذه المظاهر أن تكون لوناً إضافياً للتشاكل والتباين؛ فيتيح لإجراءات التحليل أن تسلط على العمق والسطح؛ بكلّ ما ينشأ عن ذلك من تمثّل لعلاقات أخرى قَدْ تجاوز العمق والسطح معاً إلى ما يجاورهما، ويحوم من حولهما.
ومع ذلك، فإننا نعتقد أن المماثليّة تحتاج على شيء من النقد؛ وهي التي تقوم، في إجراءاتها على مبدأ التماثل بين الأشياء الحاضرة والغائبة؛ أي الشبه التامّ بين الصورة الحاضرة الدالة على الصورة الغائبة: إما بواسطة الإدراك البصري، وهو الأشيع في السيمائية التقليديّة، وإما الإدراك اللمسي، وإما الشمّي، وإما الذوقيّ، وإما السمعيّ وهو ما نريد نحن أن نوسّع هذا المفهوم إليه: أي بين سمة حاضرة تحيل على سمة غائبة كانعكاس وجه على صفحة ماء، أو انعكاسه في مرآة...
إن التمييز بين المماثليّة التي تقوم على مبدأ التماثل بين الأشياء؛ بين الحاضر والغائب؛ وبين القرينة التي تقوم على مبدأ السببية، أو الشرطيّة: هو تمييز غير مقنع من الوجهة المنطقية حيث إن السببية يمكن أن تكون مبدأً تخضع لـه كلّ الأشياء في حدوثها. أي إنّ أي مماثل (Icone)، كيفما كان شأنه، يخضع هو أيضاً للسببيّة؛ مثله مثل القرينة (Indice)، حذْوَ النعل بالنعل.
من أجل كلّّّ ذلك نرى أنّ هذه النظريّة، كما كان قررها بيرس، لا تبرح مفتقرة إلى بلورة وتدقيق لكي تنهض باستقامة وكفاءة في مجال التطبيق الذي هو القدرة على كشف النقائض والعيوب التي تعتور النظريّة. وقد بدا لنا أن الذين جاءوا بعد بيرس، أمثال قريماس وكرستيفا، لم ينقدوا هذه النظرية فيضيفوا إليها شيئاً، وإنما تداولوها في كتبهم، وأشاعوها في أحاديثهم ومحاضراتهم على علاّتها دون تمحيص يذكر، فيشكر. فبالإضافة إلى إهمال الجانب التركيبيّ في متبدأ الكلام القائم على القرينة؛ فإن الشرطية الحدوثيّة التي وُضِعت، أساساً، في قيامه ليست مُجزّأة لكي نميّزه عن المماثل الذي وإن كان ينهض على مبدأ التماثل التام، (وهو المماثل التامّ)، أو الشبه التام، (وهو المماثل الناقص) [وهذا المصطلحان من إنشائنا] فإنّ المماثل يظلّ، هو أيضاً، في تصوّرنا نحن على الأقل، قائماً على شرطيّة وجود الأصل، ليحدث الفرع؛ أو طفور الحاضر، ليمثل الغائب في الذهن.
فذلك، إذاً، ذلك.
وهناك إجراء آخر ركّزنا عليه في تجربتنا التحليليّة لنص شناشيل ابنة الجلبي، ربما لأول مرة على هذا النحو من السَّعة والشمول؛ وهو الإجراء الذي يطلق عليه بيرس: (Indice)؛ إذ كان يميز بين ثلاثة مفاهيم متقاربة؛ بحيث يفضي إليها التداخل بسهولة؛ وهي، بالإضافة إلى المفهوم الذي ذكرناه:
(Symbole) أي الرمز، والمماثل الذي تحدثنا عنه في بعض هذه المقالة؛ فتلك إذاً ثلاثة إجراءات سيمائيّة بيرسيّة (نسبة إلى بيرس).
