كتبت عام: 1978
289
الموقف من الزمن في الشعر العربي المعاصر
يقول بيتر شون في دراسة له عن بودلير: "إن تجربة بودلير فيما يتعلق بالزمن، ذات أهمية أصيلة لفهم شعره (في أزهار الشر) حتى ليمكن أن يقال أنها مفتاح لفهم ذلك الشعر"، وأكاد لا أتردد في أن أقول مثل هذا القول نفسه في كل شاعر من أصحاب الشعر الحر، أعني الذين استطاعوا منهم أن يحفروا عميقا في مجرى التيار الشعري، فإن موقف كل منهم من الزمن هو الذي يعطي شعره سمة فارقة، ويحدد صلته بالحداثة، ويقرر مدى انتمائه وطبيعة ذلك الانتماء.
ذلك أنه لا خلاف - اليوم - حول أهمية "الزمن" في تيارات الأدب الحديث - على المستوى العام - لا في الشعر وحده، ولعل خير ما يصور هذه الأهمية، لا عدد البحوث الفلسفية التي كتبت في هذا الموضوع وحسب، وفي طليعتها بحوث برجسون وهيدجر، بل بتلون النتاج الأدبي منذ بروست وجيمس جويس وفرجينيا وولف بما لفكرة الزمن من قيمة في القصة الطويلة، وبهذه الدراسات الكثيرة التي كتبت حول إبراز الدور الذي "يلعبه" الزمن في مختلف الفنون الأدبية وفي نتاج عدد كبير من الأدباء، وبعيدا عن الدخول في المنعرجات الفكرية حول الموضوع، أحب أن أضع هنا بعض الحقائق الأولية:
1 - أن هناك فرقا في تصور الزمن بين الجماعات البدائية وبين الجماعات التي تعيش في ظل الحضارة، فالزمن للبدائي "ميثولوجي" أو شعائري أي أنه ربما كان منعدما، أما الزمن بالنسبة للمتحضر فإنه "تاريخي" لأنه شيء يمكن قياسه والتعامل معه.
2 - أن هناك فرقا في تصور الزمن بين الحضارات القديمة والحضارة الأوروبية الحديثة، فالحضارات القديمة تستطيع التغاضي عن الزمن، بينما تصر الحضارة الأوروبية على وجوده، وتربط الثقافة والحياة ربطا محكما به.
3 - وبناء على الملحوظة يمكن القول أن الحضارة الإسلامية (حسب تصوري) كانت ترى الزمن دورات - محدودة الأمد - يتخللها نظرة رجوعية إلى الماضي، بينما تذهب الحضارة الأوروبية إلى أن الزمن تيار مستمر، وخاصة منذ أن ارتبطت في القرن التاسع عشر بفكرة التقدم أو التطور التي تعني استمرار السير قدما، دون معوقات من النظرة إلى الوراء، فإذا تحدثنا عن التطور أو التحول فإنما نستعير تصور الحضارة الأوروبية للزمن.
4 - أن هناك فرقا أساسيا بين رؤية برجسون للزمن، وما حاوله بروست في التطبيق الأدبي، فبينا يرى برجسون أن الزمن الذي يمثل تجربة نوعية - لا كمية حين يكون زمنا مسقطا على المكان أو المسافة - لا بد أن يستعاد لا متقطعا على أنه لحظات عاشها المرء، وإنما لا بد من بعث الروابط التي تصل بين تلك اللحظات، بينما حاول بروست، بعث تلك اللحظات في الماضي دون أن يعبأ بإقامة صلة زمنية بينها.
5 - أن "الزمن" ظل حتى مطلع هذا القرن يقف في أحد اعتبارين: فأما هو حقيقة واقعية خارجية، وأما هو حقيقة ذاتية يتضاءل وجودها الخارجي المستقل. ولكن في سنة 1908 صرح العالم الرياضي هرمان منكوسكي بقوله: "بعد اليوم يتضاءل الزمن وحده، أو المسافة وحدها، ولن يحفظ عليهما وجودهما إلا نوع من الوحدة بينهما"، وهكذا أصبح ارتباط الزمن بالمكان - أو بالمسافة - في أدب القرن العشرين، وتحول أحدهما إلى الآخر، أمرا ضروريا.
6 - أنه مهما يبلغ الإنسان من تطور، فلا بد أن يظل الصراع مستمرا بين زمن تاريخي واقعي وزمن لا نهائي - يسمى الخلود -، (أو على الأقل، نوع من الانبعاث المتجدد) حتى يبلغ الإنسان مرحلة يعتبر الموت فيها جزءا ضروريا من الحياة.
