كتبت عام: 2022
223
شعريات مصابة بعدوى التماهي
تحظى ظاهرة تشابه النصوص الشعرية منذ القدم، بقدر هائل من الاهتمام ضمن سياق البحث عن تأويل موضوعي لدلالاتها. وبالنظر إلى ما تتميز به من حضور قوي عبر تتالي المدارس والمذاهب والتيارات، التي تميزت بها العصور الأدبية، فإنها كانت ولا تزال، موضوع مقاربات علمية اتخذت لها مسارات جد متعددة، انسجاما مع تعدد مرجعياتها النظرية، وأيضا انسجاما مع خصوصية نصوصها، كي يمتد بين ما يصطلح عليه ب "المعارضة"، و"التناص" تاريخ طويل من التأويل الذي تستحضر فيه كل المقومات الفكرية والجمالية، الكفيلة بتسليط ما يكفي من الضوء على إشكالاتها، دون إغفال أحكام القيمة ذات البعد الأخلاقي، التي لا تتردد في حشرها ضمن خانة السرقات. ولعل أول ما يمكن إثارته في هذا الصدد، هو هاجس الهدم الذي كانت مسكونة به الذائقة الجديدة، تجاه بنية موروث شعري استطاع بقوة ما لازمه من سلط متعالية، أن يكرس هيمنته المطلقة على القول الشعري، منذ العصر الجاهلي إلى منتصف القرن الماضي. والهدم المسكوت عنه الذي نحن معنيون به في هذا السياق، ينصب أساسا على الأزمنة الاستبدادية، التي عانى ويعاني من لعنتها الإنسان العربي، على امتداد قرون وقرون، من حجرها الفكري والإنساني، باسم ثوابت لا يجوز له الطعن في مصداقيتها. حيث لم يكن النقد الموجه لعمود القصيدة التراثية، سوى ذريعة فنية وجمالية لمهاجمة كل ما يدور في فلك السلط الرسمية من قيم وعادات، بمختلف تجلياتها ومظاهرها. وبالنظر إلى المكانة الاعتبارية التي يحتلها الشعر في الذاكرة العربية، بوصفه أصلا راسخا من الأصول المركزية التي تتميز به الهوية، فسيكون من الطبيعي استهدافه من قبل الحركات التجديدية المتطلعة إلى استشراف آفاق أكثر تحررا وأكثر تقدما، ومستجيبة لآمال وأماني الإنسان الجديد. بهذا المعنى سيكون القطع مع التراث الشعري القديم، في حد ذاته قطعا رمزيا مع كل مظاهر البؤس والتخلف التي تسهر الأنظمة التقليدية على تعميمها، وإدامة هيمنتها وسيطرتها على العباد. ومن هذا المنطلق تحديدا، اكتسبت القصيدة العربية الحديثة طابعها الإيديولوجي بصورة جد تلقائية، انعكس بشكل مباشر على مضامينها المنتصرة للإنسان، والمتمردة على كل ما يتعرض إليه من تجاوزات قمعية واستغلالية.
وإذا ما نحن سلمنا بأن هذا البعد التثويري، كان من بين أهم مقومات الحركة التحديثية التي تميزت بها حركة الشعر العربي المعاصر، فسيكون من الطبيعي أن يأخذ شكل ميثاق يتقيد به الشاعر المطالب مبدئيا بالوفاء والإخلاص لضمير شعبه، المتطلع إلى قيم الحرية والعدالة والتغيير. وكما هو معلوم، فإن مسار الثورة على الإرث الشعري القديم، كان يتجه عبر خطين متوازيين ومتكاملين في آن، يتمحور أحدهما حول الشكل، حيث تم التخلص من سلطة وحدة البيت والقافية، فيما يتمحور الخط الثاني، حول ملحاحية القطع مع المضامين التقليدية، مقابل التبني اللامشروط لقيم التغيير والثورة، التي تجد تعبيرها في مجموع مقومات التحديث .
والملاحظ أن هذا الإبدال الذي استهدف ثنائية الشكل والمضمون في صيغتها التقليدية، لم يلبث هو أيضا، أن تحول مع الزمن، إلى أيقونة ثابتة الملامح والسمات، رغم تعدد طبعاتها من المحيط إلى الخليج، مع استثناءات جد معدودة تمكنت من تكريس فرادتها، على أساس حظوة انتمائها العقدي، أو ممارستها التنظيرية المتميزة، كي نخلص في نهاية المطاف، إلى التواجد داخل مشهد شعري، مؤطر ببنيات شعرية مشتركة، أحادية البعد، ومنمنمة في نفس الآن، باستثناءات جد رمزية، من شأنها الإيحاء بتعدد وتنوع مشاربه ومساراته.