وقد عدنا إلى ما لدينا من المصادر والمراجع المتمحصة للسيمائية وتحليل الخطاب لننظر كيف ترجم مَن سبقونا هذا المفهوم؛ فألفينا عبد السلام المسدي يهمله، أصلاً، من قائمة مصطلحاته التي عقدها في خاتمة كتابه: "الأسلوبية والأسلوب"؛ على حين أن سعيد علوش ترجمه ترجمة في غاية السوء تحت لفظ: "المقياس"؛ وعرّفه على أنه: "حدث يدرك مباشرة؛ ويعرّفنا على شيء آخر غير ما هو. ويعني أيضاً نمط العلاقة التي تكون فيها العلاقة طبيعية لا عرفية بين الدال والمدلول" (26).
وهناك من النقاد العرب المعاصرين من قَدْ يصطنعه تحت مصطلح "المؤشّر" في حين أنّ هذا المؤشّر، في تمثّلنا، إنما يتمحّض لما يقابل
(L`indicateur)؛ إلى جانب كونه يدلّ على حركة مادية كحركة عقرب دالّ على وظيفة جهاز؛ فهو ترجمة سيئة إذاً لمفهوم: (L`indice). ويشيع هذا المفهوم في الإدارة الجزائرية تحت مصطلح "الاستدلال"؛ وقد يكون أمثل من المقياس على كلّّ حال. ونحن نجنح لترجمته بـ "القرينة".
وقد بدا لنا أن هذا المفهوم كان معروفاً لدى العرب؛ مجسّداً في الفكر اللسانياتي العامّ؛ ويبدو أنه كان متداولاً بينهم تحت مصطلح "العَلَم". و"العلم: رسم الثوب؛ وعلّمُهُ رقْمه (...). والمعلم: الأثر يُستدَلّ به على الطريق" (27).
والعلم لدى النحاة العرب هو ما دلّ بذاته على الماهية تارةً، وعلى الحاضر تارةً أخرى كأسامة (28) الذي هو علّم على جنس الأسد، وثعالة الذي هو علم على جنس الثعلب... فلمّا كان لكلِّ شيء دلالة على نفسه، أو على جنسه؛ فلمّ لا يكون الدخان، في المثال المشهور، في تعريف هذا المفهوم السيمائي ـ وهو "لا دخان بلا نار" ـ: علَماً للنار، والرعد علماً للمطر، والبرق علماً للرعد...؟
إننا نرى ـ ومع ميلنا في الوقت الراهن إلى استعمال مصطلح القرينة ـ أن مصطلح العلَم التراثيّ شديد الاقتدار على احتمال الدلالة التي نفخها بيرس في مصطلحه: (L`indice)؛ ولو بتقوية الدلالة العربية الجديدة وتوسعتها.
وقد جئنا بذلك لأننا نميل إلى الاعتقاد أن المصطلح الذي نصنعه في كتاباتنا الجديدة من الأمثل لـه أن يكون قَدْ ترعرع في البيئة الثقافية والحضارية العربية ليكون مسعانا العلميّ استمراراً لا انقطاعاً؛ على حين أن "المقياس"، و"المؤشر"، و"الاستدلال" لا صلة لهم بعلوم اللغة.
وقد كنّا رأينا، إلى جانب ما قررناه، أننا نجنح أيضاً لاصطناع مصطلح "القرينة" لنضارة هذا اللفظ العربيّ على ما ينوء به من حمولة بلاغيّة في بعض أصله.
وتعرّف السيمائية المعاصرة "القرينة" ـ أو العَلَم ـ بحسب قدرة الدلالة التي تكون للقرنَنَة (L`indication)؛ فتكون القرينة هي الفعل الذي يفضي إلى قَرْننة. وإذاً، فالعلاقة بين القرينة والشيء المُقَرْنَن ليست بسيطة. ومن المستبعَد أن تجتزئَ بتشكيل مجرد رباط مباشر بين العلاقة والواقع الوضعيّ؛ إذ لم تتأتَّ القرينة، هي أيضاً، إلاّ بواسطة الطابَع السلبيّ (29).
"إن القرينة تصنّف حدثاً ما (هنا مثلاً: ظهور دخان)؛ إذ لا دخان بلا نار؛ ويحتوي على مرجعيّة تحيل إلى عالم الخطاب إذ كانت النار هي التي تبثّ الدخان" (30).