من هذه الملاحظات الأولية يمكن أن ننطلق إلى محاكمة نماذج من الشعر الحديث - من حيث صلتها بالزمن - ولما لم تكن هذه الدراسة معنية بالإحاطة الشمولية، فإنه لا بد من الاقتصار على أمثلة محددة، وليكن أول هذه الأمثلة شعر خليل حاوي:
ابتداء من نهر الرماد حتى بيادر الجوع يطالعنا خليل بنوع متشابه من المكان - أو المسافة - فنحن حينا في نهر الرماد (انعدام الحركة) أو في جوف الحوت أو في الكهف، أو في عصر الجليد أو في القبر (لعازر) أو في الرحلة الثامنة (لا حركة لأنها رؤيا) ومعنى ذلك أننا في موقف محدد من الزمن، فهو يكاد ينعدم تماما في (الكهف) أو يتحرك حركة خفيفة، وهو ساكن واقف في لعازر "سمر اللحظة عمرا سرمديا" أو هو لحظات خاطفة لا تلبث أن تمحي "عمره عمر الغجر، عمره ثانية عبر الثواني" وهو بالنسبة للحبيبة في قصيدة "وجوه السندباد" قد توقف عند نقطة معينة - ذاتية - لأن الحبيبة نفسها لا تستطيع أن تتجاوزها، حرصا منها على أن تشيح بوجهها عن التغير الحقيقي الذي أحدثه مرور الزمن:
غِبْتَ عنِّي،
والثواني مَرِضَتْ،
ماتَتْ على قلبي،
فما دَارَ النَّهارْ،
... ليلُنَا في الأرْزِ من دهرٍ تُراهُ
أم تُراهُ البارحهْ؟
ومع أن هذا "التجميد" للماضي انتصار على الزمن وتشبث بالبقاء، ببقاء اللحظة الجميلة، عند المحبوبة، فإنه ليس إلا وهما في نظر المحب، ولا مخرج من هذا الوهم إلا انتصار حقيقي، لا يتم دون ولادة طفل، فإنه هو الحقيقة الوحيدة التي تستطيع أن تنتصر على الزمن:
ويمرُّ العُمرُ مهزومًا
ويَعْوي عنْد رِجلَيهِ
ورِجْلَيْنا الزمانْ
يقابل هذا الزمن الماضي الذي "تجمد" عند اللحظة الجميلة في نظر المحبوبة، زمن آخر متجمد، هو الحاضر، الذي يتمثل أحيانا في تحجره كأنه لا يسير:
وعرفتُ كيف تمطُّ أَرجلها الدقائقُ
كيف تجمد، تستحيل إلى عصورْ
وغدوتُ كهفًا في كهوف الشطِّ
يدمغ جبهتي
ليلٌ تحجَّر في الصخورْ
ذلك لأن الإنسان إنما يعيش حاضره في كهف، كهف نفسه أو كهف الواقع، وأن هذا الكهف نفسه هو جوف الحوت، ومع أن الظلمة ترين على أرجائه فإن الشاعر يعبر عن ضجره من استمرار الضوء - بعض الضوء - ويصرخ: "ومتى يحتضر الضوء المقيت"، لأنه ليس ضوءا منقذا قادرا على تبديد تلك الظلمة الشاملة، فهو يعلم يقينا أنه في جوف الحوت، في جو جحيمي السعير:
في مداه لا غدٌ يُشرِقُ،
لا أمسٌ يفوت
غيرَ آنٍ ناءَ كالصَّخر على دنيا تموتْ
ولهذا فإنه حين يحاول أن يتشبث بالماضي يشك في حقيقة ذلك الماضي: أتراه يوما نضيرا معافى؟ لقد محا ثقل الحاضر كل شيء، ولم تبق إلا احساسات ثقيلة بجهامة الحاضر، وثقل وطأته:
كلُّ ما أعْرفه أنِّي أموتْ
مُضغَةً تافهةً في جوف حوتْ
ولكن الشاعر يستطيع رغم كآبة الحاضر وضياع الماضي أن يمد جسرا إلى المستقبل، ومرة أخرى يعود الأطفال إلى الصورة، فهم الذين يمدونه بالقوة على أن لا يخاف زحف الجليد من جديد،
أن لي جمرا وخمرا
ولي أطفال أترابي
ولي في حبهم خمر وزاد
من حصاد الحقل عندي ما كفاني
وكفاني أن لي عيد الحصاد
وحين وجد الشاعر - من خلال الأزمة الذاتية - هذا الجسر، اتسعت لديه طبيعة الرؤيا، فإذا هو في "الرحلة الثامنة" يتذكر أخطاء الماضي ليتطهر منها، مادا بعينيه إلى المستقبل، وفي فمه "بشارة":
وسوف يأْتي زمنٌ أَحتضنُ
الأرضَ وأَجلو صدرَها
وأَمسَحُ الحدودْ
وأصبح إيمانه بالتجدد، بالبعث، طريقه إلى قهر الزمن، والتغلب على الموت. وإذا كان في "لعازر 1962" قد عاد إلى التشبث بالموت - رغبة في الموت نفسه - فإنما كان ذلك كذلك لأن القصيدة لا بد أن تقرأ على ضوء أزمة تاريخية مرت بها الأمة العربية، والسنة المقترنة باسم لعازر (1962) تشير بوضوح إلى تلك الأزمة، واليها يومئ خليل حين يقول في مقدمة القصيدة مخاطبا لعازر "لئن كنت وجه المناضل الذي انهار أمس، فأنت الوجه الغالب على واقع جيل، بل واقع أجيال يبتلى فيها القوي الخير بالمحال، فيتحول أبلى نقيضه، ويتقمص الخضر طبيعة التنين الجلاد والفاسق وتكون المذلة مصدر تعاظمه". إن النفور من العودة إلى الحياة في القصيدة - أو الاستسلام الكلي للزمن - لهو صورة مرحلية لا تمثل عمق التفاؤل بالبعث وبعودة المنقذ في شعر خليل.
وقد كان من الممكن أن نستشرف هذا التغير في موقف الشاعر من الزمن، منذ أول قصيدة في الديوان، وهي قصيدة "البحار والدرويش" فإن الدرويش يمثل الحقيقة الثابتة التي تتحدى الزمن والموت، وبكوخه يستريح التوأمان: "الله والدهر والسحيق"، وهو الذي شهد - في حالة خلوده - تتابع الحضارات، وفعل الزمن "ذلك الطفل - الغول الذي تلده الثواني"، بينما هو - أي الدرويش - قابع في ضفة "الكنج"، شاهد لا تمتد إليه يد الفناء، وأما البحار الذي يرمز إلى الشاعر المسافر، فإنه يعانق الأشياء الزائلة، يموت مع الطين الموات، وقد ماتت منارات الطريق بعينيه، وفي سياق ذلك الخلاص من قبضة الزمن، نجد - في النهاية - أن البحار اتحد بالدرويش أو كاد، وأعلن - بالبحث والتجدد - انتصاره على الزمن، وإذا لم يستطع أن يكون هو "الخضر" فإنه - على الأقل - لم يعد فريسة "للتنين".
من ذلك يتضح أن الاتجاه الشعري عند خليل حاوي لن يفهم على حقيقته إلا عندما يتضح موقفه من الزمن، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه يؤثر أن يتحدث عن الزمن بمصطلح المسافة، فيعبر عن بطئه وركوده بمثل "الجليد" أو "صحراء الكلس" كما يعبر عن حيويته بمثل "غناء الرؤيا" و"رعشة البرق"... أدركنا أننا إزاء شاعر يتميز بوعي دقيق لهذا التزاوج الضروري بين الزمن والمسافة.
