عين الشعر الرائية - رشيد المومني | القصيدة.كوم

كتبت عام: 2022


173



عين الشعر الرائية


تتموضع مقاربتنا لإشكالية المرئي، ضمن منهجية واضحة ومحددة، تتمحور حول الدور المركزي الذي تحتله الرؤية في تحديد مسالك الكتابة الشعرية، وتوجيه حركيتها. وهي منهجية تعتبر الشاعر الذي لا يحظى برؤية كائناته المتفاعلة تحت ناظريه في هيئة حروف وكلمات، غالبا ما يكون بصدد كتابة لغو آخر غير الشعر. والقصد من الرؤية هنا، تلك الطاقة الاستثنائية التي توظفها الكتابة الشعرية في مشاهدتها العينية لما يتواجد في مساراتها من أشكال، ومن أجساد، وحالات، وأحوال. وإذا ما نحن اعتبرنا أن عين الشعر، هي امتداد جمالي ومعرفي للعين المجردة، من جهة اشتراكهما معا في خاصية تمييزهما الفيزيائي لهوية الشيء، إلا أنها/العين لا تلبث - في جانب آخر- أن تؤكد استقلاليتها بوظيفة جد جوهرية، تتجاوز حدود التمييز البصري للشيء، إلى مستوى انتقالها به من سياقه الواقعي والطبيعي، إلى سياقه الشعري، المتميز بترميزيته التخييلية. فالنهر الواقعي- على سبيل المثال لا الحصر- الذي تترقرق مياهه الآن أمامك، لا يلبث أن يغير منبعه ومصبه ومجراه، حالما يصبح موضوعا لاشتغال عين الكتابة. أي حالما تكتشف فيه هذه العين ما يجعله جديرا بالتموضع داخل جمالية فضائها، حيث تلتقطه أصابعها اللامرئية، كي تؤثث به ذلك المكان الذي أعدته له بما يكفي من فائق عنايتها. فامتياز الاكتشاف هنا بسماته الانتقائية والتعيينية، هو القيمة المضافة والاستثنائية التي تتفرد به عين الكتابة.

إنها تمنح النهر حياتين متوازيتين، لكل منهما مسارها الخاص بها. يمتد أحدهما هناك على أرضية الواقع، حيث تقف أنت. بينما يتواجد الآخر هنا، على بياض صفحة الكتابة الملقاة تحت ناظريك. ولعل هذه الحياة المزدوجة التي أمست الآن في ملكية النهر بفضل انتقاء عين الكتابة له، هو ما يرتقى به من زمنه الطبيعي، وحتى الهيرقليطي -إن صح القول- إلى أفق الأبدية، حيث لم يعد مجرد نهر يكتفي بتوزيع نعمة تدفقه على محيطه، أو على زواره القادمين إليه -بفعل الصدفة- من أمكنة قريبة أو بعيدة، بل أمسى فضلا عن ذاك، أيقونة شعرية يتجدد معينها الدلالي، بتجدد ما يتردد عليها من اغتسالات. ونفس الشيء ينطبق على ضفتيه، وكذلك على السماء التي تتأمل وجهها الآن في صفاء مرآته من أعلى أعاليها. كما ينطبق على ما يحيط به من أشجار، قد تكون مثقلة بأعشاش البوم، أو بأعشاش طيور لا علم لي بتاريخ هجرتها.

فعين الشعر قد تعبر العالم طولا وعرضا، فقط بغية التقاط صور لنزوات الشرارات الحارقة، أو رؤية الكائنات التي لا تني قبضة الظلام الحديدية تطمس ما لم يتشكل بعد من ملامحها. رؤية ما يحدث داخل الدائرة، خارج القوس، بين زاوية المكعب، وفي غيرها من باقي الزوايا التي تضج بها نوايا المكر الهندسي. رؤية ما يلوح خلسة بين الشمسين. ما يتقلب بين ضوء الفردوس ولهب الجحيم. حيث ما من شيء ثمة أو هنا، إلا وهو معروض و مرئي، تحت عين الكتابة، كما تحت عين القراءة.

وغني عن الذكر، أن عناصر الوجود المرئية بعين الشعر، لا تندرج جميعها بالضرورة ضمن ثنائية "واقع أصلي"، ينتهي به المطاف في "متخيل شعري". بل وعكس ذلك، يمكن معاينتها مباشرة على مستوى هذا المتخيل، دون أي وسيط مرجعي يتمتع بحضوره القبلي والموضوعي تحت سماء الواقع.