ومن الواضح أن مفهوم الثورة المحايث للحركية التحديثية، المجبولة في جوهرها على التماهي مع نماذجها المتفردة والأساسية، يبدو هنا جد ملتبس، حيث يمكن حصره في إجراءات ذات طبيعة إسقاطية، مسكونة أولا وأخيرا، بالأمل في تغيير الواقع، حيث يكتفي الشعر بممارسة دور المرآة التي ينتشي فيها برؤية ملامحه الجديدة. علما بأن الثورة على الواقع في هذا السياق تعتبر نسبية، لأنها سجينة ثنائية غائمة، لم تتضح ملامحها المعرفية بما فيه الكفاية، وهي ثنائية الشكل والمضمون، حيث ترسخت فكرة هدم أسسها، بوصفها إنجازا تاريخيا على درجة كبيرة من الأهمية. لكن الملاحظ أن هذا الطموح حالما توصل إلى إنجاز بعض وظائفه، لم يعد ثمة ما يمكن هدمه من جديد. فبالنظر إلى التضخم الملموس الذي رافق سؤال الهدم، فإنه أثر سلبا على إمكانية الوعي بما قد يكون أكثر أهمية، ما أدى "ويؤدي" إلى تأجيل ما يستوجب ترجيح غاية البناء والتشييد، خاصة حينما تكون الذات مأخوذة كلية بأمل هدم قرون طويلة من كوابيس التسلط، والهيمنة البئيسة. علما بأن إشكالية الهدم في السياق الذي نحن بصدده، تنهض أساسا على أرضية الوازع الجماعي، وليس انطلاقا من قناعات ذاتية وفردية، وهو على العموم وازع دخيل وغريب عن أية ممارسة شعرية وإبداعية مستوفية لشروطها.
فالإجماع على جدوى الهدم المشترك للشيء، يلغي حتما إمكانية الإقرار بأهمية الحضور الشخصي للمشروع. وهو حضور فعلي يصعب تجاوزه، أو التقليل من أهميته على حساب الانسياق مع فكرة التقديس الأعمى لتعاليم سلطة الحشود. وبالتالي، فإن هيمنة مقولة الإجماع، تعني الغياب العملي لأي مشروع ذاتي مفكر فيه، مقابل السيطرة الملموسة لمشروع الهدم، والتي ستظل بدورها مؤجلة، بالنظر لحتمية الاصطدام بعائق الحمولة القاصمة التي يتميز بها عبء الموروث، الحافل بكل أصناف المقدسات، التي لا تلبث أن تعلن عن ظهورها، كلما توهمنا أنها شارفت على نهايتها وزوالها. وأيضا بالنظر لغياب الاستعداد المعرفي الكفيل لمساءلة ومحاورة مكونات هذا الإرث، ما يؤثر سلبا على إمكانية بلورة مقاربات مقنعة من حيث موضوعية إوالياتها المعرفية والمنهجية. مع التذكير بأن إنجاز المشاريع الجماعية والمشتركة، يتطلب توافر شرط السلاسة والمرونة التي تتعارض مع جوهر شعرية التأمل. وذلك هو السر في تمحور المشترك حول الجزئي والثانوي، بوصفهما الحد الأدنى من مستويات التعاقد المنصوص عليه بين الفاعلين، الشيء الذي يقلص من عمق واستمرارية مردودية هذه المشاريع ككل، مهما كانت مندرجة في سياقها، البراغماتي والوظيفي. إلا أنها ومع ذلك، تتميز بمكانتها الخاصة، مقارنة بمشاريع الإبداعات الفردية، التي تظل من وجهة النظر الجماعية، محض انزياحات شخصية، مفرطة في ذاتيتها، لا أقل ولا أكثر. ما يضعها خارج نطاق ما هو مندرج عادة في خانة "المشاريع التغييرية"، الموجهة عادة بمقولة الصالح العام، دون إيلاء أي اهتمام لخصوصيتها الإبداعية.
وهنا تحديدا، يمكن التركيز على المحنة التحديثية، التي تتورط في مضايقها التجارب الهاربة من رتابة التشابه التقليدي، حيث تقع في ورطة رتابة مضاعفة، قوامها اجتراحاتها المشتركة للمسارات الأكثر نأيا عن متوقع القراءة، انطلاقا من إصرارها على توسيع هوة القطيعة الفاصلة بينها وبين التجارب المهتمة أساسا بمغازلة حماس الجماهير، وإرضاء تطلعاته. بمعنى أننا والحالة هذه، ننتقل تلقائيا من حيز تشابهي مؤطر بمقوماته التقليدية، إلى حيز يبدو من حيث الظاهر مغايرا، عدا أنه مؤطر سلفا بمقومات التشابه والتماثل الحداثي. وفي الحالتين معا، يختفي مفهوم الاختلاف الذي به فقط تتأسس حركية الإبداع الشعري، باعتبار أن الجهل بقوانينها، لا يمكن إلا أن يؤدي إلى هذا التسيب العارم الملاحظ في القول، والمستبد ببؤس تماهياته على فضاءات مشهد، أمسى شبيها بمنتزه الببغاوات الخبيرة بترديد ما شئت من إيقاعات المواويل القديمة والحديثة.
،
التبليغ عن خطأ
هل أنت متأكد أنك تريد حذف هذه المقالة
بحالة حذفها فإنك ستخسر جميع الإحصائيات المتعلقة بها.
أضف شاعراً مذكوراً بالمقالة
أضف قصيدة مشار إليها بالمقالة