وتكاد لا ترى أن خليل حاوي - رغم تعلقه بالأم - يتحدث كثيرا عن الماضي، ويحلم كثيرا بالعودة إليه، ورغم إيمانه بجمال الطفولة، فإنه لا يعدها ملاذا وحمى، وهو في هذا يفارق - مثلا - شاعرا مثل السياب، عاش طول حياته يحلم بالطفولة والعودة إلى الأم، ويجد في الماضي عزاء عن الحاضر، بل هو يزخرف الماضي لأن في ذلك التمويه تعويضا عن قسوة الحاضر، ولهذا كان موقف السياب من الزمن - ومن ثم من الموت - مختلفا عن ذلك الذي اتبعه خليل، وبسبب تعرض السياب لتحولات مختلفة في نظرته الفكرية تجد لديه مواقف مختلفة، فهو في قصائده التي سميتها "الكهفيات" يقترب من خليل في تصوره نفسه ميتا يبعث، رامزا بذلك إلى بعث الأمة العربية، وذلك هو ما غلب عليه في عهد اتجاهه القومي، ولعل قصيدته "في المغرب العربي" خير مثال على ذلك، وفيها يتخيل أنه ميت -مع موت المجد العربي والحضارة العربية - إلا أن هذا الموت، سيستفيق ولا بد لأنه، لا يمكن أن يحيا دون الماضي، فهما يهبان معا من القبر:
ومن آجُرَّةٍ حمراء ماثلةٍ على حفرهْ
أضاء ملامح الأرضِ
بلا ومض
دمٌ فيها، فسماها
لتأخذ منه معناها
لأعرف أنها أرضي
لأعرف أنها بعضي
لأعرف أنها ماضيَّ، لا أحياه لولاها
وأنّي ميّتٌ لولاه، أمشي بين موتاها
وهذا البعث، يتغلغل أيضا في ثنايا قصائده التي قالها وهو يشهد - مقاوما - حركة المد الشيوعي في العراق، فقد أعتمد فيها اللجوء إلى أسطورة أدونيس وعشتار، وكان يستمد من الأسطورتين وأمثالهما شعوره بأن الخصب لا بد أن يخلف الجدب، وأن التضحيات لن تذهب سدى. ولكن للسياب - إذا شئنا الإيجاز - موقفين آخرين من قضية الموت - والزمن - أحدهما إلى نظرته للدمار الكلي قد يعم العالم بسبب القنبلة الذرية، وهذا هو ما تعبر عنه قصائد متعددة تمتد من أقصى تطور تقني في "رؤيا فوكاي" إلى أخيلة القروي الذي يتصور الموت ثعلبا والناس "دجاج القرى" - هي تحديقة الشاعر المباشرة في حقيقة الموت، متمثلة في سذاجة الشاعر وثقافته حين يصبح التمييز بينهما أمرا غير ضروري، والثاني هو في مواجهته موته الذاتي، يطل عليه من خلال المرض المزمن، وفي هذا الموقف اليائس يصبح الإنسان مترددا بين العودة إلى الطفولة والأم والقرية، ليحس بالنجاة المؤقتة من مخلب الموت، وبين استدعاء الموت نفسه لأنه - فيما قد يبدو - أهون من مكابدة المرض. ويدرك الشاعر أن العودة للطفولة مستحيلة:
وهيهات! ما للصِّبى من رجوعِ.
إن ماضيَّ قبري وإني قَبْرُ ماضيَّ:
موتٌ يمدُّ الحياةَ الحزينةْ؟
أم حياةٌ تمد الرَّدى بالدموع؟
ولهذا فهو يصرخ مستدعيا الموت:
منطرحًا أصيح، أنهش الحجار:
«أريد أن أموت يا إله!»
بل أنه حين يعود إلى الطفولة، إلى القرية، يحس بالتغير - أي بفعل الزمن، ولهذا فإنه يتساءل حائرا:
جيكورُ … ماذا؟ أنمشي نحن في الزَّمَنِ
أم أنه الماشي
ونحن فيه وقوفٌ؟
أين أوله؟
وأين آخرُه؟
هل مرَّ أطوَله،
أم مرَّ أقصره الممتدُّ في الشَّجَنِ،
وليس يوازي تجربة السياب - في الشعر الحديث - تجربة أخرى، تريد أن تحيي الماضي -ماضي الطفولة –
طفولتي، صباي، أين … أين كلُّ ذاك؟
أين حياة لا يحدُّ من طريقها الطويل سور
كشر عن بوَّابة كأعين الشباك
تفضي إلى القبور؟
كما تحاول أن تعد الزمن، سنة سنة، "عشر سنين سرتها إليك" و "ثلاثون انقضت" ...إلخ، أن السياب يقف في التجربة - تجربة الزمن والموت - شاعرا متفردا، لأنه كان حالة متفردة. إنه لا يتفلسف كثيرا حول المشكلة، وإنما كان يعيشها. ومهما يكن من شيء، فإن الزمن عند خليل (طفل-غول) ، ربما كان مخيفا ولكنه رغم شكله المخيف ما يزال طفلا، كما أن الزمن عند السياب "ثعلب" - يصطاد دجاج القرى، وقد يكون في شكل آخر أكثر إخافة، ولكنه حقا لا يبلغ صورته المخيفة عند نازك، التي تراه في صور مخيفة مقيتة فهو حينا "الأفعوان" الذي يسد كل الدروب، مطاردا، خانقا كل شيء، يقتفي الخطوات، ويتجسد في كل اتجاه، حتى أنه ليغلق كل باب للفرار،
ذلك الغولُ أيّ انعتاقْ
من ظلال يَديهِ على جبهتي الباردهْ
أين أنجو وأهدابُهُ الحاقدهْ
في طريقي تصبُّ غداً ميّتاً لا يُطاقْ؟
***
أين أمشي؟ وأيُّ انحناءْ
يُغلِقُ البابَ دون عدوّي المُريب
إنّه يتحدّى الرجاءْ
ويقهقهُ سخريّة من وجومي الرهيبْ
إنه لا يُحسُّ البكاءْ
أين .. أينَ أغيبْ
هَرَبي المستمرُّ الرتيبْ
لم يَعُدْ يستجيبْ
لنداءِ ارتياعي وفيم صُراخُ النداءْ؟
وهو حينا سمكة ميتة، تكبر وتكبر، لتحول بين المحبين، وتنذرهما بالافتراق،
ومشينا لكنّ الحركه
ظلت تتبعنا، والسمكه
تكبر تكبر
حتى عادت في حضن الموجة كالعملاق
وصرخت: رفيقي أي طريق
يحمينا من هذا المخلوق؟
لنعد، فالدرب يضيق يضيق
والظلمة محكمة الإغلاق
ومن ثم تختلف نازك في موقفها إزاء الزمن - من خليل حاوي والسياب - فهي ترى في الزمن قوة جبارة مطاردة، والإنسان يحاول أن يهرب منها، ولكنه لا يملك أن ينجو، أو لا يكاد يملك ذلك. وليس الأفعوان أو السمكة آو السحلاة، رموزا لقوة متميزة، مستقلة بذاتها تمثل وجودا في مقابل الوجود الإنساني، يقوم بينها وبين الوجود الإنساني صراع مستمر، وتكون الغلبة لها في كل جولة، وما الإنسان بالنسبة لها إلا كيان ضعيف، يحاول أن ينجو، ويتلمس كل سبب للنجاة دون أن يستطيع ذلك، وقد تكون "السمكة" في بعض حالاتها رمزا لانبعاث الماضي حيا، وحيلولته بين المحبين، ولكن تضخم السمكة - رغم موتها - يدل على أن هذا الماضي يستطيع أن يستغرق الحاضر والمستقبل، وأن ينشر رعبه على نحو كلي، فلا يعود محددا بآن واحد.