وإذا سلّمنا، يقرر قريماس، انطلاقاً من تنظيرات دو سوسير اللسانياتية التي تنصُّ على أن إبعاد المرجعية ضرورة مسبقة لممارسة كلّ سمة لوظيفتها، فإنه علينا الاعتراف بأن القرينة تندرج ضمن مسلّمة (اللاّسمات" (31)
والحق أن شارل بيرس كان شديد الصرامة في تحديده لمفهوم القرينة (التي جعلها تتقابل مع المماثل من جهة، ومع الرمز من جهة أخرى)؛ إذ قصرها على تحديد علاقة تلاحم "طبيعية" مرتبطة بفعل تجربة لا يثيرها الإنسان (32).
في حين أنّنا نُلفي بريّطو لا يرى ضرورة للحد من غلواء استعمال مفهوم القرينة بحيث يجتهد في أن يتوسع في استعمالاته إلى أقصى الحدود الممكنة
(33).
وبعض ذلك ما جئناه نحن لدى اضطرارنا إلى التطبيق على نص السياب؛ فقد توسّعنا في مفهومي القرنية والمماثل معاً، توسعة ربما لم تخطر بخلد بيرس الذي لم يكن أديباً محللاً للخطاب الشعري؛ ولكنه كان منظراً منطقياً ورياضياتياً؛ ولا سواءٌ مفكّر يتمثل الأمور في مستواها النظريّ المحدود، وممارس متعامل يحتكّ بواقع النص وعطاءاته الجمالية والدلالية والانزياحية التي ليس لها من نفاد. فقد اعتورنا أطواراً كانت القرينة فيها ربما تتركّب من سيمائيات بصرية، وسمعية، ولمسية، وذوقية، وشمّية جميعاً؛ مع أن لا بيرس، ولا قريماس، ولا أصحاب قريماس؛ أومَضوا إلى إمكان تركيبيّة القرينة؛ على الرغم من أنهم كانوا أكّدوا تركيبية التشاكل...
على حين أن التحايز الذي قسناه على التشاكل والتباين والتماثل (وهو تبادل الحيز مع صنوه وظائف التفاعل والتداخل والتخاصب)؛ فإنما أخذناه من الحيز. والفرق بين الحيز، والحيززة، والتحايز تدلّ على خاصية كلّ بناء. فالحيز فضاء محايد يقع عليه كلّّ ما يمكن أن يقع في بابه دون ردّ فعل دلاليّ أو سيمائيّ منه. على حين أن الحيززة تكون بمنزلة جهاز لإنتاج الحيز؛ مثلها مثلُ المَماثَلَة التي اصطنعناها أيضاً لبعض هذه الغاية الإجرائية لتحليل الخطاب الشعري. وأما التحايز فهو، كما يدلّ عليه بناؤه، ليس مجرد جهاز لإفراز الأحياز الشعرية، ولكنه مظهر تفاعلي يستجيب لأيّ مظهر حيزيّ داخل الخطاب الشعري. ولكنه مظهر تفاعليّ يستجيب لأيّ مظهر حيزيّ داخل الخطاب الشعري فيقع التعامل معه على النحو الذي يقتضيه السياق.
ونحن ببعض ذلك لا نريد أن يكون الحيز مجرد مظهر سيمائيّ أخرس، أو محايد في نسج الخطاب؛ ولكننا نريد أن يكون لـه شأن من الدلالة والحركة السيمائية التي تحدد معالمه، وتضبط وظيفته التي يجب أن تجاوز الطور التقليديّ الذي ينهض على تصوّر مكان جامد شاحب إلى طور من السيمائية يسخّر اللوحات الخلفية لهذا الحيز من أجل منح هذا الخطاب أبعاداً دلالية جديدة تفضي به إلى التماسك اللسانياتيّ؛ وتجعله مقتدراً على الولوج في أعمق الأشياء وأدقّها؛ ما أمكن ذلك.