وفي سياق تركيزنا على هذه المعاينة المباشرة لما يحدث على سطح مرايا المتخيل الشعري، وفي قعرها أيضا، سيكون من الضروري التذكير من جديد، بوجوب استيفاء تقنية معاينتها هاته، لكافة المقومات التي تتميز بها الرؤية البصرية الفعلية والواقعية، من حيث قوة الصفاء، وجاذبية السفور. وفي ذلك دليل على ديناميتها، وقابليتها الجمالية لإشاعة ما يكفي من الضوء في فضاء الكتابة، الذي بقوته تكتسب العناصر شعرية وشرعية وجودها، منزاحة بذلك عن ركاكة التصفيف الكلامي المثقل بحشوده المعجمية، المفتقرة إلى الحد الأدنى من الحياة.

طبعا نحن لم نستند في عرض الخطوط العريضة لهذه القناعة، على شهادات شعراء محتملين، حدسنا بتفاعل نصوصهم مع قوانينها، بل كان منطلقنا نابعا من جدوى الاستئناس بمصاحبات خاصة، لنصوص أساسية من الديوان الكوني، والتي تشعر القراءة بأن العوالم المنتظمة طي بنياتها التعبيرية، هي نتاج امتلاك الكتابة لرؤية شعرية، معززة بمقوماتها البصرية، التي تواكب بها فتنة انبجاس كائناتها من عمق بؤرة الرؤيا.

وعموما، لا يتعلق الأمر في الكتابة الشعرية بتقصي أثر "اللامرئي"، بوصفه إشكالا فلسفيا على درجة كبيرة من الأهمية، بقدر ما يتعلق بمنظور هذه الكتابة للعالم، باعتباره مرئيا ومتجليا أمام أبصارها، بكل ما يصطخب فيه من علامات وعلاقات، خاصة حينما تكون محظوظة بامتلاكها لمجموع تلك العيون الأسطورية، المتحركة في كافة الاتجاهات، سواء كانت ممكنة أو مستحيلة.

بهذا المعنى يصح القول، إن النظر الحسير، هو وحده الذي يعاني من محنة الاصطدام بحاجز اللامرئي، عكس عين الكتابة الشعرية، الخبيرة بأسرار تفكيكه، وبجمالية الكشف عما يبدو جاهزا للإعلان عن حضوره، وعن تجليه. طبعا، ليس من منطلق مغادرته لدائرة اللامرئي باتجاه مجال المرئي، بل فقط، من منطلق استجابته لإشارة الرؤية الشعرية كي يكون في مرمى بصرها. والتأكيد هنا على سياق الإشارة الذي يحسم في جمالية تجلي المرئي، مرده إلى أن الرؤية الشعرية لا تكون قابلة للتفاعل في كل وقت وحين، خاصة إذا ما نحن سلمنا سلفا بأنها نهاية مطاف البحث عن التتويج المنتظر والمؤمل لسيرورة طويلة، مركبة ومتداخلة. سيرورة تحول تلك العوامل التي يتعذر على أية مقاربة علمية، أنتروبولوجية، أو سيكولوجية، أن تدعي إلمامها بآلية اشتغالها، وبالشروط المؤثرة في نضج واكتمال ما يتخللها من مقومات. إنها وبفعل هذه العوامل الغامضة، وغير القابلة لأي تسطيح تنظيري وتفسيري متسرع، تباغت الذات الشاعرة من حيث لا تحتسب، كي تلتقط -على حين غرة- ذلك الانقلاب اللامنتظر، الذي يطال جماع حواسها ومشاعرها، والمجسد في ارتفاع منسوب قابليتها للرؤية والمشاهدة، حيث تتسع دائرة الضوء والإضاءة، لتستقطب ما لم يكن من قبل قابلا للظهور، وللانبلاج، والتجلي.

كذاك هو "المرئي" المقيم في دفء كمونه، والمتربص باللحظة الملائمة التي يمكن أن تضعه خلسة على خشبة مسرح الرؤية والرؤيا. وسيكون من الضروري في هذا السياق، التذكير بأن كائناته هنا، وانطلاقا من خصوصيتها الشعرية، ليست معنية بالتماهي مع أشباهها الحاضرة قبليا على مستوى الواقع المعيش. ذلك أنها لا تشبه سوى ذاتها المتروكة لمواجهة مصائر لا قبل للشبيه وللنظير باقتفاء أثرها، المحفوف بمكائد العصر وأهواله، سواء في دياجير اليقظة، أو في كوابيس الحلم .





.




الآراء (0)