ونازك على وعي بهذا الذي تتحدث عنه، وليست رموزها للزمن - القوة الجبارة - عفوية، ففي مقدمة ديوانها "قرارة الموجة" حديث صريح عن ذلك، حين تتخيل نفسها تتحدث إلى أخرى - إلى القرينة التي جردتها من ذاتها - حول فكرة الزمن نفسها، وفي أثناء هذه المحاورة تقول: "إني لا أخاف الزمن، إني أسأمه وحسب"، وتقر أن السمكة رمز للزمن - أي الفراق بين الصديقين - وتذهب إلى أن فراق "عشرة أشهر" - مثلا - يجعل من المستحيل على الأصدقاء أن يعودوا أصدقاء، لأن كلا منهم قد تغير ولم يعد هو نفسه، ليحس إزاء الآخر بمثل ما كان يحس به من قبل، وهذا هو ما تعنيه بـالشخص الثاني:
الشخص الثاني، من أعماقِ شهور التيه المطموره
حاكته دقائق تلك الأيّامِ الجانيةِ المغروره
وترّسبَ في عينيهِ تثاقُلُها ورؤاها المذعوره
وما دام الأمر كذلك، فإن المحبين بعد أي فراق مهما يكن قصيرا - أي بعد خضوعهما لفعل الزمن - لا يكونان هما المحبين اللذين كانا من قبل، وسينكر أحدهما الآخر، وفي هذا عذاب متجدد، لأن الصورة التي تكونت عند أول لقاء، أي اللحظة الزمنية المليئة بالإيحاءات، قد امحت، ولا يمكن استعادتها.
ومن ثم تجد نازك نفسها تنتقل من الفكرة الميتافيزيقية للزمن، من حيث هو قوة منفصلة تصارع الآدميين، إلى تصور الواقع الزمني في مراحله الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل، وأكثر ما يغلب على تصورها أن الماضي ميت، وأن المستقبل كذلك ميت. وكيف يمكن لقوة ميتة في الماضي وفي المستقبل، أن تكون مخيفة إلى الحد الذي تتصوره الشاعرة، وحقيقة الأمر أن هنا فرقا بين الزمن حين يكون - في الخارج - قوة مجردة، وبين الزمن حين يكون علاقة انسانية، فهو في الحال الثانية يمكن أن يكون حيا أو ميتا، مليئا أو فارغا بسبب إحساس الإنسان به، أما في الحالة الأولى، فإنه صورة من الموت، ولذا فإنه قوة لا يستطاع التمرس بها.
والأمس في شعر نازك - في أغلب المواقف - ميت "جثة الماضي الغريق"، لا يمكن إحياؤه أو بعثه، والتعبير عن موته يتخذ صورا مختلفة، ويتكرر في مواقف متعددة، ونادرا ما ينتقض موت الماضي بعودته إلى الحياة أو بالعودة إلى الطفولة، وفي قصيدتين متقاربتي التاريخ (1) تعبر نازك تعبيرين مختلفين عن هذا الماضي، في أولاهما تصور الخوف الرهيب من الزمن - ومن الموت - وتحاول أن تتخذ فكرة تحجبها عن عيون السنين، وأن تشير إلى موضع قائم في المدى المرتمي محجوبا بالظلال، حيث يتم العبور إلى موطن لا يستطيع الزمان البليد أن يصل إليه، إلى عالم حافل بالوعود، ولكنه ليس الأمس:
سنمحو الزّمانْ
وننسى المكانْ
هناك ونُقسمُ ألاّ نعودْ
إلى أمسِنا المنطوي
سِرْ بنا!
ومع إن التعبير عن هذا الموضع مقترن بالاستقبال (سنعبر، سنحيا، سنمحو) فإن الزمن المنقذ ليس هو المستقبل أو الغد، وفي القصيدة الثانية حلم - أو محاولة حلم - بالعودة إلى الطفولة، والمسير إلى الأمس:
سنحلم أنا نسير الأمس لا للغد
ومع ثقل الأمس وتجهمه ومحاولة الهرب منه، فإنه يبدو أخف وقعا من الغد ذلك المجهول المطلق، ولذلك فإن أهداب الأفعوان واقفة بالمرصاد تصب "غدا ميتا لا يطاق". كما أن انتظار الغد يعني مواجهة القبور التي "تمد إلينا بأذرعها الباردة" ولهذا فإن النجاة من الاثنين - الماضي والمستقبل - إنما يتم باللجوء إلى دائرة "اللازمان"، وهي الدائرة التي تسميها الشاعرة "يوتوبيا" منطقة يتعطل فيها حكم الزمن، وتتخذ صفة الكمال والخلود، ولكن الشاعرة تتصور يوتوبيا هذه على ألوان فمرة تراها عالما يموت فيه الضياء، ومرة عالما يبقى فيه الضياء ولا تغرب الشمس، ومرة ثالثة حيث ديانا (ربة القمر) تسوق الضياء، ولكن الصفة الثابتة لها أنها أفق أزلي لا يدركه الفناء.