إن جهاز الحيْزَزة يحتاج إلى مراس طويل، وغلى مقدرة لسانياتية عالية، وإلى حسّ شعريّ متميّز؛ من أجل الذهاب في مضطرباتها إلى أبعد طاقاتها العطائية التي تفجّر الحيز فتجعله ذا قدرة على إفراز مظاهر المكان، وما يحوم من حول المكان الأدبيّ - لا الجغرافيّ - : سطحاً وعمقاً، وفضاءً وأرضاً. وإذا كان هذا الجهاز (34) لا يبرح مفتقراً إلى بلورة وتقعيد، وإلى تأصيل وتفريع؛ حتّى يستويَ لـه المنهج الذي يتخذ الصورة النهائية ليمكن الإفادة منه في تحليل الخطاب الأدبيّ؛ فإن ذلك لا يحظُر علينا أن نلج منذ الآن في مرحلة التطبيق.
ذلك، ونحن نميّز بين المجال، والمكان، والفضاء، والحيز الذي نؤثره من بين المصطلحات الأخرى فنتّخذه للمكان الأدبيّ خاصة. وقد كنا تحدثنا عن التفاريق التي تميّز هذه المصطلحات، في تمثلنا على الأقل، بعضَها عن بعض في مواطن أخرى؛ فلا مدعاة لتكرار ما قيل هناك، هنا...
* * * * *
وبعد هذه المقدمة المنهجية التي لم يكن منها بُدّ للتعريف بالمنهج الذي نسلكه؛ ثم التعريف بالمصطلحات التي اصطنعناها أدواتٍ لدى التحليل، نصل الآن إلى التطبيق على النص الأدبيّ الذي اخترناه، اعتباطاً، لبدر شاكر السياب؛ وهو: "شناشيل ابنة الجلبي"..
وستجري قراءتنا لهذا النص في ثلاثة من المستويات:
المستوى الأول: ويرتكز على التماس وجوه التشاكل والتباين في لغة الشعر العربيّ المعاصر من خلال أحد أكبر ممثّلي هذا الشعر.
المستوى الثاني: ويقوم على تقويم اللغة الشعرية لهذا النص في الشبكة الحيزية لمحاولة إفراز الأحياز فيه، أو من حوله؛ ثم لمحاولة منح الحيز الشعريّ شكلاً سيمائيّاً يثبت به من دلالته الجامدة إلى مجالات حيّة متفاعلة متجاوبة متخاصبة مع ما يجاورها، أو يكون لـه شأن بها.
المستوى الأخير: ويتمثّل فيه تحليل هذا النص الشعري من رؤية فنية وتقنية أيضاً قَدْ تكون الممارسة التطبيقية التي جرت عليها؛ على هذا النحو من التفصيل والتركيز؛ حدثت لأول مرة في العربية. ونريد بكلّ ذلك إلى الجهاز التقنيّ الذي سخّرناه لتأويل الألوان والمرئيات، والملموسات، والمشمومات، والمذوقات. وربما جاوزنا هذه المجالات إلى مماثلات وقرائن أخرى لم يطبّق عليها السيمائيون الغربيون؛ على النحو الذي قرأنا نحن عليه. وقد استنبطنا، خصوصاً، القرينة المركّبة التي لا تكون بصريّة فقط، أو سمعيّة فقط، أو لمسيّة فقط، أو شميّة فقط، أو ذوقيّة فقط؛ ولكن قَدْ تتخذ أطواراً مركّبة بحيث قَدْ تشتمل على كلّ هذه الأخلاط فتمنح النص أبعاداً دلالية خصبة ما كان لنستكشفها فيه لو لم نلتمس لـه هذا الجهاز الإجرائيّ الجديد.
كما توحّدت القراءة السيمائيّة حول محور واحد بالقياس إلى النص كله وهو الانتشارية؛ مع ما قَدْ يعتوره من انحصارية من حين إلى حين.
ذلك، وإنا قَدْ قطّعنا نص قصيدة شناشيل ابنة الجلبي تقطيعاً إجرائياً بلغ أحد عشر مقطعاً؛ وكلّ مقطع يتشكّل من جملة من وحدات القراءة أدناها ثلاثٌ،/ وأعلاها تِسعٌ.