وبين الأمس الميت والغد الرهيب يقع الحاضر، وهو في الغالب يمثل الفراغ، والزمن فيه بطيء العبور، تتمطى دقائقه تمطيا، ولذلك يوصف الزمن هنا بأنه بليد، وتمثل "الساعة" آلة بغيضة بلهاء، لأنها مقترنة بعد الدقائق البطيئة:
دقت الساعة في الظلمة تسعا ثم عشرا/ تململت الساعة الباردة على البرج/ لم وأنا أصغي وأعد دقائقها القلقات،
ويمكن التغلب على حركة الانتظار هذه بمشاهدة المتحركات في الزمن، كالقطار مثلا حيث يشكو الآخرون البطء "هذي العقارب لا تسير" ويتساءلون: كم مر من هذا المساء متى الوصول؟ / وتدق ساعته ثلاثا في ذهول/ فإن مراقبة هذه المتحركات تأمل في زمن الاخرين، وتخفيف من ثقل الانتظار. كما يمكن التغلب على هذا الحاضر بالسير المستمر في المكان - دون وصول - (لأن الوصول يعني الموت) والسير في مكان يتجاهل فيه عامل الزمن ينقذ من العودة التي سيكشف للأعين أن كل شيء مررنا به وخلفناه وراءنا قد تغير:
لماذا نعود
أليس هناك مكان وراء الوجود
نظل إليه نسير
ولا نستطيع الوصول
مكان بعيد يقود إليه طريق طويل
يظل يسير يسير
ولا ينتهي
غير أن هذا المكان غير موجود، مثله مثل يوتوبيا، ولذلك كان لا بد من العودة والمرور بالمتغيرات التي تحول الأمكنة إلي أمكنة أخرى والشخصي إلى شخص ثان، وذلك يعني التعايش مع أشياء لم تؤلف من قبل، ومع أن هذا التجدد كان يمكن أن يخلق بهجة متجددة، فإنه عند الشاعرة نذير بالسأم والضيق، مثله مثل الركود الزمني، لا يخلق سوى الإحساس بالضجر، وللضجر في شعر نازك صور مختلفة، توازي التعبيرات المتعددة عن بطء الزمن، وعن الإحساس بالفراغ، وليس التعبير عن "البطء" من أجل التأمل في الزمن، أو للاستسلام للحلم، وإنما هو صورة لاستثقال الحاضر والفزع من الآتي. ويجدر بنا أن نتأمل هنا في موقفين أحدهما: تجسيد الزمن في صورة قوة خارقة، قوة تكاد تكون مرئية، هائلة في قدرتها على المطاردة، وسد جميع المنافذ والدروب، والثاني: الزمن البليد البطيء المتثاقل الذي تتشابه لحظاته في رتابتها، بحيث لا تعنى الشاعرة أبدا بالإمساك بأية "لحظة" مفردة فيه واستدامته والاحتفاظ بها، وهاتان الحالتان يمثلهما الرمزان الكبيران: الأفعوان الذي يرمز إلى الجبروت والمطاردة، والسمكة الميتة التي تكبر وتتضخم رغم موتها، وهي ترمز - بحركتها - إلى بلادة الزمن، وتثاقله، وهذا الزمن - في حاليه - في صراع مستمر مع الحب، ولا تكافؤ، لأن الحب دائما خاضع له أو منهزم، بل أنه في بعض الحالات يقتل الحب بخلق العداوة، والبغض، وأحداث التغير في الناس والأشياء.
وينحسر هذا الظل المديد الذي يمثله الزمن في شعر نازك - انحسارا غير قليل - في ديوانها "شجرة القمر"، وسر ذلك أنها اكتشفت التعويض عنه بالفن، وإلى هذا ترمز قصيدتها "شجرة القمر" نفسها، فهي مبنية على قصة طفل كان يحلم أن يصيد القمر، فلما تحقق حلمه ثار الناس عليه يريدون استرجاع قمرهم، فما كان من الطفل إلا أن زرع القمر، واستنبت منه شجرة تتدلى من أغصانها أقمار فضية، ثم رد القمر الأصلي إلى السماء، فالقمر عند نازك يرمز إلى الطبيعة (وهو في الوقت نفسه صورة للزمن)، والطفل هو الفنان، والشجرة هي فنه المستمد من الطبيعة، المستقل عنها في آن معا، وبه وجد الطفل (الفنان) رضى عوضه عن الطبيعة والزمن كذلك، وتقول نازك أنها استعارت الأسطورة - دون رموزها - من قطعة شعرية إنكليزية مما يكتب للأطفال، ولعلها لو لم تقرأها هنالك لخلقت مثلها، فإن رغبة الطفل في صيد النجم (أو القمر) موجودة في شعرها من قبل، وإنما كانت تلك الرغبة بحاجة إلى تطوير:
وأفقنا وانتهى الشيءُ الذي خِلْناهُ حبّا
وتبقّتْ حولنا الذكرى التي تَسْخَرُ منّا،
من خيالاتِ صغيرَيْنِ بدا نجمٌ فظنّا
أنَّ في وسعهما أن يُمسكاهُ فاشرأبّا
لحظةً، ثم تهاوى السُلَّمُ،
في بُرودٍ، وتلاشى الحلمُ
فهذا النجم الذي كان "الطفلان" يريدان صيده هو "الحب" وكان صيده وهما تلاشى من بعد، ولكن هذا النجم حينما أصبح "فنا" استطاع الطفل أن يحوزه، وأن يخلق مثله، وبانتقال الصراع من دائرتي الزمن والحب إلى الصراع بين الزمن والفن، تضاءلت قوة الزمن، لأن الفن يكفل الخلود والرضى والطمأنينة. بل الأمر أكثر من ذلك وأبعد دلالة، فقد كان الحب رابطة بين اثنين، معرضة للاهتزاز وللانفصام، وكان الزمن زمنهما، الخاص بهما (أو بالشاعرة وحدها) أما الفن فإنه استطاع أن يرضي الذات (وبالتالي سيرضي الآخرين) كما أن إرجاع القمر (الطبيعة - الزمن) إلى الناس كان يعني اعترافا بأن لهم حق المشاركة فيما كان يحبه الفنان (أو يخاف منه)، ومن هنا تتفتح المشاعر الذاتية على الآخرين، وتأخذ في تحسس مشكلاتهم وقضاياهم على نحو أرحب، وبتعاطف أشد، ومن هنا أيضا يشرب الخوف من الزمن (ومن الموت) في غمار المشاركة الجماعية، وذلك ما ينبئ عنه التطور - الموضوعي - الذي شهده شعر نازك.
وحين يحاول الدارس أن يحدد فكرة أدونيس عن الزمن - من شعره - تواجهه عقبات كثيرة، منها أن الشاعر أكثر من استعمال الفعل المضارع، وأعيا أن تلك الصيغة لا ترتبط بزمن محدد - في اللغة العربية - فحين يقول:
في عالمٍ يلبسُ وجهَ الموتْ
لا لغةٌ تعبرُهُ لا صوتْ -
(تُولدُ) عيناهُ
يدرك أن لفظة "تولد" تعني هنا الديمومة، وكذلك هو قوله:
بين الصدى والنداءِ (يختبئُ)
تحت صقيعِ الحروفِ (يختبئُ)
بل انه حين يستعمل الصيغ التي تدل على المستقبل (سأسافر في موجة في جناح/ سأزور العصور التي هجرتنا/ والسماء الهلامية السابعة) فإن الناحية الزمنية تتضاءل إلى جانب الإرادة، التي قد تحقق وجودها أيضا في لا زمن، أو قد تجيء المقطوعة مفرغة من كل دلالة زمنية، خالية من أية صيغة فعلية، مثل قوله:
خرساءَ أو مخنوقةَ الحروفِ
أو لا صوتْ
أو لغةً تحت أنينِ الأرضْ،
أغنيتي للموتْ
للفرحِ المريضِ في الأشياءِ للأشياءْ
أغنيتي للرفضِ
يا كلماتِ الرعبِ والدواءْ
يا كلماتِ الداءْ
بل كثيرا ما تكون صوره الزمنية غير ذات دلالة على الزمن، ففي قوله يخاطب أبا نواس:
تائهٌ والنهارُ حولك دهرٌ من الدِّمَنْ
شاعرٌ كيف يَشرئبُّ
على وجهِكَ الزَّمَنْ
نجد أن أبا نواس في "حضور" لا علاقة له بالماضي، والحديث عن النهار الذي هو دهر من الدمن إيماء إلى الشعر المثقل بوصف الأطلال، واتباعية التراث، والتعبير عن "الزمن الذي يشرئب" إشارة إلى ولادة الثورة التجديدية - على يد أبي نواس - فاستعمال ألفاظ "النها " و "الدهر" و "الزمن" واهي الصلة بحقائق الزمن، فالزمن - وخاصة الماضي - لا يحمل قيمة في ذاته، وإنما القيمة الكبرى للإنسان - الشاعر، فإنه هو الحقيقة التي تبدأ منها الحقائق، ذاهبة في تيارها المستقبلي،
يولد في عيني معنى الضحى
تبدأ من نفسي كل الدروب
ومن ثم يغدو أمس الشاعر "غدا"، وينعدم وجود الأمس، ويصبح الموت صديقا، وتصبح ثانية الشاعر بما يملؤها من حيوية وإبداع وألق سنوات، إن الزمن قد يكون عدوا للطاغية، مثلا، لا للشاعر، ولهذا فإن الطاغية يحس أن علاقته بالزمن طغيان متبادل:
زمن يجري، زمن يهرب مثل الماء
وأنا أجري
كل نهار سكين في أحشائي
والليل حراب،
ومن ثم نجد أن بعض أقنعة (2) الشاعر تستعصي على الموت، فزيد بن الحسين يقتل ويصلب ثم يحرق وينثر رماد جثته فوق الماء، ولكنه لم يمت لأنه ظل رمزا حيا إلى الأبد.
الجسم يصاعد في رماد
مهاجر كالغيمة الخفيفة
والرأس وحي نار
عن زمن الغيوب والثورة والثوار
يقرؤه السياف للخليفة؟
ومهيار: يأمر تيمور الطاغية بتعذيبه ثم يقطع جسده إلى أجزاء صغيرة ترمى في جب للأسود ويفصل رأسه عن جسمه، ولكنه يظل هو "النفس المزروع في رئة الحياة"، ويظل رأسه يتحدث عن موته الذي كان "فوهة الزمان، كان الوعد والمجيء" وعن جسده الذي سار أمامه:
أزمنة، مدائنا
تواكب النهر
مسرحها بضفتين: الحب والبشر
وحين توحد بالأرض والكون والموت والزمن صار هو "المدى والمدار"، أو هو الحقيقة المطلقة، بل لعله أكبر من كل ذلك.
ليس للزمن وجود ذاتي متميز عن أدونيس، وإنما هو مجال، ساحة لدينامية الإنسان، امتداد، أهم ما يعكسه حركة الإنسان في داخله وأحيانا في خارجه - ولهذا بدلا من أن يركز نظره في الزمن، وإحساسه الكلي في تقلباته وتجسداته، كما تفعل نازك التي تسمع وقع خطى الأيام، وتحس دبيب أقدام الليل، فإنه لا يحاول أن يرى سوى الصيرورة المستمرة، وحياة التحولات في أقاليم الليل والنهار، أن أدونيس لا يبحث عن زمن ضائع - كما فعل بروست - وإنما يلاحق زمنا لم يولد بعد، بل أن قولنا "لم يولد بعد" مجاز، لأن الإنسان متحد به، وهو في صيرورته المستمرة يرسم له أبعاده.
وحسبنا هنا أن نعرض مثالا واحدا يصور هذه الصيرورة - قناعا آخر من أقنعة أدونيس - بعيدا بعض الشيء عن "تأله" مهيار، وقدرته على توجيه الحياة الإنسانية، وعن تكييف الإنسان - بقدرة يسميها الناس خارقة - مثالا يتحرك في التاريخ، ويمثل الإرادة الإنسانية كما يمثل تواضع الإنسان، وليكن هذا المثال هو "صقر قريش" - عبد الرحمن الداخل - الذي لم يكن دوره التاريخي - فكيف بالرمزي - دورا عاديا عابرا.
الصقر يعاني أزمة الزمان والمكان: مختبئ يرى ما يحل بأهله من قتل وصلب، وتنقسم مشاعره بين تذكر قريش وأمجادها، وبين التفكير في النجاة، والزمن يضيق:
وكأنّ النهارْ
حجرٌ يثقبُ الحياةْ
وكأنّ النهارْ
عرَباتٌ من الدمع
والمكان يضيق، وفارس الموقف كله الموت
والموتُ يسرجُ أفراسَهُ،
والذبيحَهْ
بجعٌ يتخبّط
ويريد فسحة، يريد عونا من الفرات، يريد من الطريق أن يتسع "والطريق يدحرج أهواله ويضيق"، ولكنه يهيب بالمكان أن يتسع، "افتحي يا برادي مصاريع أبوابك الصدئات" ومع ذلك فإنه استطاع أن يسير في أرض "أضيق من ظل رمحه". مشكلة الصقر الكبرى أنه ليس شاعرا، لا يعرف أن يغير الفصول، لا يستطيع أن ينقذ أخاه الطفل، لا يستطيع أن يدجن الغرابة، أن يغير الآجال، أن أشياء كثيرة ستحدث دون أن يستطيع الصقر التدخل في مجراها، لأنه ليس شاعرا، ولكنه في النهاية "يرفع في وله الصبوة والإشراق/ أندلس الأعماق".