ولكن لا ينبغي أن يفهَم من هذا التقطيع الذي مارسناه على النصّ وخرقنا، بذلك، به تقطيع نصّه نفسه أنه يعني مسوؤلية منهجية تنجرّ عنها أبعادٌ مضمونية تُؤْذي بناءها، وتشوّش على نسجها، جرّاء هذا التقطيع؛ فلم تكن نيتنا أن نرمي إلى ذلك؛ لأنّ النص كلّ مترابط، بل متراصّ يشتدّ بعضُه بعضاً، ويقوم على بعض؛ ولكن الذي أحاجنا إلى هذا التقطيع هو ما نعلم من تعود القارئ على تقسيمات تتيح لـه أن يتابع النشاط التحليليّ؛ مرحلةً، مرحلةً من النص؛ دون أن يكون ذلك بالضرورة، مما هو مفروض على الكاتب أو على القارئ جميعاً. فتلك المقاطع التي دأبنا على التعامل معها أثناء ممارسة التحليل إنما هي، في تمثلنا، مجرد وحدات قراءةٍ. فذلك، ذلك.
* * * *
هذه المقالة مقتبسة من كتاب: التحليل السيمّائيّ للخطاب الشعريّ [تحليل بالإجراء المستوياتيّ لقصيدة شناشيل ابنة الحلبيّ]" لعبد الملك مرتاض - منشورات اتحاد الكتاب العرب - 2005 - المدخل
الهوامش
(1) |
لقد سبق عمر بن مسعود بن ساعد المنذري المتوفّى عام 1160 للهجرة في كتابه "كشف الأسرار المخفية..." قريماس إلى الحديث عن مفهوم "التشاكل" واتّخاذه إجراءً منهجياً في تصنيف معاني الأشياء... انظر مجلة نزوى، ع 10، مسقط، 1994. |
(2) |
Greimas et Courtés, Dictionnaire de Sémiotique, Lecture. |
(4) |
يراجع جان كلود كوردان، التحليل السيميولوجي والأدب، ترجمة عبد الرحمن طنكول، في "دراسات سيميائية" ع 10، 1987. |
(5) |
محمد حسن آل ياسين، تحقيق شرح مشكل أبيات المتنبي لابن سيده، 9 10. |
(6) |
أحمد أمين، عبد السلام هارون، شرح ديوان حماسة أبي تمام، للمرزوقي، 11 ,1 15 (مقدمة). |
(7) |
Greimas et courtés, op. cit. |
(8) |
ألقاها بمدينة سكيكدة (الجزائر)، عام 1987، في ندوة "الأدب والثورة". |
(9) |
إشارة إلى قول امرئ القيس:
إذا قامتا تضوّع المسك منهما
نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل |
(10) |
M. Arrivé, La Sémiotique littéraire, in l`Ecole de Paris, P. 1310. |
(12) |
Ed. Gallimard, Paris, 1975 |
(14) |
Gremas et courtés, op, cit, p.197 –1990 |
(17) |
Dictionnaire de linguistique Isotopie. |
(18) |
Littérature, N 27, 1977, P. 104. |
(19) |
محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، ص 52. |
(20) |
Greimas Sémantique structurale, P. 19. |
(21) |
Greimas et courtés, op, cit. p. 100. |
(22) |
راجع الإحالة رقم: 1. |
(23) |
Greimas et Courtés, op. cit. Iconictité, p. 177. |
(24) |
Dictionnaire de linguistique, Icne, p. 248. |
(25) |
J. Martinet, Pour la sémiologie, p. 60 –61. |
(26) |
سعيد علوش، المصطلحات الأدبية المعاصرة، مطبوعات المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، 1984، ص 105. |
(27) |
ابن منظور، لسان العرب، علم. |
(28) |
ابن هشام، شذور الذهب، 1 138. |
(29) |
Dictionnaire de linguistique, Indice, p. 256. |
(31) |
Greimas et Courtés, op. Cit. Indice, p. 186. |