وعند هذا الحد ينتهي الصقر التاريخي ليبدأ الرمز، وتبدأ من ثم تحولات الصقر،: كانت هناك أصوات تنادي الصقر أن يرجع، ولكنها هدأت، وتضاءل صوت الماضي، لكنه لم يتضاءل في الواقع لأن الصلة بالماضي قوية، ويحاول الصقر أن يشدد من عزيمته ليقتل الماضي،
طاغٍ، أدحرجُ تاريخي وأذبحهُ
على يديَّ، وأحييهِ،
ولي زمنٌ أقودُه،ُ وصباحاتٌ أُعذّبها
أُعطي لي الليل، أعطيها السرابَ، ولي
ظلٌّ ملأتْ به أرضي
يطولُ، يرى، يخضرُّ، يحرقُ ماضيه ويحترقُ
ولكن صورة دمشق (حبيبة أدونيس) لا يستطيع الصقر أن ينعتق منها بسهولة، ولهذا فإنه يعيش لحظات طويلة، مشدودا إلى هذا الماضي الدمشقي، الذي ينتهي بـ "عفوك يا دمشق"... وهو تردد بين الرثاء والتحطيم، وحين يصعد الصقر - الشاعر إلى أبراج الموت، يمحي الصقر، ويبرز أدونيس، ليعيش لحظات مترددا بين انتماء إلى دمشق الماضي أو القدرة على التحول، ويعاوده الحنين إلى الحضارة القديمة، فيلم ببغداد، ليلقي بالزمن:
ألزمنُ اخضرَّ، نما، وطالْ
أورقَ في الجدران والحصونْ
ألزمن الأنهارُ والتلالْ
والزمنُ العيونْ:
قاماتُ أشجارٍ ربيعيّهْ
في غابةِ الروحِ الفراتيّهْ...
وليقرأ الشواهد التي كتبت على قبر الصقر (الشاعر)، وليفيد منها أن قوة الموت كانت قد استطاعت التغلب على الصقر، فإن زوجة فقيرة كانت على وشك أن تعلن ولادة، صقر جديد،
وقيلَ: كانت زوجةٌ فقيرهْ
هنا وراء التلة الصغيره
حُبلى،
وبين الليل والنهارْ
في الصمتِ،
في التمزّقِ المضيءْ،
تنتظرُ الطفلَ الذي يجيءْ.
إن هذه القصيدة التي تعد من أكثر قصائد أدونيس واقعية، تصور حقيقة التحول على شكل صراع بين الماضي والمستقبل، وميزتها الكبرى أنها تنصف الماضي ولا تهزأ من علاقاته، ولا تحاول الاستخفاف به أو التهوين من قيمته، وإذا كان الانعتاق من الماضي ضروريا فإنها تصور صعوبة ذلك الانعتاق، وهو شيء يجب أن لا نعده موقفا رومنطقيا، فإنه نابع من شخصية الصقر نفسه الذي كان يقول رغم ما حققه من طموح ومجد، مخاطبا النخلة: "يا نخل أنت غريبة مثلي"، وإذا لم تكن هذه الغربة إنسانية، فماذا تكون؟ هي غربة علها أصدق بكثير من حديث رأس "مهيار" في حقيقة الواقع الإنساني.
وللزمن في شعر محمود درويش قصة أخرى، ربما راقه أن يعود إلى الماضي متمثلا في الطفولة، إلا أنها ليست عودة وإنما هي استكشاف:
وأثير جسمك..
تولد اليونان..
تنتشر الأغاني ..
يسترجع الزيتون خضرته ..
يمر البرق في وطني علانيةً
و يكتشف الطفولة عاشقانِ..
بل إن هذا الاكتشاف لا يكون إلا في حالة دون أخرى، ذلك لأن سمات الطفولة لا تتغير، ليس الطفل أباً للرجل (كما يقول وردزورث) وإنما الطفل هو الرجل، ففي الطفولة كان الطفل "صغيرا وجميلا، كانت الوردة داره والينابيع بحاره"، ثم إن الوردة هي التي تغيرت فصارت جرحا، والينابيع هي التي تغيرت فصارت ظمأ، أما الطفل فلم يتغير كثيرا، ظل "صغيرا وجميلا" واستطاع أن يحول الوردة إلى نخلة والينابيع إلى عرق، إن الأشياء تكبر حقا، فتلقي ظلالها على الطفولة، حتى تخيل للناظر أن الطفولة تجاوزت عهدها، ولكن بشيء قليل من التأمل تتضح الحقيقة.
وهذا الطفل لا يخشى الزمن، إنه يأخذه بيديه كأنه دمية (ربما كانت دمية متفجرة وهو لا يدري، ولكنه يحبسها كالخرز الملون) يداعبها "كأمير يلاطف حصانا":
إني أحتفل اليوم
بمرور يوم على اليوم السابق
وأحتفل غدا بمرور يومين على الأمس
وأشرب نخب الأمس
ذكرى اليوم القادم
وهكذا أواصل حياتي (3)
وفي هذه "المداعبة" يتضح التمويه، فالزمن قد لا يكون مرعبا للطفل، ولكن هذا الطفل الذي كبر أخذ يحس بثقل أيامه، ويحاول تزجيتها على نحو من المعاناة التي تتطلب - رغم عد الأيام - شيئا من النسيان، ولكن هذا النسيان غير متأت لارتباط الماضي بالحاضر ارتباطا وثيقا حتى أنه "حين أحيا الذكرى الأربعين لمدينة عكا أجهش بالبكاء على غرناطة". المشكلة - إذن - أن الطفل يحاول ألا يكبر فيستكشف أن الذاكرة كبرت واتسعت، وأنه رغما عن التشبث بثبات الزمن على حال لا تتغير، يجد أن الزمن يمتد في بعد آخر، في اتجاه جديد، وتمتلئ الذاكرة بالذكريات، وهو يحاول أن يتخلص منها فلا يزداد منها إلا قربا:
من كل نافذة رميت الذكريات كقشرة البطيخ
واستلقيت في الشفق المحاذي للصنوبر (تلمع الأمطار
من بلد بعيد، تقطف الفتيات خوفا غامضا)
والذكريات تمر مثل البرق في لحمي، وترجعني إليك
إليك. أن الموت مثل الذكريات كلاهما يمشي إليك.
يكاد يكون من المستحيل الثورة على الذاكرة لا لأن الذكريات أحيانا تكون "هوية الغرباء" وحسب، بل لأن الزمن "يضاجع الذكرى وينجب لاجئين".
ها هنا مشكلة تبحث عن حل: هل يكون هذا الحل في الامتداد الجغرافي؟ لقد جربه "عبد الله" - صديق الشاعر - فماذا حدث؟:
كان عبدُ الله حقلا وظهيرهْ
يُحسن العزفَ على الموّال،
والموالُ يمتدُّ إلى بغداد شرقاً
وإلى الشام شمالاً
وينادي في الجزيرهْ.
..............
يقفز الموال من دائرة الظل الصغيرهْ
ثم يمتدّ إلى صنعاء شرقاً
وإلى حمص شمالاً
و ينادي في الجزيرهْ
ولكن هذا الامتداد لم ينقذ عبد الله "وتدلى رأس عبد الله/ في عز الظهيرة" لنبحث إذن عن حل آخر، لعله في التشبث بالحاضر والدخول في لفظة "الآن" دخولا لا منفذ له:
وأنا لا أحزن الآن
ولكني أُغني
أي جسم لا يكون الآن صوتاً
أيُّ حزن
لا يضمّ الكرة الأرضية الآن
إلى صدر المغني؟!
الآن؟ الآن؟.، بل لعله الخروج من الجلد ومبارحة شيخوخة المكان، ولكنه كلما فعل ذلك لم يجد "غير وجهه القديم الذي تركه على منديل أمه"، بل لعله الخروج خارج جدار الزمن والاستنامة إلى نوع جديد من الموت:
وبودّي لو أموت
خارجَ العالم.. في زوبعة مندثرهْ
ولكنه يعجز عن ذلك لأنه اتحد بالمحبوبة - الأرض - الأم وانتشر على جسمها كالقمح، كأسباب بقائه ورحيله، وهي تنتشر في جسمه كالشهوة، مستحيل أن يحقق ذلك: إنها تحتل ذاكرته كالغزاة، تحتل دماغه كالضوء، ما أقسى تلك المحبوبة! ليتها تقول له مرة واحدة "انتهى حبنا" لكي يصبح قادرا (لا على النسيان) بل على الموت والرحيل، ليتها تصبح زوجة له "ليعرف الخيانة مرة واحدة"، اتحاد الشاعر بالمكان هو سر صلابته أمام الموت، أمام الزمن، مثلما هو في الوقت نفسه سبب الوجد والعذاب المبرح، وحين يبتعد عن المحبوبة قليلا يجد الزمن متحيزا متشخصا، فإذا عاد إلى اتحاده بها فقد الزمن ووجد هويته. وإذن فإن الحل - إن كان ثمة من حل - هو في التمسك بالصلابة والمقاومة حتى النهاية، فإنها وحدها القادرة على خلق الاستحالة المتجددة، وفي كل خروج من مسامير العذاب بحث مستأنف عن "شكل جديد لوجه الحبيب"، وعلى مرأى من الزمن نفسه يستطيع المحب أن يهدي إلى تلك المحبوبة ذاكرته، أن يتحدث عن تلك الاستحالة المتجددة، وأن يمزج ذكرياته، بذكرياتها، ورغم أن الطفل في هذا الموقف أحس بأنه قد كبر، وكبر المساء، وكبر الرحيل، وأصبحت المحبوبة "غزالا سابحا في حقل دم" فإنه وجد بين يديها الولادة الجديدة:
والموت مرحلة بدأناها
وضاع الموت
ضاع...
في ضجة الميلاد
فامتدي من الوادي إلى سبب الرحيل
جسما على الآوتار يركض
كالغزال المستحيل.
هل بعد ذلك كله يهم أن نجد الزمن مقياسا؟ بعد قليل، بعد عام... بعد عامين،... ما الفرق؟ أننا - بدلا من ذلك - بحاجة إلى مقياس للمكان حتى لو فعلنا كما فعل سرحان الذي "يقيس الحقول بغلاته".
هذه خمسة نماذج لتصور العلاقة بين الشاعر الحديث والزمن (والموت)، وفي تفرد كل نموذج منها بخصائص ومميزات فارقة، ترتسم سمة واضحة تتخذ علامة على موقف إنساني يميز اتجاها عن آخر، ولا ريب في أن مزيدا من الأمثلة يستطيع أن يوسع من حدود الافتراق والتلاقي بين الشعراء حول هذا الموضوع، غير أنه لا يفوتنا أن نلحظ مدى التفاوت الذي تم - حتى في هذا النطاق المحدود - بين زمن رومنطيقي خالص (وأحيانا ميتافيزيقي) كما هو الحال عند نازك والسياب، وبين زمن قائم على الصيرورة المستمرة، يفعل فيه الإنسان ويتفاعل به، ويقف محمود درويش في مرحلة بينهما، وإن كان - مع الزمن - قد أخذ يقترب من الثاني.
هذه المقالة مقتبسة من كتاب "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" لإحسان عباس - سلسلة كتب عالم المعرفة - عدد فبراير 1978 - الفصل الرابع: الموقف من الزمن
الهوامش
(1) | هما قصيدة أول الطريق وقصيدة دعوة إلى الأحلام والأولى بتاريخ 8-4-1948 والثانية بتاريخ 28-9-1948. |
(2) | القناع رمز تاريخي - في أكثر الأحيان - يرمز للشاعر، أو يحمله الشاعر نظراته في الفن والتضحية والمبادئ. |
(3) | هذه القطعة لا تعتمد إيقاعا منتظما، ولكنها ذات قيمة في الدلالة على نظرة الشاعر إلى الزمن. |
اقتباسات من هذه المقالة
التبليغ عن خطأ
هل أنت متأكد أنك تريد حذف هذه المقالة
بحالة حذفها فإنك ستخسر جميع الإحصائيات المتعلقة بها.
أضف شاعراً مذكوراً بالمقالة
أضف قصيدة مشار إليها بالمقالة